قصص انفصال الشَّبَكِيّة


*منير عتيبة

لوحتي

أنا في الربيع. لكن عاصفة شتائية باردة اقتلعت كل أوراق أشجار الغابة الكثيفة، وألقت بها في حجرتي حتى كادت تخنقني. زعقت منادياً أولادي. لا استجابة. هل سمعوا؟.

قمت بصعوبة شديدة محاولاً وقف نزيف الأشجار، لكن الأغصان السميكة تساقطت من اللوحة فوق رأسي وأنا أمدّ قدمي خارج الغرفة.

صور

حجر جيريّ أبيض باهت. قدم صغيرة في بوت «باتا» كحلي مُجَرَّب كرة في جورب بني ممزّق. ظفر يطير ودم قانٍ يتدفق. نخلة خضراء متربة. حصى وقطع من الطوب الصغير الأحمر. بلح طويل شديد الاحمرار، بلح شديد الأصفرار، بلح بني متغضن. عيون القطة الخضراء منعكسة في طبق اللبن شاهق البياض. الجدة الزرقاء اللامعة وضحكة سنّتها الفضية. عيون متدفِّقة من مياه ترعة تعلوها رغوة بيضاء بحواف من ذهب. شمس الظهيرة ضفائر شقراء. مريلة كحلي. خطوة وئيدة بحذاء أسود وجورب أبيض. دفء عناق الأصابع البيضاء الصغيرة والأصابع السمراء الصغيرة…

ما المتعة التي يشعر بها المرء وهو يلوك طعم الألوان القديمة؟.

1

ذاكرة الألوان

دموعك المالحة ثقبت شبكتك التي كنت تصطاد بها صور البهجة الملوَّنة. وأخذ الضوء يسقط في هوّة العتمة بلا عودة. فتمسك بذاكرة الألوان المراوغة في داخلك، ولا تفّرِط في صورك القديمة وإن تكن باهتة وغائمة الملامح.

ألوان الصوت

صوت التوك توك المزعج تحت شباك حجرة نومي أسود جربان. صوت منادي موقف السرفيس بنّي محروق. صوت «ملك» الصغيرة أخضر زرعي. صوت الجارة التي تسب أوزّاتها فوق السطوح المجاور أصفر فاقع. صوت «نجوى» و«خلود» برتقالي هادئ وأحمر مشاكس. أصوات أصدقائي وإخوتي عصير كوكتيل الفواكه. صوت «عبد الرحمن» ابن أختي المنغولي الجميل وهو يشخر أبيض وردي. صوت الجار المعاند كحلي قاتم. صوت زوجتي هيام أزرق دافئ مُبَلَّل بالدموع. أما صوت أمي فهو كصوت الحب البعيد قوس قزح.

أصابع وألوان

الأشواك في غصن الوردة بيد الجميلة لم تكن تجرح لأنها مدبَّبة، بل لأن لونها باهت الاخضرار وتريد أن تلفت خلايا أصابعي إليها. قفزت الأصابع إلى أعلى فشعرت بلسعة مثيرة، وعلمت أنها فوق الخد الشديد الاحمرار. تحرَّكت الخلايا ببطء حتى استكانت في زرقة العين، فنبتت لها أجنحة طارت بها إلى أعلى حيث احتواها صفاء روحاني بفعل ألوان السماء الحليبية. هبطت بهدوء يدغدغها غموض ما، فعلمت أنها تتحرَّك فوق الشعر الأسود. واستثيرت فجأة بلذّة لا متناهية فهي ترقد الآن فوق بياض الصدر العاري. يسحبها اللون الأبيض إلى أسفل ببطء لذيذ. تطلب مني زوجتي أن أتزحزح قليلاً لتغِّير بطانية السرير قبل أن تضع القطرة في عيني.

2

أحلام حول الأب

أبوك الذي لم يزرك في حلم واحد منذ رحيله يحوطك الآن وأنت مستيقظ. مستيقظ كالنائم. نائم في لجّة العتمة الزرقاء. ينزل من سيارة فخمة ذات ألوان سبعة مرتدياً حلّة زاهية الاخضرار، يحتضنك يقبل خديك، يركب السيارة ويغادر كما حكت لك أختك عن حلمها. أما جارة أمك فقد اشترى منها في حلمها ساعة يد ذات حوافّ مذهبة وعقارب ملونة راقصة، وأخبرها أنه سيهديك إياها. وفي حلم ابنتك فتح صندوقاً أبيض فخرجت منه ألوان وألوان ، أخبرها أنها جوهر الألوان الأرضية، وأنها هديّته لك أيضاً.

سألت صديقتك خبيرة تفسير الأحلام عن جدوى كل هذه الألوان لمن هو مثلك، ولماذا لا يأتيك بها في حلم يخصّك، فصمتت.

بعث

كرجل أماته الله مئة عام، ثم بعثه تفتح عينيك. زوجتك ترتدي «البروج» القطيفة النبيتي كما تركتها. بناتك كما هن لم يكبرن. ساعة الحائط في مكانها المعتاد. الساعة بستين دقيقة. حائط حجرة نومك ملطَّخ بإبداعات السريالية. لم يتغيَّر شيء، فقط الرجل الذي تنظر إليه في المرآة أصبح عجوزاً جداً.

في مديح المرض

كطفل في الخامسة والأربعين تطعمك أمك بيدها. تحمِّمك زوجتك بحرص حتى لا يطال الماء الشاشة التي تغطّي عينك. تغنّي لك ابنتك ما تحفظه من أغنيات سيد درويش وعبد المطلب. بينما تنام ممدَّداً على بطنك دافناً رأسك في الوسادة. كتعليمات الطبيب يعبق جو الحجرة بدفء نميمة نسائية لذيذة. يغادرنك. عيناك المغلقتان تجاه الخارج تنفتحان على اتساعهما إلى داخلك، ترى كنوزاً ومغارات قريبة لم تكن تلتفت إليها، تضع عليها علامات فسفورية ملوَّنة لتعرفها وقت الحاجة. امتداد الكون المجهول الغامض في داخلك لا نهائي.
_____
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *