حبر وملح (لغتنا الجميلة)


*زاهي وهبي

لا يبدو حال اللغة العربية أفضل من حال الأمة، يكفي أي مراقب نظرة سريعة على مواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي ليكتشف أي درك وصلت اليه لغة الضاد التي يتغنى بها أهلها معتبرينها أجمل لغات الدنيا. نحن لا نتحدث هنا عن نسبة الأمية المرتفعة في معظم البلدان العربية حيث غالبية لا تجيد القراءة والكتابة بسبب الفقر والعوز والجهل وسواها من أسباب تتحمل مسؤولياتها السلطات المتعاقبة على مدى عقود بفعل عجزها عن انجاز أي تنمية حقيقية، بل نتحدث عن أمية أخرى تسود أوساط المتعلمين أنفسهم الذين يهملون لغتهم الأم لمصلحة لغات أخرى يظنونها أعلى رتبة ومرتبة نظراً الى حال الاستلاب التي تصيب كثيرين تجاه اللغات السائدة أو السيدة لكونها لغة «المنتصر» أو المسيطر اقتصادياً وتقنياً وسياسياً، فيبادرون الى تقليده تشبهاً به وتماهياً معه، فضلاً عن نسبة لا بأس بها تشوه حتى ما تنطق به من لغات أخرى.

قطعاً نحن لا نذمّ المتعلمين الذين يتقنون أكثر من لغة فهذا أمر بات من ضرورات الحياة المعاصرة، وكل لغة جديدة هي لسان جديد أو انسان جديد، شرط الا يتم ذلك على حساب اللغة الأم، ولئن تذرع أحد بالعولمة وطغيان الانكليزية على سواها من لغات الارض خصوصاً أنها أمست لغة «البزنس» بلا منازع، نبادره بالقول وهل نحن في العولمة أكثر فعالية من الألمان والطليان والروس والأسبان وسواها من أمم في صلب العولمة لكنها تحفظ وتحافظ على لغاتها ولا تفرط بها كما هو حال العرب على امتداد خريطتهم من المحيط الى الخليج.
تذهب بعض الدراسات الى القول إن نسبة الأمية في الوطن العربي تتجاوز الستين في المئة، هذه بحد ذاتها كارثة حقيقية تحتاج ارادة كبرى وجهوداً استثنائياً وحكومات متنورة ومسؤولين ذوي رؤى بعيدة المدى لأجل الخروج من هذا المأزق الذي يترك انعكاسات كارثية على مناحي الحياة كلها، ولا يستغربن أحد اذا قلنا ان موجات التخلف والتطرف والتكفير الي تضرب وطننا العربي الكبير انما تعود في جانب منها الى تلك الأمية التي لا تجلب سوى الجهل وضيق الأفق وقلة الحيلة، لكن كيف نكافح الأمية المستشرية اذا كان متعلمونا أنفسهم لا يجيدون الاملاء وقواعد الصرف والنحو ويرتاحون لدى تبادل الأحاديث بلغات أخرى غير لغتهم الأم، ولعلنا لا نبالغ حين نشير الى كون مستوى الطلاب الجامعيين اليوم أقل من مستوى طلاب الشهادة الابتدائية قبل بضعة عقود.
أسباب تراجع اللغة العربية لدى أهلها وذويها كثيرة لا يمكن الاحاطة بها بمقالة أو مقالتين لأنها تحتاج دراسات واسعة موسعة ومعمقة للاحاطة بالمشكلة من جوانبها كافة، ونعلم أن بعض الحكومات بادرت الى اقامة حلقات وورش دراسية لأجل معالجة هذا الأمر، لكن الجهود لا تزال خجولة ومتواضعة لا ترقى الى واقع الحال المأسوي الذي بلغته لغتنا على لسان أبنائنا الذين بات بعضهم يكتبها بالأحرف اللاتينية مستعيناً بالأرقام والاشارات عوض الحروف، فالرقم سبعة يحل مكان الحاء والرقم ثلاثة مكان العين والرقم اثنان مكان الكاف وهكذا دواليك ما ينذر بامكانية عودة اللغة ذات يوم قد لا يكون بعيداً جداً كما بدأت رموزاً وإشارات خالية من المدلولات الجمالية التي تمنحها بعداً وعمقاً انسانيين يجعلانها لغة حياة لا مجرد أداة للتخاطب وقضاء الحاجات.
اللغة ليست مجرد أداة للتواصل والتفاهم بين البشر، انها مكون عضوي من مكونات الهوية، ومساهم أساس في هذه الهوية أو تلك، ولا نظن أن الأمم والشعوب الأخرى تتعامل مع لغاتها بالخفة التي تطبع تعاملنا مع لغتنا فهل يسمعنا أحد اذا قرعنا أجراس الخطر ونادينا: حيَ على اللغة، لغتنا الجميلة التي نشأنا ذات طفولة ونحن نتغنى بها ونمجدها، أم لا حياة لمن ننادي ولا حياء، ولا همّ للمسؤولين سوى ما يحقق مصالحهم الشخصية ومنافعهم الخاصة وكفى الله المؤمنين شرّ القتال؟
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *