«عساكر قوس قزح» لأندريا هيراتا باعت 5 ملايين نسخة


*د. لينا عوض

حين صدرت روايةُ «عساكر قوس قزح» عام 2005 بيع منها ما يزيد على 5 ملايين نسخة في أندونيسيا، وكان لها أن تنتظر ليُعاد اكتشافُها من جديد، وبشكل أوسع بعد صدور الترجمة الإنجليزية للرواية في عام 2012 ولتحقق مبيعات جعلتها واحدة من الروايات الأكثر مبيعا في العالم. وجاءت الترجمة العربية لتُعرّف القارئ العربي بهذه الرواية عام 2013 حين صدرت عن دار المنى وبترجمة متميزة للمترجمة سكينة إبراهيم، لتكون بذلك أول رواية أندونيسية تُنقَل إلى العربية، بالإضافة إلى كونها واحدة من أبرز الأعمال الأدبية العالمية التي صدرت في العقد الماضي.

عندما قرأتُ رواية «عساكر قوس قزح» للمرة الأولى تذكرتُ على الفور ذلك التصدير الذي أثبته جابرييل جارثيا ماركيزفي كتابه «أن تعيش لتحكي»: «الحياة ليست هي ما عاشها المرء، بل ما يتذكره، وكيف يتذكره ليحكيه».
إعادة إنتاج الواقعة
فالرواية مبنية على أحداثٍ واقعيةٍ مستمدةٍ من حياة أندريا هيراتا، بل إن بعض المراجعات للرواية ذهبت إلى حد القول بأنها جزء من السيرة الخاصة بأندريا هيراتا. وبتجاوز النقاش حول روائية السيرة، وسيرية الرواية، الذي ليس مكانه هذا المقال الموجز، يمكن للقارئ أن يدرك أهمية البناء الروائي في هذا العمل الذي يحوّل التجربة الخاصّة إلى ظاهرة ثقافية عامة من خلال تلمس ذلك التكنيك السردي الغائي الذي تعمده أندريا هيراتا، والذي يضع القارئ عند خط رفيع بين الواقعي فيما هو سيريّ والإيهاميّ فيما هو سرديّ، مع قدرة على حفظ التوازن بين الاثنين على نحو مثير للدهشة؛ فبناء الرواية الخطيّ والتقاط التفاصيل المستندة إلى الواقع الأندونيسي تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا وثقافيا، والبناء الواقعي للشخصيات فنياً، مع حضور بعض التقريرية، يقترب بالرواية من السيرية التسجيلية؛ على أن امتحان اختيارات الكاتب الروائية لتُظْهِر شيئاً آخر، فعلى سبيل المثال يَظْهَرالتنوع المذهل في مرجعيات الشخصيات الثقافية دينيا وإثنيا وطبقيا وجندريّاً ونفسيّاً؛ إذ تجمع المدرسة المحمدّية في قرية أندونيسية عشرة من الطلاب يحاربون من أجل الإبقاء على مدرستهم مفتوحة، وهم جميعا يأتون من مرجعيات مختلفة وشرائح متباينة تتنوع ما بين مسيحي ومسلم وبوذي ومالاوي وصيني وفتاة ذات نزوع متفرّد بخصائص نديّة وطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى فتاة تأتي من النخبة البرجوازية التي احتفظت بالإرث الخاص للإقطاعية الخ.. وقد استطاعت معلمتهم الشابة أن تحافظ على الغنى المتحقق من الاختلاف فيما بينهم، وهو ما أوصلهم إلى إثبات أصالة هويتهم وفرادة إنجازاتهم من حيث هم مجموعة قائمة شرطيا على الاختلاف. إن القدرة على فهم الاختلاف كضرورة وجودية والاحتفاء به بطريقة دريديّة (نسبة إلى جاك دريدا) لَتُشير إلى إعادة إنتاج الواقعة السيريّة بوعي يتجاوز السرد التقريريّ التسجيليّ الذي يتوهم القارئ وقوعه في هذا العمل، ويثبت أن ما كان يقدمه أندريا هيراتا ليس نقلا لصورة المجتمع الأندونيسي في فترة محددة، بل هو إعادة تركيب لعناصر ثقافية بوعي ما بعد حداثيّ.
ويمكن لنا تتبع ذلك أيضا من خلال استعراض طريقة عرض فكرة (ضرورة المعرفة وجدوى التعليم) التي قد تظهر بشكل كلاسيكيّ مثاليّ.. على أن الأمر مع وقفة بسيطة ليَستبينُه القارئُ بطريقة مختلفة؛ إن دمج معركة المعلمة الشابة وتلاميذها من أجل الإبقاء على مدرستهم قائمة مع فكرة الصراع مع الشركات الصناعية الكبرى التي سيطرت على البلدان المستعمرة بعد خروج الاستعمار منها، يحوّل المسألة برمّتها إلى شكل من أشكال الأزمات التي تعاني منها المجتمعات المتحررة من الاستعمار، ويبيّن أن ما فعله أندريا هيراتا كان تحليلا للواقع ومساءلة للبنى الاجتماعية، وتعقيدات تشكلاتها في حقبة تفكيك الاستعمارين العسكري والسياسي، دون أن يجعل الأمر حاضرا أكثر مما ينبغي رغم بقائه فاعلاً في صناعة الحدثين التاريخي والروائيّ.

يوتوبيا الاختلاف والتنوع
يظهرُ (جون لينون) في رواية «عساكر قوس قزح» من خلال ملصق لواحدة من أشهر مقولات جون لينون يختاره إكال ليضعه على جدار الصف المدرسيّ في المدرسة المحمدية؛ مجاورا لملصقين آخرين ولشعار المدرسة. كما نجد بعض تضمينات لمقولاته بين ثنايا الرواية بطريقة غير مباشرة. على أن الثيمة التي بنيت عليها الرواية في مجملها ـ والحاضرة رمزيا في قوس قزح الدال على التنوع والتباين الذي يحفظ لألوانه قدرتها على البروز، ومن ثم يمنح قوس قزح في كليته جماليته ـ والقائمة على فهم إنساني عميق لمفهوم الاختلاف والتنوع لتَجعَلُ القارئ مضطرا على نحو ما إلى استدعاء واحدة من أشهر أغاني جون لينون (تَخَيَّلْ)، فهيراتا قد أثبت ما ضَمَّنَه لينون في أغنيته من حلم بعالم إنساني مشترك. على أنه في حين تظهر نسخة لينون في هيئة يوتوبيا قد تكون بالغة الحماسة والمثالية وتختفي فيها فكرة الاختلاف والتباين كشرط لتعريف الهوية الوجودية البشرية، يجعل هيراتا لشخصياته جميعها هوياتها الفريدة والخاصة، ويجعل البيئة المحيطة بيئة حاضنة، لكنها محفزة دائما.. تمتحن طبيعة هذه الهويات من خلال المساءلة بطريق الجدل السقراطي أحيانا ـ وإن لم تفلح في بعض الأحيان في الانفلات من إطار بعض المسلمات والتنميطات ـ والحوار المعرفي أحيانا أخرى، دون أن نجد هذه الشخصيات مقصاة بسبب مرجعياتها الثقافية أو أفكارها، ودون أن نحس في أي موضع بوجود هوية ثقافية مهيمنة وهويات ثقافية هامشية، ودون أن نجد حضورا لمفهومي التسامح والتعايش اللذين يتضمنان قدرا من التراتبية خاصا بهويات أعلى تمارس قدرا من التنازل في مقابل هويات أدنى تحاول أن تكون حاضرة شرط قبول الآخر لها.
إن هذه الهويات تشكل وحدة في يوتوبيا تحتفي بضرورة الاختلاف والتنوع. وإن كانت جميعها تُمْتَحن إذ تواجه بنى اجتماعية خارج المكان الجامع لها (المدرسة المحمدّية).
حين يقول جوناثان سويفت: «نملك قدرا كافيا من المُعتَقَد ليكره بعضنا بعضاً.. لا ذلك القدر ليحب بعضنا بعضا».
على طريقة جون لينون يمكننا تحييد المُعْتَقَد ليصبح العالم أفضل. على طريقة هيراتا يمكننا أن نملك حرية الاعتقاد شرط أن نمتلك ما يضمن لنا فهما أفضل للآخر وقدرة على محبته.
«عساكر قوس قزح» هي النسخة الخاصة بأندريا هيراتا من (تخيَّل) في مواجهة الفكر الإقصائيّ بل الشوفينيّ.
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *