
عائشة سلطان *
قرأت منذ أشهر عدة ملخصاً لرواية طويلة صدرت بـ«الإنجليزية»، ونشرت في كندا وحصلت على تقييمات عالية، إضافة لجوائز رصينة هناك، الرواية تتناول قصة رجل مسن يهرب من نافذة غرفته في إحدى دور العجزة، بينما كانت إدارة الدار قد جهزت كل شيء للاحتفال بعيد ميلاده المائة، تحكي الرواية عن هروب المسن في هذا العمر المتقدم لتقول إن العمر لا يتوقف طالما الإنسان على قيد الحياة، وأن الحياة مستمرة ولا عمر لها، بل يمكنها أن تبدأ بعد المائة، أما العجوز فأراد أن يقول لأهله الذين وضعوه في دار العجزة ولأصحابه الذين ما عادوا يسألون عنه ولإدارة الدار، إن الحياة في الخارج وليس في العلبة التي نحكم إغلاقها على أنفسنا، ولقد عاش المسن مغامرة كبيرة من خلال هروبه تلك الليلة.
تذكرت الرواية وأنا أقرأ خبر هروب مسن بريطاني من قدامى المحاربين من دار للعجزة في بريطانيا لحضور مراسم إحياء ذكرى إنزال الحلفاء في نورماندي شمال فرنسا، حسب ما جاء في الصحف منذ يومين، حيث عثر عليه بعد 12 ساعة على فراره بعد أن قرر العجوز البالغ من العمر 89 عاماً تجاهل تعليمات الدار للالتحاق بزملائه السابقين، مهما كلف الأمر، بعد أن خبأ ميدالياته - التي كان قد حازها سنوات مشاركته في الحرب ضد الألمان - تحت معطفه وركب على متن حافلة كانت في طريقها إلى نورماندي، لم يستطع أي عائق أن يقف في طريقه، وقد شارك في الاحتفال وعاد بعد انتهائه بصحبة المعاونين الصحيين للدار!
هناك حياة لا يجوز تأجيلها بالعيش داخل العلبة والبقاء متحركين من علبة إلى أخرى، هناك حياة أخرى لا يجوز التفريط في الاستمتاع بها؛ لأنها تعني لأصحابها الكثير، فلبطل رواية الهروب فإن البقاء في الدار تحت وطأة الأعوام المائة تعني التسليم والاستسلام لموت بطيء بلا أمل وبلا أي أحساس بالقيمة والمتعة انتظاراً لنهاية كئيبة؛ لذا فالحياة كانت في مغامرة الهروب وتجربة حياة أخرى على الضفة الثانية من دار العجزة، وبالنسبة للمسن البريطاني فإن حياته كلها قد أصبحت وراءه تماماً في تلافيف الذاكرة، الانتصار، الشباب، الأمل، القوة، الفرح، وكل شيء آخر، أما دار العجزة فليست سوى موقف انتظار للموت العاجل المنتظر هناك على الناصية.
الحكايات لا تنتهي أبداً، لا حدث تنقطع صلته بالماضي، العمر لا ينقطع حتى بعد مرور مائة عام طالما الإنسان لا يزال يتنفس هواء الحياة، العمر يولد قصصه، الإنسان ينسج حركته فقط حين يقرر ذلك ويختار؛ لأن هناك كثر يختارون الاستسلام انتظاراً للموت المختبئ خلف تلك الشجرة في حديقة دار العجزة، في العمر حكايات نظن أن النقطة الأخيرة قد وضعت فيها منذ سنوات، لكننا نكتشف أن القصة ما زالت مفتوحة على نهايات مفتوحة، إلا يبدو هروب المسن الإنجليزي للنورماندي كمن يعيد فتح المشهد على اتساعه لتلك المشاهد المرعبة التي أنهت الحرب العالمية الثانية بذلك الإنزال المرعب لقوات الحلفاء على شواطئ النورماندي بكل تلك الحشود والآليات المخيفة؟.
_______
*الاتحاد