*يوسف ضمرة
في نص قصير لبورخيس جاء ما يلي «لكي يرتعب قيصر تماماً، دفعه أصحابه للارتماء على قدمي تمثال بخناجرهم نافدة الصبر، لكنه يكتشف بين الشفرات والملامح وجه مرسيس جينيوس بروتس، خادمه، وقد يكون ابنه، فكف دفاعه عن نفسه، هاتفا: حتى أنت يا بني! وكان على شكسبير وكيفيدو أن ينعشا الصرخة المشجية».
يمرر بورخيس هنا معلومة غريبة، وهي أن بروتس هو إما أن يكون خادم قيصر أو ربما ابنه، ولهذا قام شكسبير بإنعاش الصرخة المشجية، على حد تعبير بورخيس.
الصرخة المشجية كانت تمتلك قوة تأثير عالية، منحت كاتباً مثل بورخيس الجرأة على التفكير على نحو آخر. ولكن، مهلاً.. هل يعتبر هذا تشكيكاً في تراجيدية شكسبير وتفاصيلها؟
هذا في حد ذاته بسيط جداً، وأمر قابل للاجتهاد والتأويل، إذا ما قورن باللازمة المرعبة التي تجعل بعض الآثار أكثر خلوداً من غيرها.
نعم، لا يكفي أن يكون بروتس صديقاً مقرباً لكي يطلق قيصر هذه الصرخة المشجية. فالآخرون كانوا أصدقاء قيصر. وحتى لو كان بروتس هو الأكثر قرباً لما توقف قيصر عن الدفاع عن نفسه ليطلق هذه الصرخة. ثمة أمر جلل وعظيم هو الذي جعل قيصر يطلق صرخته. هل كان بروتس ابنه حقاً؟
ليس هذا موضوعنا هنا بالطبع، ولكن موضوعنا هو مقدرة بعض الكتابات والإنجازات الإبداعية على مرافقتنا الحياة في العصور كلها، بحيوية بالغة، لا تجعلنا نتوقف عن التفكير فيها.
«أكون أو لا أكون.. تلك هي القضية» هل ينسى أحد مقولة هاملت هذه؟ كم مرة نسمعها في حياتنا؟
من أين لمثل هذه النصوص تلك القوة الحية التي تجعلها قادرة على مرافقتنا؟ ما الذي يميزها عن نصوص كثيرة أخرى تولد وتموت؟
عند الحديث عن شخصيات الإلياذة مثلاً، نشعر نحن البشر بقرب حقيقي منها. نتقرب إلى آخيل وأغاممنون وهكتور ويوليسيز وآخرين. وهي ملحمة تخص شعباً آخر وبلاداً أخرى، وتنطوي على الكثير من الشرور والجنون البشري. والغريب أن أكثر الآثار الباقية صاحبة القوة على الاستمرار معنا، هي الآثار المملوءة بالشر، هذا لافت ويثير الاهتمام. لماذا تمتلك المآسي كل هذه المقدرة على الاستمرار والتأثير؟ فلو لم تنتهِ قصة روميو وجولييت «قصة حب» بانتحار العاشقين لما عاشت كل هذه الحياة. ينطبق هذا القول على آثار عظيمة أخرى.. جلجامش وآنا كارينينا وإيما بوفاري وطرفة بن العبد والشنفرى وآخرين. فكل هذه الآثار مليئة بالشر. هل يعني هذا أنها تشكل مرآة أمامنا فتكشف أعماقنا التي نحاول التكتم على ملامحها؟ هل ندرك حقيقتنا ونحاول التعامل مع هذا الشر كنصوص خارجية لا تعنينا شخصياً ولا تمت إلينا بصلة؟ هل هو هروب إلى الأمام مثلاً؟ لكننا ندرك أن أي هروب نقوم به، لن يكون قادراً على محو صور الشر على امتداد تاريخ البشرية منذ قابيل.
لقد شكل القتل أكثر ملامح الشر البشرية، وهو لايزال إلى اليوم الملمح الأكثر بروزاً وقوة وتأثيراً. وعندما نقول القتل فإننا نميز بين الموت العادي والقتل الإرادي المتعمد. ثمة فرق هنا لا يمكن إغفاله. إنه السقوط التراجيدي المدوي للإنسان. وهو يعادل في دويّه زلازل وبراكين. وربما يكون هذا هو المحرك الرئيس لهذه الآثار التي تعيش معنا، وستظل تعيش دائماً بقوتها المعهودة.
_____
*الإمارات اليوم