*يوسف يوسف
( ثقافات )
تتوقف هذه المقالة أمام علاقة الشعر بالسينما، التي هي في حقيقتها امتداد لعلاقة القصيدة بالصورة المرئية، وذلك انطلاقا من الاقتناع بصحة ما يذهب إليه ريجيس دوبري في قوله : الشعراء الجيّدون يدرّبوننا على النظر بصورة أفضل على الرغم من أن كلماتهم عمياء(1).
لربّما يرى البعض بأن علاقة الشعر بالصورة سبقت نظيرتها التي اعتاد النقاد الإشارة إليها في هذه الأيام في أحاديثهم حول علاقته بالسينما والتأثر بها كفنّ سمعبصري، وقد يرى آخرون بأن الشعر الوصفي التصويري وبالذات منه الذي في الأدب الفرنسي قد ظهر في القرن الثامن عشر، أي قبل ظهور السينما في فرنسا ذاتها ، إلا أن ما أصبحت عليه حال الشعر في الحداثة، وما طرأ عليه من التغييرفي تقنيات الكتابة، تجعلنا نميل إلى ترجيح كفة المشروعية في مقالة يتحدّد اتجاهها على هذا النحو من الإختيار، حتى وإن كانت هناك عناص رأخرى سوى اللقطة يمكن للشاعراستخدامها لتخصيب نصّه الشعري، وإيصاله إلى المرتبة المرموقة من النجاح في الوصول إلى المتلقي .
وسوى هذا فلعلنا بهذا الإختيارنلتقي مع فهم الكثيرين من الشعراء لماهية الشعر كجنس إبداعي، من حيث هو سياق من الخطاب، قوامه القول والنظر كليهما معا ، وهما العنصران ذاتهما اللذان تتكون السينما منهما هي الأخرى، وإن بقيت الغلبة فيها للصورة.
وقد يقول قائل بأن الشعر في طبيعته وبنيته التكوينية والتعبيرية نخبوي ، وأنه مما قد لا تفهمه العامة من الناس، وأن السينما بعكسه تماما : جماهيرية وفي مقدورها الوصول إلى أقلّ الناس معرفة بالفنّ السينمائي، إلا أنه من الضروري القول بأن الصور المتحركة التي ابتكرتها السينما ، اصبحت تمثل الدليل على مشاركتها في صوغ ذائقة الشاعر الجمالية ، الذي أصبح هو الآخر يعمل في الكثير مما ينجزه، وبهدف تخصيب منجزه ، على تحويل أداته اللفظية التي تحتمل التجريد، إلى أخرى سواها لا تحتمل مثل هذا التجريد، وتكون مرئية كصورة.
وهذا مما قاد إلى ظهور مصطلحات نتبيّن من خلالها حقيقة المتاخمة والتداخل بين هذين النسقين من التعبير، ومنها على سبيل المثال : الشاعر السينمائي، القصيدة السينمائية، الفلم الشاعري، المخرج الشاعري، وسوى ذلك مما تمهّد لتأصيل العلاقة، وللتأثير المتبادل بينهما ، وهي مصطلحات لئلا يغيب عن الأذهان، أصبحت لها حدودها المتعارف عليها بين المهتمين بهذا الشأن، ولها ملامحها التي بقدرالمحافظة عليها وتوضيحها، يكون الحديث حول العلاقة جدّيا ومهما، ليس لأحد السياقين في معزل عن السياق الآخر، وإنما للإثنين معا، بدالة القول بأن المضمون الشعري في السينما ليس هو التجسيد الشعري الذي فيها، فالأول : المضمون الشعري إنما يعني تصوير انطباعات ، بينما الثاني: التجسيد الشعري يرتبط بالبنية ذاتها، أي بقوام الفلم الذي هو جسده في توصيف آخر.
في كتابه “التوالد الصوري في السياق النصّي”(2) يتوقف المؤلف أمام ما تعرف ب “اللقطة البرقية الصورية” . وإذا ما توخينا توضيح المقصود باستخدام هذا المصطلح ، فسوف نجد أنفسنا أمام ما يفيد بأن الصورة ستكون لها منزلة المفردة في القصيدة، وبما يشرعن (يعطي الشرعية) الحديث حول مشهد سينمائي في القصيدة، ومثل ذلك الحديث حول صورة سينمائية في هذا الخطاب الشعري أوذاك مما تقع عليها الأنظار من القصائد، أو في تعبيرآخر، بما يشرعن مقولة دوبري سابقة الذكر حول الشعراء الجيّدين الذين في مقدورهم تدريبنا على النظر بشكل أصحّ على الرغم من ان كلمات القصائد تبقى عمياء.
صحيح أن الشعر متوالية من الكلمات، وأن السينما ليست كمثله ، وأن قوامها توالي الصور وتتابعها، وأن الشعر سوى هذا يبحث عن أدوات ووسائل للتمويه ، فيما السينما ترفض مثل هذا العمل وتبتعد عنه إلى أبعد ما يقدر عليه المخرج السينمائي، إلا أن ما بينهما من دواعي المتاخمة والحضّ عليها أقوى مما يمكن أن تقود إلى التنافر، فالشعر يحلم، والسينما هي الأخرى تحلم، وللفيلم إيقاع مثلما للقصيدة إيقاع، كما أنهما تقارب بينهما الصورة ، بصرف النظر عمن يصممها، وهل هو المخرج السينمائي أم الشاعر . وإلى هذا أيضا ، فإننا إذا ما أردنا الموازنة بين الفلم والقصيدة، فإن اللقطة السينمائية من حيث هي وحدة البناء التي تقوم عليها بنية الفلم، تعادل من حيث المبدأ الجملة والصورة في النصّ الشعري . واللافت للإنتباه عند الموازنة بين هذين الجنسين من التعبيرالفني، أن أغلب المهتمين بدراسة العلاقة بينهما ،والكشف عن حدود هذه العلاقة، يميلون إلى الأخذ بفكرة نزووع كل منهما إلى التأثر بالجنس الآخر، والسعي إلى الإقتراب منه ، وليس من أجل الإفتراق والإبتعاد عنه كما قد يتصوّر البعض . وقد يعتبر من نافل القول الحديث عن تحاور بين هذين النسقين من أنساق الخطاب، على اعتبارأن الصورة التي هي أساس لغة السينما، هي نفسها العنصرالأكثرأهمية لإنتاج المعنى، وصنع اللغة الشعرية والمساهمة فيها(3) .
القصيدة اللقطة.. تطبيق أولي
===============
لطيف هلمت واحد من الشعراء الكرد الذين انشغلوا بحداثة النصّ الشعري الذي يكتبونه ، وعكفوا على الإهتمام بما أطلق عليها إدوارد سعيد دنيوية النصّ . ولعله بسبب هذه الدنيوية والدأب عليها، ارتقى بالنصّ الشعري الذي يكتبه إلى المنزلة التي تجعله من بين أفضل ما أنتجه الشعراء الكرد المعاصرين، ولهذا السبب وقع اختيارنا عليه، ليكون المثال الذي نناقش من خلاله موضوعة الشعرية الكردية والسينما في هذه المقالة.
وفي قصيدة “العاصفة” تبدو البنية الصورية واضحة تماما، إذ ترسمها عين شاعر مخرج ، يتوخى أن يرى أكثرمما يتكلم ويقول . ولعلّ عبارة “ما أكثر” التي يجعلها المدخل اللفظي إلى أبيات القصيدة، تشير إلى حدود الجهد الذي على المخرج أن يبذله لكي يبني هذا المشهد أوذاك من المشاهد التي تدخل في بنية القصيدة . وهو سوى هذا يحتم التفكيربأكثر من زاوية للتصوير وللنظرمنها ، لتوضيح المقصود بهذه الكثرة التي يشير إليها
حتى (العاصفة) مجرمة
ما أكثر(ما هشمت) من (أغصان الأشجار)
ما أكثر (ما مزقت) من (أجساد الأطفال)
ما أكثر (ما شردته) من (طيورالغابات)(4)
وكما نرى فإن (العاصفة) هي ما يصدرالشاعرحكمه عليها بارتكابها فعل الجريمة . وهذا الحكم القطعي ينأى الشاعرفي إصداره عن العسف الذي يغيّب الأسباب، ويمضي باتجاه الكشف عن دوافعه وصدقه وابتعاده عن التجني عند الإعلان عن سبب نقمته على الريح التي يصفها بعدم مصادقتها لأحد . ونحن ندرك هنا بأن (العاصفة) هي (الموصوفة)، وأن الشاعر بوصفه إياها بالمجرمة، عليه تقديم القرائن التي يبرهن من خلالها صحة الحكم، وأن هذه القرائن على النحو الذي هي عليه، يجب أن تقوم الأبنية الصورية المرئية عليها ، وليس على سواها ، وهذه الأبنية وعلى وفق الإختلاف في المعنى، يجب أن تتنوع فيها المرئيات، وكذلك أنواع اللقطات بحيث يمكننا وصف الحالة على وفق الترسيم التالي :
العاصفة(الموصوف) المجرمة(الصفة) >< قرائن الجريمة (انخلاع أغصان الأشجار وتكسّرها + تمزق أجساد الأطفال + تشرّد طيورالغابات وتحليقها في الأعالي بخوف) .
هكذا فإن الشاعر لطيف هلمت هو من يقوم بمهمة رسم حدود البنية البصرية وليس المخرج السينمائي، الذي عليه كما نتوقع وتبيّنه القصائد التعامل مع مكونات النصّ في إطار الحدود ذاتها التي تصنعها المفردات، إن بين أغصان الأشجار وما يمكن أن يحلّ بها بسبب العاصفة، أوبين أجساد الأطفال وطيور الغابات في حالات متباينة، ولأن الشاعر لا يتوقف عند هذه الحدود، فإنه سوف يواصل تصوير نتائج العاصفة التي هي نفسها قرائن الجريمة فيقول : “ما أكثر ما ملأت عيون المدينة بالرمل والضباب”.
مما نلاحظه استفادة هلمت من السينما في بناء قصيدته، وبالذات منها مما في الإخراج السينمائي، ومما في الصورة من كيفية النظر، ومما في اللقطة من القدرة على تحفيزالمتلقي ودفعه لكي ينفعل ويتفاعل مع ما يقرأه ويراه أمامه . ففي المقطع السادس من قصيدة “مقاطع من قصيدة طويلة” وحيث نرى كذلك بنية صورية واضحة المعالم، فإن السينما تبدأ حيث تنتهي اللغة بحسب رولان بارت . وفي نسق تجربة هلمت، نلاحظ اهتمامه بصياغة أثرمن نوع ما تتركه القصيدة في القارئ، وذلك تماشيا مع فكرة دنيوية النصّ التي سبقت الإشارة إليها، وهوالأثرالذي سيتبلور في جانب مهم منه على ما لدى هذا القارئ من المخزون المعرفي والشعوري : الأول بما سينتج عنه من المعنى، والثاني الشعوري الآتي من خلال التفاعل بينه وبين العاصفة في حالة القصيدة الاولى، وبينه وبين الكلب الجائع في حالة القصيدة الثانية، دون أن تغيب عن الأذهان الإحالات الجمالية التي تقدمها لنا الأبنية الصورية المرئية، وما فيها من المحمولات الرمزية والدلالية
رميت إلى كلب جائع رغيفا { بصري
فانهمرسكين الصوت من صافرة شرطي { سمعي
فهرول الكلب الجائع {بصري
لمَ تهرب أيها الكلب الجائع ؟ { يسأل الشاعرالكلب – سمعي
البوليس .. البوليس .. لقد اقبل البوليس { سمعبصري
لست من جنس البشر { يقول الشاعر للكلب – سمعي
في الليل أتجول وأنبح كثيرا { سمعي
لذا أخشى أن يتهمني
بالسياسة وتوزيع المنشورات
ومطاردة الكرى من أعين الناس (5) .
