**عائشة سلطان
( ثقافات )
صدر عن دار “ورق” للنشر والتوزيع رواية “عشيق المترجم”، وهي الخامسة للكاتب الكردي – السوري جان دوست، بعد أربع مجموعات شعرية، ونحو سبعة كتب مترجمة من الكردية إلى العربية والعكس.
رواية دوست الجديدة يمكن اعتبارها بحق، رواية ثقافة التسامح بامتياز، الرواية تضيء على الحالة الثقافية في حلب وسميرنة وإنطاكيا، باعتبارها – بعد الآستانة-، من أهم حواضر السلطنة العثمانية في مطالع القرن الثامن عشر حتى نهايته، وذلك من خلال رصد حياة أسرة شركسية مركبة دينيا وعرقيا ، كما تقدم الرواية نماذج من الشخصيات المميزة باعتدالها وقبولها للآخر المختلف، حيث تمكن الكاتب بحرفية أدبية وروائية عالية، ومن دون أدنى إفتعال، أو حشو من إقناعنا أن طبيعة الإنفتاح على ثقافة التسامح في ذلك الزمان – أو في زمان الرواية – لم تكن حكراً على أهل النخبة من التجار والرهبان والشيوخ أو السياسيين فقط، وإنما أقنعنا أيضاُ بأنها ثقافة أصيلة لدى العامة، حيث نجد مقام “الولي حبيب النجار” يرتاده أصحاب الحاجات من المسلمين والمسيحيين واليهود على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، فالجميع يأتيه مكدوداً حائراً، ويغادره راضياً مرضيا، كذلك نجد أن سارة تذهب بولدها الوحيد قبل سفره إلى الكنيسة لتضيء الشموع للعذراء والمسيح راجية من الله أن يحفظ ولدها في غربته .
لواقح العقول
أما الراهب بولس فبدى في مجمل سلوكه على مدى الرواية، بدءاً من التقرب والاهتمام بالناس على مختلف معتقداتهم، مروراً بالمشاركة في مجالس الشيوخ من أهل العلم والمعرفة، وصولاً إلى استشهاداته المعرفية الخبيرة بالقرآن والحديث النبوي في عظاته ومداخلاته ومساجلاته مع الخاصة والعامة، في كل المناسبات على إختلاف عقائد أهلها،
غواية السرد
تنجح الرواية بتقديم ثقافة التسامح بقالب روائي أخاذ، سواء على مستوى الحبكة الأدبية، أو صناعة الحكاية وتخليق الشخصيات بأبهى صورها وأزهى تجلياتها الإنسانية، بكل المعاني الأخلاقية والدينية، وببساطة متناهية، تجعلها مألوفة ويقبلها الوعي دون تكلف، أم على مستوى تقنية السرد، التي دفع بها الكاتب، بأسلوبه الإبداعي الماتع، لدرجة الإحساس بأن الكلمة تشق أختها، وتنطلق بمتواليات وتداعيات سلسة وجذابة إلى أبعد حدود التشويق والإثارة، وربما إلى ما بعد الدهشة العميقة، حيث لم تترك فرصة للملل والتثاؤب، أو الشعور بالتعب والإجهاد، يتسلل إلى نفس المتلقي، وإنما تشده دلالة الكلمات ومعانيه بخيوط الغواية الأدبية الساحرة، إلى مناخاتها الحميمية الدافئة، وفضاءاتها الجمالية الوهاجة، حيث يمتطي المتلقي خيول المخيلة المجنحة، لملاحقة تهويمات وأطياف الأفكار والصور والتداعيات التي يثيرها السرد الجذاب، المتدفق بزخم دلالي مكثف، خلال البناء الفانتازي للشخصيات التاريخية، وتطوير الأحداث في السياقات الدرامية.
تكنيك السرد
يتميز أسلوب السرد في الرواية بالإنسجام والتناغم أو الجمع والتمازج بين ثلاثة مستويات من الروي أو الحكي، الراوي الشاهد، والرواي الحاضر أو البطل، والراوي الغائب، ومع ذلك لا يبدو الأمر نافراً، بقدر ما هو متعالقاً أو متشابكاً بتماه تام، لفرط جذالة اللغة وإنسيابيتها النظيفة. فاللغة تبدو في الرواية وكأنها رواية بنفسها، لما تتمتع به من رقة ودفء يتسلل إلى القلب والوجدان قبل العقل.
ويقوم أسلوب السرد على ما يمكن أن أسميه تكنيك الإستعادة ضمن الإستعادة التاريخية، ذلك لأن الإستعادة الأولى تتم في الرواية من خلال إستعادة شريط الذاكرة الشخصية للراوي أو البطل، للمرور من خلالها إلى نوازع الذات وتفتحها على الوجود، ومعرفة شطرها الآخر والناس عموماُ، واكتشاف الأمكنة ومراتع الصبا ومدارج القلب وشرارة الحب الأولى، في إطار بناء الشخصية المحورية للرواية، وهي في الوقت عينه إستعادة مخاتِلة، حيث تبدو وكأنها الثيمة الأدبية التي جعلها الكاتب مدخلاً للحكاية، ولكن الكاتب في الواقع يتدثر بها لتمرير رسالة ثقافة التسامح، في قالب فني ضمن شروط اللعبة الروائية كجنس أدبي معروف بخصوصياته الفنية والجمالية. أما الإستعادة الثانية فهي لإستحضار التاريخ بوقائعه وأحداثه، بقدر ما تخدم السياقات الروائية، وخصوصاً في موضوعة ثقافة التسامح.
الرواية من القطع المتوسط تقع في 206 صفحات وقد صدرت منذ عدة ايام وسيتم توزيعها داخل الدولة قريبا .