*مصطفى الولي
عن دار “الآداب”، ببيروت (2013)، صدرت رواية بعنوان “لقيطة اسطنبول”، للكاتبة التركية إليف شفق، قام بترجمتها إلى العربية محمد درويش؛ وسبق لشفق أن نشرت عديد الأعمال منها “الصوفي” و”مرايا المدينة” و”نظرة محدقة” و”قصر البرغوث” و”قواعد العشق الأربعون”، وبالأنكليزية كتبت أولى روايتها بعنوان “قديس الحماقات الأولى”.
تدور أحداث رواية “لقيطة اسطنبول” في تركيا، على امتداد ثلاث سنوات، وقد أشار عدد من شخصيات الرواية إلى موت آلاف الأرمن في العام 1915، ووصفت الأحداث بالإبادة الجماعية.
تتكون الرواية من 18 فصلا، يحار القارئ في سرّ عناوين الفصول وهي “قرفة وحمُص وسكَر وبندق محمَص وفانيلا وفستق وقمح وحبَات صنوبر وقشور البرتقال ولوز ومشمش مجفف وحب الرمان وتين مجفَف وماء وزبيب ذهبي وماء ورد ورز أبيض وسيانيد البوتاسيوم”.
غموض وحيرة
هذه العناوين تفتقد إلى الصلة بين كل واحد منها، وبين السرد في هذا الفصل أو ذاك، فبالكاد نجد كلمة واحدة أو جملة فقط، تردد العنوان ولمرة واحدة، مثل: بائع اللوز وقرفة مطحونة ورائحة الفستق وهكذا.. حتى الفصل ما قبل الأخير عندما نطالع معلومة عن “طبخة تراثية” تتشكل من مجموع المواد التي اختارتها الكاتبة لتكون عناوين لفصول روايتها وتسمّى “عاشورية”. لكن لسيانيد البوتاسيوم قصة أخرى، لا يستخدم مع تلك المواد، ولكنه “السيانيد” سيلعب دورا في تراجيديا الحدث الروائيّ، فهو سمّ قاتل.
رواية النساء
يتحرك عالم الرواية من خلال أحداث عائلة تركية “قازنجي”، والتي تتألف من أربع نساء وأمهن وجدتهن، ورجل واحد، يعيش في أميركا، وتنضم إليهم لاحقا “لقيطة اسطنبول”، التي تدعى آسيا وهي ابنة الأخت الصغرى لعائلة قازنجي، زليخا.
أحد أسرار العائلة قازنجي، أنَ رجال العائلة يرحلون مبكرا، وغالبا في سن الأربعين، وهو العمر الذي سيقضي فيه مصطفى، شقيق الأخوات الأربع، وبشكل مأساوي. وفي جزء ليس بقليل، تقدم الرواية شخصيات أرمنية تلعب دورا في مساحة لا بأس بها من السرد الروائي، وأهمها روز وابنتها أرمانوش، حاملتا لقب أرمني هو “جقماقجي”.
كما تستدعي الكاتبة عددا من الشخصيات التي عاشت في مطلع القرن العشرين، من خلال حكايات الأحياء من العائلتين “قازنجي وجقماقجي”. زليخا أم اللقيطة، حاولت الإجهاض وهي حامل، ولكنها فشلت، لأنها رغم التخدير استمرت تصرخ في العيادة وتأتي بحركات متشنجة، فامتنع الطبيب عن إجهاضها، وعدلت هي عن الفكرة. ولكون شخصيتها قوية لم تنكر أمام أخواتها وأمها أنها زارت طبيب النساء بغرض الإجهاض، وهي المعروفة كعازبة، لكنها متمردة على عادات مجتمع أسرتها، وتعيش حياتها كما يحلو لها، لذلك لم تنل رضى شقيقاتها وأمها وجدتها، لكن هاجسها وقلقها يبقى موضوع اغتصابها، حتى بعد ولادة ابنتها التي أطلقت عليها اسم آسيا. ولعل مهنتها “الوشم” وزيها وصداقاتها، وعلاقاتها مع الرجال بلا قيود، جعلتها آثمة في نظر شقيقاتها، فالمسألة أبعد من “الحمل الحرام”.
توظف الكاتبة إحدى الشقيقات “بانو قازنجي”، التي تعمل كمنجمة، لتقدمها في السرد، كمخرج من القضايا الشائكة، وغير المعقولة، لكنها تهذي أكثر مما تتكلم كلاما منطقيا، ولا تجد حلا للكثير من المشكلات، وأهمها مشكلة “اللقيطة” آسيا، ابنة أختها زليخا.
هويتان ضائعتان
أمضت آسيا طفولتها، منذ أن تناهت إلى سمعها، كلمة “لقيطة”، وهي في السنة الدراسية الأولى، ولازمها قلق السؤال عن الأب حتى يوم موته.. لمّا مات علمت من هو. وحتى ذلك اليوم، لم تخاطب آسيا أمها زليخا “أمي” بل خالتي، ولا تنزعج زليخا الأم من استخدام ابنتها نداء “خالتي”، فالاغتصاب الذي حملت منه وأنجبت، لم يكن يشبه أي اغتصاب.
كما أمضت الأميركية من أصل أرمني “أرمانوش”، جلّ السنوات الأولى وهي تحاول معرفة جذورها، وما كان لأسرتها من تجارب عندما كان أفرادها في اسطنبول. “ولما كانت طفولتها ممزقة، فإنها لا تزال عاجزة عن العثور على الإحساس بالتواصل والهوية. وعليها أن تنطلق في رحلة إلى ماضيها كي تتمكن من العيش على هواها. ولأنها كانت الابنة الوحيدة لأب أرمني، وهو نفسه طفل لأحد الناجين والباقين على قيد الحياة ولأم من مدينة إليزابيت في كنتاكي، فهي تعرف شعور التمزق بين حالتين من الوجود”.
في ضيافة أسرة قازنجي، كاد الحوار بين أرمانوش القادمة من أميركا ونساء العائلة، بانو خاصة، أن يحتدم لولا زليخا وابنتها آسيا لتفهمهما ما تريده الأميركية “الأرمنية”. وحكت أرمانوش قصة مجيئها إلى اسطنبول، لتبين أن غرضها هو البحث عن جذورها، والتعرف إلى مدينة أجدادها. فأحدهم كان أديبا ومثقفا كبيرا، وضع الأتراك اسمه على قائمة المثقفين المطلوب التخلص منهم في سنة 1915. ولم تكن مدفوعة بالحقد أو الرغبة في الانتقام.
لم يكن وقع روايتها هو نفسه على نساء “قازنجي” التركيات، فإحداهن وصفت ما فعله الأتراك بالأرمن بالخزي والعار، والجريمة وبأنهم ليسوا آدميين.
في لفتة مهمة تقصّدتها الكاتبة، حيث أوضحت أن أرمانوش التي كانت ترغب في ما يعادل الاعتذار لها عن مجازر الأرمن، وهو ما لم يتحقق رغم تعاطف نساء قازنجي مع أرمانوش. فهن “نساء قازنجي”، لا صلة لهن بمرتكبي تلك الجرائم. وفي النهاية استطاعت الأميركية من أصل أرمني الوصول إلى رابط قوي لعائلة أجدادها مع اسطنبول، ولم يكن غرضها إثارة مشكلة مع مضيفاتها التركيات. لقد تكونت لديها نظرة عن اسطنبول باعتبارها جميلة، زاخرة بتنوع السكان.
نهاية دراماتيكية
لكن هوية “لقيطة اسطنبول” لم تتبين بعد، من هو والدها؟ لذلك، ولأسباب أخرى، ربما، وفي حوار مشترك عبر شبكة الإنترنت، تعتذر آسيا عن كل المعاناة التي ألحقها أجدادها الأتراك بأجداد الأرمنية التي تكتب من أميركا، فتبالغ هذه الأخيرة في طلبها من آسيا الاعتذار بصوت عال على مسمع “دولتها التركية”، فيكون رد آسيا قويا: دولتي؟ لا علاقة لي بدولتي.
لم تكن روز تعرف رحلة ابنتها إلى اسطنبول، وبتأثير ضغط زوج روز السابق، والد أرمانوش، لضرورة حضورها إلى أميركا كي تشهد دفن جدتها لأبيها، اضطرت روز الأرمنية الأصل، وبإقناع من زوجها مصطفى، التركي الجنسية، بالذهاب معها لإحضار أرمانوش من اسطنبول، دون أن تتخيل أنها تدفع مصطفى دفعا نحو الموت عن غير قصد أو دراية.
وهنا جاءت وظيفة “العاشورية”، التي تشكلت موادها الغنية والمتنوعة من عناوين الفصول، مضاف إليها السيانيد، بتدبير من زليخا وبالتعاون مع شقيقتها بانو التي ادّعت صداقتها مع “الجان”.. وتتوقف أنفاس “الأب”، بعد اللقمة الأولى من العاشورية، التي أعدتها الأسرة لاستقباله، دون أن تعلم شقيقاته بأنها ستصبح “عاشورية النهاية” لشقيقهن مصطفى.
زليخا لم تبك عليه، فهو من اغتصبها، وما استطاعت البوح به لأحد، حتى لابنتها آسيا “لقيطة اسطنبول”.. وتبوح لها بعد موته، ليكون خالها… والدها. ثمة هدوء وتوقف في كل عويل، أو ربما في كل حزن ثمة شخص ما لا يستطيع مشاركة الآخرين في العزاء. تمتمت آسيا، وهي تنظر لجثمان مصطفى: بابا.. بابا…
______
*العرب