لا بدّ أن يكون القارئ قد انتبه إلى أننا لا نتوخى قراءة قصائد هلمت على وفق ما ما اعتاد الكثيرمن النقاد البحث عنه في قراءاتهم الفكرية والسوسيولوجية المحدودة،وهو سوى هذا لا بدّ أن يكون قد أدرك أنه أمام قراءة بصرية بالدرجة الأساس ، غايتها التمحيص في الأبنية الشعرية وما فيها من التشاكل مع السينما . وفي تعبيرآخر، فإننا في صدد التمحيص في الدورالذي يمكن أن تقوم به المفردات التي يستخدمها هلمت في قصائده في “فلمنة” القصيدة . وهنا فإننا نلتقي مع ما يذهب إليه محمد صابرعبيد في مقالته حول”الحراك الشعري في القصيدة”(6)، وحيث يبيّن دورالأفعال في التأسيس لهذا الحراك، والتي تماثل من حيث التكنيك والصنعة والإستخدام ، الصورالمتحركة التي ابتدعتها السينما، وألقتها في ميدان الشعر، لتكون اسهامها الأساسي في كتابته . إن أفعالا في المقطع الشعري السابق كمثل : رميت، انهمر ، هرول، تهرب، أقبل ، أتجوّل وأنبح ويتهمني ، لا بدّ أن تنتقل بالقصيدة من حالة إلى أخرى غيرها، ومن مجالها في القصيدة المقروءة ، إلى الآخرالذي تصبح فيه مرئية . ومن هنا يصحّ القول بأننا أمام قصيدة سينمائية، فيها من الدلالات إلى قسوة الشرطي وفقدانه الدافع الإنساني الكثير.
وهلمت على هذا النحو شاعرسينمائي ، وفي الكثيرمن قصائده تشظيات صورية يصعب حصرها . وهنا من الضروري التوضيح بأن فعل التشظي الصوري في القصيدة، إنما يحيل إلى نسق من الصورالبرقية ذات الإيقاع السريع أوالخاطف . إنها واحدة من خصائص اللغة التي يستخدمها هذا الشاعر، وحيث سيكون في مقدورالسينمائي تحويل الكلمات إلى صورمرئية، حتى وإن كان سيكتشف بأن المعنى الذي سيمنحه هذا التكوين البصري أوذاك ، سيبقى في الغالب على هيئته التي في مخيال الشاعر .
في قصيدة “زيارة” التي هي الأخرى من القصائد القصيرة ، يمكن للقارئ أن يتبيّن ماهية القصيدة اللقطة بشكل أفضل ، بالنظرإلى أنها أقل من غيرها طولا. وفيها يقدّم الشاعرصورة للآثارالتي سيتركها فصل الخريف عند قدومه
قبلي أنا
حلّ الخريف على هذه القرية ضيفا
وها هو
موضع آثار
نعال
فرسه الصفراء(7) .
أيضا وعلى غرارما سبق توضيحه ، فإن طاقة كبيرة وقدرة على التعبيرعما يحمله الخريف من الآثار، نجدها في مفردات تحيل في مواضعها الآتية فيها إلى الكثير، ونقصد : النعال والفرس الصفراء . وهكذا فإن مثل هذا النسق الشعري ، يحرّضنا على الإنتباه إلى ما فيه من الدالات . والشاعرمن حيث هو مرسل يبعث خطابا إلى مستقبل، يضع في صياغاته اللغوية شيفرات بصرية نتبيّنها مما تحيل المفردات المستخدمة إليه . وعلى وفق هذا التصوّر لكيفية قراءة النصّ، فإذا كانت الصورة هي العنصرالأهمّ في عملية إنتاج المعنى في الفلم، فإنها هي ما ستنتج المعنى في القصائد، ومن وهنا يأتي القول بتجاورالنسقين : الشعري والسينمائي، وتأثرأحدهما بالآخر.
السؤال الذي لا بدّ أن يطرحه القارئ إبان فترة البحث عن المعنى يتمثل على هذا النحو : إلى ماذا تحيل هذه الجملة الشعرية ؟ وهو سؤال تحريضي كما نتصوّره، ومن شأنه أن يدفع القارئ للتمحيص في المنطقة ذاتها التي تعتبرالبؤرة اللامة لنظرات الشاعرالتي ينيرجوانبها ويضع شيفراته فيها كمثل ما نرى في التالي من القول “ثمة عبير أغنية رائعة” . فهذه واحدة من بين جمل عديدة يقولها هلمت ، ومن قبيل البحث عن الإجابة على السؤال السابق، فإن من يقرأ قصيدة”عبير” ، لا بدّ أن يدرك بأن مفردة العبيرالتي تعني الرائحة الفوّاحة الطيّبة التي لا يوقف انتشار شذاها مانع، إنما سوف تعني في حالة تصويرالغجر، الأثرالجميل الحسن الذي سيتركه هؤلاء القوم، الذين سوى الشاعرالكردي لطيف هلمت تغنى بهم شعراء كثيرون، ومن جنسيات مختلفة . والعلامة الدالة الأبرزإلى جمال هذا الأثر، استخدام الشاعر مفردات بعينها يتمّ اختيارها بذكاء، وهي التي نرى بأنها تتمثل ب”عبير” و”أغنية رائعة” و”يمطر” و”تتفتح الورود”.
لقد وضعنا الشاعرأمام مشهد جميل يتشكل صوريا وسمعيا في آن واحدة . فأما التشكيل الصوري الأهمّ في اعتقادنا، فإنه الذي نراه عند قيام الغجر ذوي الملابس الملونة الجميلة بنصب خيامهم رمز وجودهم ، وكأنهم بهذا الفعل إنما يزرعون الورود، ويحوّلون المكان الذي يحلون فيه إلى حديقة رائعة، تفوح منها روائحهم الطيبة، بصرف النظرإن كنا سنراها باستخدام لقطات قريبة متوسطة أومقرّبة، أو بأخرى غيرها بعيدة طويلة وبانورامية، وذلك لأن هذا الوجود الغجري، إنما يمتلك تأثيره، من خلال أغانيهم التي ستردّد اصداؤها إلى أن تصل إلى اذن الشاعرالذي يستفيد مما في المجازمن الطاقة
ثمة عبيرأغنية رائعة
يمطركثافة الصوت
الغجرينصبون الخيام
من كل صوب
تتفتح الورود (8)
وهذا هو ما سيحملنا إليه قوله في وصف الظلام في صياعة تالية
أخرس هو الطلام
والاّ لمَ لم يطلب فانوسا
من احد ؟(9)
“خيول كوسار” .. تداخل الأجناس
===================
المقاربة النقدية إلى قصيدة “خيول كوسار” توجب الإنتباه إلى بنيتها التي يستعير فيها هلمت من السردية تقانتها . صحيح أن السردية سوف تحقق له رغبته في الإندماج ببيئته الكردية ، والتعبيرعما فيها ، والإحتجاج على ما كان قد جرى من الوقائع(10) ،إلا أنها في الجانب الآخر من صدمة القصيدة التي تحدثها في المتلقي، وبما يلتقي مع هدف هذه المقالة، سوف تمنح البنية الصورية حضورا أوسع أمام حركة تتداخل فيها المفردة الشعرية مع الصورة السينمائية، وبما يغذي شحنة التلقي المتأتية من فعل الصدمة سابق الذكر، وهو ما سيتحقق على مراحل .
في المرحلة الاولى سوف يضعنا لطيف هلمت أمام الخيول، تماما كما لوأنه المخرج السينمائي الذي يرى الأشياء من عين الكاميرا التي يستعملها عادة في أفلامه ، وعلى وفق ما يرى من اللقطات الضرورية . وينبغي في تصورنا أن تكون اللقطة الاولى منها عامة بعيدة وطويلة ، تتبعها أخرى ثانية متأتية من حركة (زوم إن) . وفي اللقطة الثالثة التالية، سوف تتحرك الكاميرا في دائرة حول الخيول ، بحيث نرى أعرافها التي فوق أعناقها الطويلة، وعلى النحو ذاته الذي صممه الفنان النحات كوسارلهذه الأعراف المنتصبة في حالة طراد الخيول وحركتها القوية إلى الأمام .إنها دنيوية النصّالمشار إلأيها . وفي كيفية الإجابة على سؤال هلمت الذي تطرحه القصيدة نقرأ : خيول كوسار / لم لا يمطر نماء حسنها / على أشجار قلياسان وحديقة بختياري الناعسة؟
سوف تتحرك الكاميرا – عين المخرج لتصويرالمكان حيث ينتصب التمثال : أشجار قلياسان ، حديقة بختياري، تلال سرجنار، وسوى هذا مما يمكن أن تراه . ثم إنها – الكاميرا – سوف تعود إلى المكان الأول الذي كانت فيه الخيول ، فإذا هو قد أصبح فارغا موحشا بدونها . وهنا سوف يتساءل القارئ عن سبب اختفاء الخيول ، أوتحطم التمثال ، فيجيب الشاعر : ألم تعرف أنهم يقتلون الجياد أيضا ؟
“خيول كوسار” أنتجتها ذات مبدعة التفتت إلى ما حولها – الواقع الكردي، فوجدت أن أبناء الجلدة الواحدة من الكرد تقاتلوا مع بعضهم .صحيح أن الشاعرفي مقدوره رؤية ما يراه الآخرون، والتكهّن بما سيقع في كثيرمن الحالات ، إلا أنه من الخطأ الفادح تناول القصيدة ، أوأيّ نصّ أدبي آخرفي معزل عن الأرضية الإجتماعية التي تنبت فيها . ومن هنا كان تعريف النصّ الأدبي بأنه بنية دلالية تنتجه “ذات” ضمن بنية نصّية منتجة، في إطاربنية أوسع إجتماعية وتاريخية وثقافية(11) . وعلى هذا النحو من النظر إلى قصيدة “خيول كوسار” ومحاولة فهمها، فإنها مما يحفر في الزمان والمكان بقوة، لتصبح إحدى المرجعيات أوالعتبات لرؤية واقع تتحدّد صورته من خلال ما تحيل إليه عملية اختفاء التمثال، وانتحار الفنان ،وإن كنا نلاحظ بأن الشاعرهلمت سوف يذهب في قصيدته إلى مطلق متناهي في ما يرتبط بزمكانية النصّ الشعري، وهذا مما سيجعل القصيدة إنسانية في نتيجتها، يتناصّ الألم الكردي الذي يظهر لنا فيها ، مع آلام شعوب أخرى، عرفت أوربما ستعرف في واقعها ما لاقاه الكرد من ويلات الحروب، مرات مع الأقوام المجاورة لهم، ومثلها مع بعضهم البعض .
