المثقف العراقي خادعاً ومخدوعاً


ماجد السامرائي




ربما لم يتعرض مثقف للخديعة، ويضطلع بدور “المخادعة” و”الخداع”، كما كان أمر المثقف العراقي، في السنوات الأخيرة. فلو قلنا، ونحن نتابع الأسباب، إن الدكتاتورية التي تسيّدت الواقع العراقي، في حقبة ما قبل الاحتلال الأميركي العام 2003، حاصرت “الوعي التاريخي” لدى إنسان هذا البلد، وأوجدت، في المقابل، “وعياً ذاتياً سرياً” لدى مثقفيه، فإن هذا لا يشكل مبرراً كافياً لما حصل من هذا المثقف مع دخول المحتل، ومن بعد “إنجاز” عملية الاحتلال، من ارتداد منه على حالة “الوعي الثوري” التي كان يتحصّن بها، وكأنه فقد التمييز بين “التطلع للحرية” وتقدير السلبيات المستقبلية لما حصل باسمها من قوة استعمارية خارجية، وأخرى “داخلية” متعاونة معها. 
هذا المثقف الذي كان يصفه فريقه بـ”المثقف العقائدي”، و”الأيديولوجي”، في حال التمييز النقدي، وجدناه يصطف مع “سلطة الاحتلال”، ويدعم نفوذها بما قدّم لما قامت به من مبررات ساعدت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تأمين ما ترجوه من نفوذ واستمرار، في مقابل تأمين مصالح ذاتية رخيصة بكل اعتبار. ويوم انطلقت حركة المقاومة لهذا المحتل، وجدناه يتبنى منطق سلطة الاحتلال، ويأخذ بمصطلحاتها في توصيف هذه الحركة التي زلزلت حلم المحتل بوجود مستقر أوهمه به أعوانه، كما أوهمهم هذا المحتل، من جانبه، بـ”الحرية الكاذبة” و”الديمقراطية المتوَّهمة” التي لم تكن سوى تجريب ما دعته الإدارة الأميركية ذاتها بـ”الفوضى الخلاقة” التي لم تخلق سوى ما يقع في إطار الدمار الشامل.
وإذا كان المحتل الأميركي قد استغل القوى الداعمة له في ما يمكن أن نصطلح عليه، تعريفاً، “السايكولوجية الاجتماعية” التي ستندرج في إطارها “الأوهام اللاتاريخية”، والتي بقدر ما بررت من “أفعال”، فإنها أخّرت كل ما يمكن أن يُنسب إلى التطور والتقدم، وإن بأدنى الدرجات. فقد احتجب التطور خلف هذا العامل السايكولوجي، ليُصبح حالة يجري استغلالها على غير الوجه الفعلي للتقدم. وأخلى كل شيء في هذا الواقع لـ”تجليات” هذا العامل السايكولوجي، في ارتداداته اللاتاريخية، أم في محصلات هذه الارتدادات مجتمعياً، والتي لم تكن سوى ارتدادات سلبية.
وكان من نتيجة هذا تصدّع بنى فكرية كانت تأخذ طابعاً أيديولوجياً (من فلسفية وأدبية إلى أخلاقية وفنية)، ليُصبح القاسم المشترك بينها، وعند عناصر وفئات غير قليلة، ما هو “دينيّ” ظاهراً، و”فئوي ـ طائفي”، تقسيمي واقعاً، يُحاصر الدين في ما للدين من جوهر، ويمزقه إلى “مذاهب” و”طوائف” سيستغلها “السياسي”، ليبني منها/ وعليها ما يفترضه “منظوره الحزبي”. هنا لم تعد للتقدم فيه تلك القيمة والأهمية التاريخية الراجحة. ليكتشف، هذا المثقف، أن ما استجاب له، وحصّن “بلاغته” بمنطقه، ليس إلا “فراغ مجرّد”، ووجد أن ما سايره مسايرة المؤيد له المنضوي تحت رايته يثقل بوطأته على النفوس والعقول، فيشلّ ما لها من حركة واستجابة، ومعه أدرك أن “اكتشافه” هذا تأخر إلى الحد الذي لم يعد فيه هذا السياسي في حاجة إلى “المثقف”، بعد أن أسقطه دوراً، وجرّده من كل “رؤية تاريخية” لما يقع في إطار المستقبل. وبقدر ما اقترب السياسي بـ”نموذجه” هذا من رجل الشارع، أضاع “المثقف” نموذجه الذي كان بعضهم بناه على “ثورية الرؤية” و”تاريخية الموقف”.
فهل نأخذ المثقف بحكم تراجعه المفزع هذا أمام ما وجد نفسه فيه من واقع ليس واقعه الحقيقي، متجاوباً والحالة المتراجعة لمجتمعه التي سادت، وتسيّدت الحياة بنزعاتٍ، لا تعبّر عن شيء أكثر من تعبيرها عن “خيبة الأمل” التي هزّت كل بُعد تاريخي أمامه، وفي رأسه.
هذا المثقف، وهو يعيش اليوم خيبة الأمل هذه، يجد أن ما حسبه واقعاً، ومن الواقع، لم يكن سوى حلم زائف، فإذا هو في عملية هروبه من مواجهة الواقع الذي خدعه كمن يهرب من نفسه. ولكن، الى أين؟ ما يؤسف له، ويثير القلق، هو أن الطريق التي مضى، بخطواته القلقة عليها، بلا علامات، ولن تسلمه إلا إلى الضياع، وقد استجاب بعضهم، من باب اليأس، لهذا الضياع، واختاره باختيار العودة إلى المنفى.
لا يرى بعضهم غرابة في الأمر، وهو يعود برؤيته في ما يرى إلى غير مفكّر ممن عناهم الشأن الفكري في بُعده التاريخي هذا، فيقول معه: إن أفول طبقة (أو فئة) اجتماعية يعني أفول فكرها، ونهاية ما لها من أدب، وفن، وفكر. ويتساءل من يتساءل ليؤكد هذه الرؤية: ألم يحصل نظير هذا مع أفول “الطبقة المتوسطة”، ونهاية دورها الاجتماعي والاقتصادي؟ وهناك من يضيف ما يعده حقيقة تاريخية أخرى، فيتساءل: ألم يحصل هذا مع انهيار القاعدة الحاضنة للشيوعية؟ ألم يتجلَّ هذا واضحاً مع تراجع “المشروع القومي”؟ ويكون الجواب: إن انحلال “واقع ما” يعود/ ويقود إلى انحلال القاعدة التي يقف عليها. والمسألة، هنا، ليست فردية، وإنما هي أقرب إلى “التكوين الجمعي” الذي لا يمكن حلّه حلاً فردياً. ولا يتأتى الحل بالهرب من المواجهة، كما فعل بعضهم عائدين من حيث جاؤوا، بينما حاول بعض آخر أن يستعيد “أرديته الأولى”، وركن بعض ثالث إلى خيبته يسامر الندم…
غير أن المسألة، في حقيقتها العراقية، مسألة انهيار ثقافي.. المسؤول عنه المثقف قبل “المحتل”.
* العربي الجديد


شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *