*هيثم حسين
يقارب السوريّ مصطفى سعيد في روايته “مغلق للصلاة”، “ميريت، القاهرة 2014”، التعتيم المفروض على عدّة جوانب اجتماعيّة، بحجّة الحرص والحماية من طيش الزمن ومستجدّات العصر التي قد تفتك بالبشر، ولا سيما أنّ الفساد يكون في صدارة تلك التبريرات المقدّمة في سياق اختلاق ذرائع القمع والمنع والإذعان.
يصوّر الكاتب شبكات من الفساد والإفساد، بعضها يمارس دوره باسم الدين، وآخر باسم الفنّ، وثالث بزعم الدفاع عن الناس، وكيف أن تلك الشبكات تتقاطع في دوائر تظهر حجم الخديعة التي تتعمّم في ثنايا الطبقات المتباعدة التي تفصل بينها حواجز مكهربة يكون الاستعداء ميسمها. كما يحكي عن ديدن المتأسلمين في التنكيل بأولئك الذين يخالفونهم الرأي، وإباحتهم لأنفسهم المحرّمات بحجّة أو بأخرى.
فضائح ومكائد
تشتمل الرواية القصيرة على الفصول التالية: “سجود خنجر”، “هفوة حبر”، “جار الاتّصال”، “غصن قطران”، “مصنع تخمير الشرّ”، “عمق الضياع”، “عجين التدنيس”، “هيام الماء”، “سأمحو ظلّي”، “غبطة من هلام”، “مكيدة الملائكة”، “موجز أهمّ الأنباء”.
بطل الرواية معن راجي يكون فنّاناً مشهوراً يتلقّى رسالة غريبة من امرأة مجهولة تهدّده بأنّه إن لم يتواصل معها في غضون وقت محدّد ستنتحر وتتّهمه بذلك، وتسرد له في رسالتها تفاصيل الإيقاع به واتّهامه في حال عدم مهاتفته لها، فيجد نفسه في موقف حرج، ينوس بين الفضول والرهبة، خاصّة وأنّه يعاني جرّاء وقوعه في فخّ نصب له سابقاً، وتسبّب له بفضيحة مدوّية تلقّفتها وسائل الإعلام وتداولتها حيث نالت منه ومن سمعته، وتسبّبت في إفلاسه.
الفنّان طيّب القلب يتواصل مع المرأة المجهولة مريم، تستدرجه مريم بصوتها العذب الهادئ وثقتها بنفسها، تحدّثه عن معاناتها المريرة، وهي التي تمّ تزويجها في سن مبكّرة حين كانت في الثالثة عشرة، بناء على رغبة أبيها، من رجل متنفّذ يكبرها بعقود، تعيش معه أسوأ سنوات حياتها، تنجب ابنة وحيدة، تكون لها حياتها كلّها.
هوس الانتحار
تحكي مريم للفنّان حكايتها، وهي المعجبة به وبأعماله، وتعرف كلّ شارة وواردة عنه، لأنّها أصبحت خبيرة قرصنة إلكترونيّة، تقرصن أيّ حساب تريده، وذلك بعد تراكم خبرة سنوات على الشبكة العنكبوتيّة التي تعرّفت فيها إلى أناس غرباء عنها، أقامت علاقات ووطّدت صداقات باسمها المجهول وشخصيّتها الشبحيّة وحضورها الواقعيّ في العالم الافتراضيّ. كانت تسطو على حسابات وتكتشف تفاصيل العلاقات وأسرار الصفقات والشراك والعصابات السلطويّة. لكنّها لا تحاول إيذاء أحد ممّن لا يستحقّ الأذى، توقف عملها على إعادة الأمور إلى نصابها إن أمكنها، لكنّ مأساتها تكمن في عدم تقبّلها لواقعها، وتهديدها الدائم بالانتحار الذي يظلّ شاغلها الدائم.
تعيد مريم لراجي ما نهب منه على يد متعهّده اللصّ ومحاميه المتواطئ معه، ترجعه إلى حالته الطبيعيّة قبل الإيقاع به، تعيده إلى الأضواء، وهو الذي كان يشكو لها بؤسه قبل الشهرة وبعدها، وكيف أنّ الشهرة تقعد المرء وتعطّل حياته وتصبح قيداً عليه في حلّه وترحاله. يغدو كلّ واحد منهما الترياق للآخر، يؤنسان بعضهما عبر الهاتف، يكون الصوت وسيلتهما للتواصل، يتعلّقان ببعضهما بعضاً، والتعلّق بدوره يصبح قيداً مضافاً إلى سلسلة القيود الموجودة بينهما ومعهما.
تحاول مريم إنقاذ ابنتها من زواج مشابه لزواجها، تعقد صفقة مع زوجها وتقوم بتخليص ابنتها من براثن أحد الشيوخ الذين يتّخذون الدين ستاراً وقناعاً للوصول إلى غاياتهم، ويكون متزعّم عصابات من الأتباع في أكثر من دولة ومدينة، حيث يكون له في كلّ مكان يذهب إليه بيت وزوجة، وذلك بإيجاد أعذار واختلاق فتاوى تبيح له ذلك.
انتقام مدوٍّ
مريم الخبيرة بدقائق الأمور، الخطيرة بتخطيطاتها ومكائدها، تضرب موعداً لراجي، تتّخذه وسيلة لاستكمال انتقامها من المجتمع الفاسد، تتّفق معه على اللقاء في الأوبرا قبل بدء حفلته، وبطريقة بوليسيّة واحتياطات كثيرة ترافقه إلى غرفته، تتخّطى الحراسة والتفتيش وبذلك، تكشف له عن وجهها في الغرفة، ولا تفسح له المجال للتمادي. تخرج مسدّساً تهدّده بالتراجع، وتعترف له بحبّها له وتقديرها الكبير لمشاعره إزاءها، وأنّ كلّ واحد كان المخلّص للآخر، ثمّ تقصد خشبة المسرح لتفجّر الحزام الناسف الذي ترتديه. يقع ضحايا كثر بالإضافة إلى كثير من الجرحى، تكون الحادثة مفجعة بكلّ المقاييس. يقضي فيها الجميع دون استثناء، وكأنّ العدم هو الحلّ الوحيد المرتقب، أو كأنّ الدمار هو المخرج من حالة الفساد المستشرية بجنون لا يوصَف.
ضحية وجلاد
يبرز الكاتب كيف أنّ المرء يمكن أن يكون الضحيّة والجلّاد في الوقت نفسه، فمريم التي كانت ضحيّة تخاذل أبيها وتواطؤ أمّها عليها، تكون صلبة في مواجهة زوجها وعنيدة في القرصنة وكشف التلاعبات، وربّما يكون في سلوك الانتقام البادي عليها انعكاس للضعف الذي يسمها واقعيّاً ورضوخها لتأمّر زوجها، والاكتفاء بما حدّده لها من موازنة وقيود، وما فرض عليها من واجبات. كما أنّ راجي نفسه يكون الجلّاد والضحيّة أيضاً، ينقذ مريم، لكنّه يتسبّب في عذاب الكثيرات، وحتّى في تعذيب نفسه أيضاً. جلّاد نفسه وضحيّة شهرته وجنونه.
يصف مصطفى سعيد تفاصيل العلاقات الداخليّة والمحسوبيّات التي تتخلّل بنية التنظيمات الإسلاميّة التي تضع الإسلام كشعار في حين أنّها تمارس كثيراً من الموبقات باسمه، وترى جهودها تنصبّ في خدمة أعداء الإنسانيّة، عبر حصر الدين في الانتفاع والارتزاق والإجرام وتعميق الانقسامات بين الناس، وتقييد الحريّات وتعطيل سبل الحياة.
يستعين الروائيّ بالحوارات الطويلة التي تأخذ الحيّز الأكبر في الرواية، ذلك أنّ التواصل بين الشخصيّتين الرئيسيتين يكون عبر الهاتف أو إحدى وسائل التواصل الاجتماعيّ، ولا مناص من التحاور عن بعد، حيث أنّ تلك الدردشات التي تقطعها مريم بالصلوات والفواصل بين الواحدة والأخرى، تلقي الضوء على العتمة التي ترزح في ظلالها من جهة، والانفتاح الرهيب الذي يسم سلوكها الإلكترونيّ المفترض من جهة أخرى.
مفاجأة صادمة
يتنقّل الكاتب بين العالمين؛ الواقعيّ والافتراضيّ، يلتقط التعالقات بينهما، والتأثيرات المتبادلة، ثمّ ينتقل للمواجهة عبر تحوّل الأشباح المفترضة إلى شخصيّات حقيقيّة تبثّ الرعب والهول في الأرجاء، وحقيقة كونها تعرّضت للابتزاز التي تجعلها مصدّرة للإرهاب على طريقتها الخاصّة، ولو كان ذلك يضعها في مستنقع الإجرام الذي يتمّ تغليفه بمسمّيات أخرى.
يحضر لدى صاحب “أسياد بلا جياد” جانب من التناقض في تصوير ضعف الشخصيّات وقوّتها، وكأنّها تماري التناقض الموجود في مجتمعها، فالشخصيّات غير المنتمية إلى مكان بعينه، تكون ابنة زمنها المعاصر بما فيه من تقنيات، وفي الوقت نفسه تعيش في رهاب الحاضر والمستقبل، تتفنّن في رسم صور ضبابيّة عن نفسها، تكون الشكوك التي تسكنها متعدّية بمفعولها، تنتقل إلى الآخر الذي يشكّ بواقعيّتها، لولا أنّ الخاتمة تكون باعثة على المفاجأة الصادمة.
يرمز الكاتب إلى تلك اللافتة التي يعلّقها عدد من أصحاب المحالّ التجاريّة على أبواب محالّهم حين ذهابهم لأداء الصلاة في المسجد، وكيف أنّ تلك اللافتة توظّف لأغراض بعيدة عن الصلاة، كأن يمارس أحدهم فعلاً شائناً في مخبئه، ويقوم بوضع “مغلق للصلاة” على بابه في مسعى للتضليل وإيجاب التقدير المأمول، وإن كان بإيجاد تبريرات واهية لأفعال مشينة.
___
* العرب