تفصح القصيدة عن حزن عميق . وهلمت في تفسيره لما حلّ بالخيول وأصابها، وما حلّ بمنتج التمثال هوالآخر، ليست حاله كمثل حال الرجل العابر، الذي لا يهزّه الواقع وما يجري فيه ، وإلى صواب هذا الحكم يقول في وصف علاقته بالخيول
في ما مضى
كنت كلما مررت بجنب خيول كوسار
دعتني لأغسل أعرافها بأمطارالشعر(12)
في وقفة الشاعرأمام الخيول،ما يشبه وقفة القارئ أمام نصّ عليه قراءته وبناء علاقة من نوع ما معه . وهو خلال هذه العملية، يحاول التوغل في الأعماق – أعماق التمثال ومعنى وجوده . ويوظف لذلك كل ما في الشعرمن الطاقة المختزنة، فيحاور بالتالي من خلال هذه الخيول، أولئك الذين قتلوها من الكرد وليس من سواهم . وهو يبعث من خلال القصيدة رسالتين : واحدة إلى كوسارنفسه، والأخرى إلى الذين تقاتلوا فيما بينهم أوسيتقاتلون. فأما الرسالة التي إلى الفنان الشاب كوسار، فإنها التي يستنطقه فيها ويدعوه للتحدّث والإفصاح عن رأيه في جميع ما جرى من الوقائع، فيما الثانية يحاور فيها قتلة الخيول ، من خلال عتبة المكان والمأثور الكرديين اللذين سيطلقان صرختيهما هما الآخران .
و”خيول كوسار” في كلمات أخيرة فلم روائي قصير . وهو وإن جاءت كتابته على شكل قصيدة توجب على المخرج تحويل المفردات المقروءة إلى صورمرئية، إلا أن هلمت الذي يستفيد كما أشرنا من تقانة السرد ،يقدّم اكثرمن تشكيل صوري الغاية منها الإرتقاء بالقصيدة وتخصيبها بما يوصلها إلى المنزلة التي تكون المفردة فيها ،ناقلة لكل ما يعتمل في أعماق الشاعرالكردي لطيف هلمت من أسباب الحزن .وهذا يعني وجوب قراءة القصيدة كمثل سابقاتها بصريا أوصوريا، والبحث عما فيها من اللقطات والمشاهد، ليس بهدف أفلمتها كما قد يتصورالبعض، وإنما لمعرفة مكوناتها الجمالية التي يأتي في المقدمة منها علاقتها بالسينما وما فيها من الأبنية المرئية .
إنها عملية تداخل الأجناس التعبيرية ، هذه التي نجد مقتربات توضيحية إليها من خلال الوقوف أمام تجربة لطيف الشعرية، التي فيها من الصورالكثير، وقد حمّلها صانعها بالكثيرمما يشير إلى النزوع نحو التجسيم والإيحاء والحركة ، وكذلك توليد الإيقاع في القصيدة . وسوى عملية التداخل هذه، فإن نصّ هلمت في تشابكه مع البنية البصرية، إنما يطمح صاحبه إلى ضمان الوصول السلس إلى القارئ ، وبما يثري ذائقته الجمالية، وقدراته القرئية كذلك .
الهوامش
====
ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة د. فريد زاهي، دار المأمون
للترجمة والنشر ، بغداد2007 ،ص56
هوشنك درويش ، التوالد الصوري في السياق النصّي، منشورات مجلة
به يفين ، رقم6 ، سليمانية
طاهرعبد مسلم ،الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة، دار الشؤون
الثقافية، بغداد ة2005،ص12
لطيف هلمت، الريح لا تصادق أحدا(ديوان)، ترجمة عبدالله طاهرالبرزنجي،
دار الغاوون،ص7
الديوان ص52
د. محمد صابرعبيد،الحراك الشعري في القصيدة، مجلة سردم العربي
35/2012، سليمانية
الديوان ص60
الديوان ص61
الديوان ص69
جدير بالذكرأن “خيول كوسار”تمثال قوامه الخيول كان قد أنجزه الفنان الكردي الشاب كوسار، وقد بقي شاخصا في مكانه في منطقة سرجنارالتي هي أحياء مدينة السليمانية الشهيرة ، المدينة التي يعيش فيها الشاعرلطيف هلمت، وعندما اندلعت الحرب الأهلية التي حصدت الكثير من أرواح الكرد، غاب التمثال، فما كان من الفنان الشاب إلا أن ينتحراحتجاجا، فكتب هلمت هذه القصيدة للتعبيرعن عمق المأساة التي يعيشها شعبه .
عثمان أبو زنيد ، النصّ..الحدود والمكونات ، مجلة جرش الثقافية11/2009
الديوان ص89