ماهر منصور*
ستة أعمال درامية، كتب الشاعر والمسرحي محمد سعيد الضنحاني القصة لها والأشعار، هي ‘للأسرار خيوط’، ‘وديمة’، ‘الغافة’، ‘ما نتفق’، ‘القياضة’، ‘وش رجعك’… فيما أصدر مؤخراً ديوانه الشعري الثاني ‘همس الحنين’ (2014) بعد ثلاث سنوات من إصداره ديوانه الأول ‘صدفة’ (2011)… وما بين ما قدمه الضنحاني للدراما ومنجزه الشعري لابد للمتابع أن يكتشف حالة تواشج عضوي، ففي الحالتين ثمة لغة شعرية بإيقاع سمعي بصري خاص، يؤسس لها الشاعر. ورغم حرصه على البعد الدرامي للنص المكتوب إلا أنه لا يهمل ما تفترضه صنعته كشاعر من قوافٍ وصور شعرية.
حرارة الإيقاع السمعي في أي قصيدة تنطوي عليها، تجعل هذه الأخيرة مغناة، أو تغري بأن تكون كذلك، فإذا ما زاد على الإيقاع السمعي، مخيال روائي، تصير القصيدة المغناة أقرب إلى روح الدراما، وهو النمط الشعري الذي ينتمي إليه أسلوب محمد سعيد الضنحاني، حيث تنطوي قصيدته على فعل تراجيدي عالي الإحساس، يمضي وفق بناء درامي، تتصاعد أحداثه، وهو يدعم ذلك كله، بمشهدية تغري العين بالتقاط تفاصيلها، مشهدية توفرها حالة من التخييل الشعري، تفتح بدورها الآفاق على أكثر من معنى، دون أن تثقل على المعنى الرئيسي…وهو بذلك كمن يكتب نصاً درامياً مختزلاً بعدة أبيات شعرية، نص سبق واختبره حين كتب كلمات أغاني عدد من شارات مقدمات مسلسلاته، ربما كان أشهرها على الإطلاق أغنيتي ‘صدفة’ و’ما نتفق’.
ذلك النص الشعري بما يختزنه من طاقة درامية، يكشف قدرة الشعر على أن يكون قاعدة ملهمة لعمل درامي، يؤسس لفكرته ويرفع من وتيرة إيقاعه ويرسم تصورات بصرية له حيناً، وأحياناً يشكل جزءاً من نسيج العمل الحكائي على نحو لا يمكن إسقاطه من العمل دون أن يحدث خللاً في صيرورة الحدث الدرامي، وأحياناً يقوم النص الشعري بالمهمتين معاً، وهو ما يمكن تلمسه في قصائد محمد سعيد الضنحاني…ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في ديوانه الأخير ‘همس الحنين’، فبالإضافة إلى المخزون التراجيدي في النص، نجد أن الضنحاني يغلب لغة الخطاب فيه، وهو بذلك يؤسس للحوار الدرامي الذي نعنيه، وبالتالي هو يُضمّن نصه الشعري عنصراً ثانياً من عناصر الدراما أي ‘الحوار’ أو ما يؤسس له، بعد أن ضمنه من قبل ‘الحدث الدرامي’.
فنياً لا قيمة لحدث درامي ما لم ينطو على مقترح بصري بمضمونه، وهو حدث قاصر بلا أفق ما لم ينفتح على أكثر من معنى.. ولعل ما من نص إبداعي أبلغ من الشعر يوفر ذلك الحدث الذي ينفتح على أكثر من معنى وفق تصورات بصرية جمالية.. لكن الشاعر محمد سعيد الضنحاني يضيف على قدرة القصيدة تلك، بعداً إضافياً، يعزز ما يريده الحدث الدرامي ليكتسب قيمته المثلى، وذلك حين يدفع قصيدته نحو ما يصفه الناقد سامح كعوش في قراءته لـقصائد الديوان بـ’سلطنة المتصوفين الغارقين في ذات المحبوب الأعلى’، فنجد بين دفتي ‘همس الحنين’ فعلاً تراجيدياً يتقلب بين الصد والوصال، وبين الروح والجسد، وبين التوق للمحب وعزة النفس بهجرانه.. وفي كل مرة ثمة حالة من الصراع الداخلي، تثير في الشخصيات الدرامية/ الشاعر…أحاسيس وإيماءات، وذاكرة انفعالية بتجلياتها بين الصمت والكلام.
اللغة المتصوفة في ديوان ‘همس الحنين’ ستزيد من طاقة الشعر في الإيحاء والرمزية وبالتالي الانفتاح على أكثر من معنى، والذهاب نحو المعنى المستتر خلف المقولات الظاهرة المعلنة، أليست تلك هي مواصفات برمتها توفر عنصراً جديداً من عناصر الدراما هو ‘التشويق’..؟
في اللغة الشعرية المتصوفة أيضاً لديوان الضنحاني ‘همس الحنين’ ثمة ذهاب إلى عمق المعنى بما تقدمه القصيدة من رمزية وإشارات وبما توحي به.. وذلك من شأنه أيضاً أن يبث في الصورة حيويتها، ويجعلها أمام القارئ/المشاهد.. تتواتر بين النهائي المؤطر في الصورة الدرامية/ المعنى الظاهري للقصيدة، وبين اللامنتهي الذي يغذيه الخيال.
هذا التواتر في قصيدة الضنحاني يبدو مطلوباً لجعل المشاهد/ القارئ.. مشدوداً للمسلسل/ للنص.. حيث يجذبه هذا الأخير لفك رموزه، على نحو يوفر عنصراً درامياً إضافياً هو ‘التسلية والمتعة’ الدراما… فالنص الدرامي/ الشعري المكشوف، هو عمل بلا متعة.
قراءة جديد محمد سعيد الضنحاني الشعري ‘همس الحنين’ من بوابة الدراما، مهد لها ما سبق وأنجزه الشاعر في الدراما التلفزيونية من خلال ست مسلسلات، وقد وظف فيها الشعر كجزء من الحكاية الدرامية، لا يمكن لأي مخرج إغفاله، وعبرها أعادنا الضنحاني إلى دراما الستينيات والسبعينيات العربية المؤسسة، والتي قامت على أكتاف روائيين عرب، منحوا النص البصري، في السينما والتلفزيون، قيمة فكرية وأدبية بأسلوب حكائي مشوق، وقد زاوجوا بين السرد الروائي والدرامي البصري على نحو نفتقده اليوم في المنجز الدرامي.
ولعل في قراءة ديوان الضنحاني الجديد ‘همس الحنين’ من باب انفتاحه على النص الدرامي، وإظهار ما يختزنه الشعر في هذا السياق، دعوة ضمنية للعودة إلى الموروث الشعري العربي، قديمه وحديثه، لإعادة اكتشاف الطاقة الدرامية فيه، والاستفادة منها لو أدركها الدراميون كما يجب في مسلسلات وأفلام، كما سبق واستفادت الدراما التلفزيونية من الرواية العربية، وإن تم ذلك على نطاق محدود.
*ناقد فني من سورية