أنا و5 حزيران


*عبد الرحمن مساعد ابو جلال

( ثقافات )

يغفو المخيم في أحضان الغروب بهدوءٍوطمانينةٍ , يغمره الليلُ بالدفءِ والحنان ويهدهده بكفهِ الناعمةُ الرقيقة . لايقطع السكينَةَ سوى نباح كلب بعيد يندب حظه .
يعلو صوتُ الأطفال وتشتعلُ الحارةُ بصخبهم ليلا, من جديد ,ينقسمون فريقين فريق للصبيةِ يلعبون لوحدهم وآخر للصبايا يلعبن وحدهن . أما الصبي الشقي تامر ذو التسعة أعوام لم تعجبه فكرة الانقسام, يريد ان يلعب مع الطرفين , فيحتار قلبهُ, يذهب ليلعب مع الأولاد , بسرعةٍ يقفز الملل الى نفسه , فيركض مسرعاً نحو البنات فيراهن يخترعن ألعابا أخرى تعجبه,وهكذا يقضي تامر وقته موزعا إياه بين الطرفين الى ان يتقرر وقف اللعب والذهاب للبيوت.
قبل ان يندس تامر في فراشه, يلعب لعبة الظلال مع سراج الكاز فيقف أمامه ليرتسم ظله على الحائط ويكبر الظل ويصغر حسب موقعه من السراج ,وأحيانا يلعب بيديه وأصابعه أمام السراج فترتسمُ على الحائط أشكالا مألوفه أو مخيفه لحيواناتٍ أو أشباح لدرجة أن بعضا من إخوته يصرخ ويخاف من تلك الظلال,عندها تفتح الأم الباب وتصرخ :-أنتم للآن لم تناموا ..في الصباح مدرسة’ يللا ناموا وإلا سأطفيء السراج وأخليكو ع العتمه .
يختفي تامر تماما في الفراش مغطياً رأسه أيضا , يُنصت للهدوء المطبق على المكان فيقطعه أنين قطعة صفيح غير مثبتة بشكل جيد في سقف الغرفه يلعب بها الريح فتصدر صوتاً إعتادت أُذنا تامر عليه .. واحيانا اخرى يشكل صوت تساقط حبات المطر فوق سقف الزينكو موسيقاهُ المفضلة, وعندما يشتدُ هطول المطر يستسلم السقف ويخترقه المطر من عدة أماكن فتركض أمه لتحضر بعض الاواني وتضعها تحت الدلف وكثيراً ما كان تامر ينام بين إنائين , في الشتاء كان سعيداً بصوت قطرات المطر المتسللة للأواني عبر السقف, يظل يعدها حتى يغفو..
زيارات أمه للجيران عادة ماتكون بعد العصر, وقد تعود أن يلتصق بها رغم أنها تنهره , ومن بين كل الجيران إهتم تامر بدار أبو زكي , فكان حريصا أن لاتفوته أية زيارةٍ لهم , ويعرف تامر متى ستذهب أمه لدار أبو زكي , فهي تضع بعض الملابس القديمه في صرةٍ تأخذها إما لتصليحها أو ضبط ملابس الإخوه الكبار لتصبح صالحة للصغار . ويكون في منتهى السعادة والسرور عندما يدخل دار أبو زكي , عند الباب قواوير ورد ونباتات زينه, وداخل الحوش الذي لم يكن واسعا بضعة أشجارٍ وأحواض زراعية صغيرة قرب الجدران وشجرة توت كبيره تتوسط الحوش . تجهز سلمى بنت أم زكي ماكنة الخياطة اليدوية وتأتي أخواتها كفايه وعائشه وأُمهم ويفترش الجميع الأرض تحت شجرة التوت , سلمى واخواتها صبايا على حافة العشرين ربيعا وسلمى أكبرهن ,تبدأ سلمى بالخياطة ثم تنظرُ لتامر وتقول له ياتامر سيبك من أُمك وتعال جنبي فينصاع فورا لأمرها , تداعب شعره بيديها الرقيقتين وتقول له يللا سمعنا شوحافظ من الأغاني , يبدأ تامر بالغناء بصوت جميل ولحن متقن ” جميل واسمر.. جميل واسمر.. بيتمختر ..بيتمختر , وتردد الصبايا من خلفه الأغنيه بفرحٍ شديد ويتمايلن سوياً وأحياناً تزداد النشوة عند إحداهن فتقوم بالرقص والضحك وخصوصا عند المقطع “تقول سكر أقول أكتر من السكر متين مره ” تنتهي الأغنية وتبدأ أغنيةٌ أخرى مثلا “سواح وانا ماشي ليالي سواح ” وعند المقطع” طمنوني الأسمراني عامله ايه الغربه فيه “تتنهد ام زكي بحسره وألم وتقول بأسىً شديد ” ياترى شو عامل ياإبني يا زكي في غربتك “وترد عليها أم تامر بقطرات دمع تتدحرج على خديها بدون كلام وعند ذلك تحتج سلمى بشدةً وتقول “منشان الله لا تقلبوها غم وهم إحنا ناقصين ” .
ذات صباح حزيراني كان تامر فرحا جدا لسببين , الأول ان العطلة المدرسية بدأت والثاني ان أمه عملت له صينية حلاوة وقطعتها قطعا صغيرة بعدما زينتها باللون الاحمروجوز الهند ليبيع قطع الحلاوة في الحارة , حمل الصينيه فرحاً وهم بالخروج منعته أمه وقالت له الحرب بدأت ولا أحد يخرج للطرقات , جلس خائفا وصينية الحلاوه أمامه لم يتذوقها ولم يأكل منها احد .
حطت الحرب أوزارها وإذ بالاحتلال يجثم فوق صدر المخيم وأحذيته العسكريه تدوس كل شيء . فر أبو تامر الى بلدٍ مجاور, وبعدها بأيام أتت سيارة للبيت , قالت الأم يللا يا أولاد سنلحق بأبيكم ولم تأخذ معها سوى حقيبة ملابس , تركت بيتها وكل شيء خلفها ,ركب تامر السيارة وعندما تلفت حواليه رأى كل الجيران يقفون على أبوابهم وبعض النسوة يبكين , لكن تامر ثبت نظره على دار أبو زكي فرأى سلمى وأخواتها يلوحن بأيديهن وأم ابراهيم جالسة على الأرض كأنها لم تقو على الوقوف ويدها على خدها وشجرة التوت خلفهن باوراقها الخضراء شامخةً وظل رأس تامر متجها للخلف, عندما تحركت السيارة ظل محملقا بسلمى وشجرة التوت الى ان اختفوا جميعاً ولأول مرة يشاهد تامر العديد من الدبابات والسيارات العسكرية تتجول على الطرقات , وكانت هناك الكثير من الحواجز العسكرية وجنودٌ مدججين بالأسلحةِ يوقفونهم ويسألونهم عن وجهتهم وعندما يعرف الجنود انهم مغادرون للخارج تتعالى اصواتهم ” مع السلامه خبيبي ” و عند اخر نقطه شاهد فيها تامر جندي إحتلال كان حذاءه الخفيف قد تقطع خلعه ورماه باتجاههم وهكذا خرج تامر من أرض الوطن حافياً .
ثلاثين عاماً حملته مراكب الغربة وحطت به على شواطيء المنافي , وسنحت الفرصة الحلم لرؤيةالوطن , ولكن للاسف الشديد ليس بعد التحرير والانتصار إنما بتصريح من الاحتلال ولمدة شهر واحد فقط , كان تامر متلهفا ومتشوقا ويقول في نفسهِ مش مهم بتصريح المهم أن أرى مسقط رأسي وملعب صباي والاهم أهلي وناسي . .
وعاد تامر الى ذات المخيم برفقة أمه , في طرقات العودة كان يأكل كل شيء بعينيه بنهم عجيب , الأشجار ,المزارع ,البيوت , الطيور ,, الحيوانات ,
حتى الكلاب الضالة في الخلاء يحسدها لأنها في الوطن . .
دخل أول المخيم بدأت الصور القديمة تتجدد أمام ناظريه , المعالم هي هي بعض البيوت تحسنت , وصل باب الدار وجال بناظريه فرأى شجرة التوت تقف شامخه بعنفوان , في تلك اللحظه تمنى ان يجلس تحتها , أتى أناس كثر للسلام لم ير عددا كبيراً من أصحابه وعندما سأل عنهم أجابوه بأن قسما منهم يقضون محكومياتهم في سجون الاحتلال والقسم الآخر استشهد 
وتسائل تامر في نفسه لو بقيتُ هنا مع من سأكون ياترى تحت الثرى أم حيا أوفي السجون .
أتى كل الجيران للسلام ومن بين النساء رأى سلمى , قفز قلبه رآها بابتسامتها الساحرة وقد شاخت قليلا داعبته مازحةً هل مازال صوتك حلو وبتغني زي زمان , تحشرج صوته ولم يستطع الرد وعندما غادرت سلمى دخل إحدى الغرف وأقفل الباب على نفسهِ وغنى بصوتٍ عالٍ ” جميل واسمر بيتمختر.” 
بعدما غادر جميع المهنئون ,بقيت إمراةً خمسينيةَ السن جالسة تبكي بحرقة وألم وشهقات توجع القلب, أم تامر تحاول مواساتها دون ان تعرف سبب بكائها وتقول لها :- توكلي على الله يابنيتي مين كان يقول نشوف بعض , لكن المرأه ظلت تبكي , ثم تمالكت نفسها وقالت لأم تامر الا تحبيني ؟؟ لماذا لم تسلمي علي بحرارةٍ وتقبليني وتأخذيني بحضنك ؟؟؟, فردت أم تامر بدك ماتواخذيني يابنتي إنت شفتي نساء كثيرات جئن للسلام فصرخت المراة:- ولكن أنا شجون أنا شجون بنت اختك حورية , صعقت , مفاجآه لم تتوقعها أم تامر فزعقت : أنت شجون , الله يجازيكِ يارب , والله ماعرفتك وبكت بشدةٍ وبكت شجون وتعانقتا بحرارة وظلت أم تامر تغنى بنواحٍ شديد , شىء مفهوم وشيء آخر غير مفهوم , يضيع مع حشرجات صوتها . بعد عدة أيام يتكرر المشهد الذي كان قبل ثلاثين عاما , تأتي سيارة في الصباح الباكر ,يتجمع الأهل والجيران , دموع ووداع وفراق قد لايكون بعده لقاء , السيارة ستقل تامر وأمه الى خارج الوطن ,, تصريح الزيارة والذي أصدره الاحتلال انتهى .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *