*ميلان كونديرا / ترجمة: محمد بنعبود
ذات يوم، في بداية السبعينيات، في أثناء الاحتلال الروسي للبلد، ذهبنا، زوجتي وأنا، وقد طُردنا معاً من عملنا وساءت صحتنا، لعيادة طبيب كبير بمستشفى بضاحية براغ، وهو عجوز يهودي كنا نناديه بالحكيم؛ إنه البروفيسور سماهيل صديقُ كل المعارضين. التقينا عنده ب(أ)، وهو صحافي مطارَد مثلنا، في كل مكان، ومريض مثلنا أيضاً، فاستغرقنا، أربعتنا، لحظات طويلة في الثرثرة، سعداء بجو التعاطف المتبادل بيننا.
أقلَّنا (أ) في سيارته عند العودة وجعل يتحدث عن بوهوميل هربال(1)، الذي كان آنئذ أكبر كاتب تشيكي حي. نزوات هربال بلا حدود، وهو معجب بالتجارب العامية (رواياته تعجّ بالأشخاص العاديين جداً). كانت كتبه تُقرأ بكثرة وكان محبوباً (أُعجب به كل أفراد موجة الشباب السينمائيين التشيكيين، واعتبروه قائدهم المَهيب). لم يكن له أيّ اهتمام بالسياسة، وهو أمر يعتبر غير بريء بالنسبة لنظام (كلُّ شيء عنده مُسَيّس): كان يشكل عدمُ اهتمامه بالسياسة استهزاءً بالعالم الذي تعيث فيه الأيديولوجيات فساداً. لذلك وجد نفسه، لزمن طويل، غير ذي حظوة (ما دام غير قابل للاستعمال في الالتزامات الرسمية)، لكنهم، وبسببٍ من عدم اهتمامهِ هذا بالسياسة، تحديداً (لم يسبق له أبداً أن عارض النظام أيضاً) تركوه في أثناء الاحتلال الروسي في سلام، فاستطاع، بهذه الطريقة أو تلك، نشر بعضٍ من كتبه.
كان (أ) يسبُّه بحماس: كيف قبل أن تُنشر كتبه، في الوقت الذي مُنع زملاؤه من النشر؟ كيف أمكنه أن يدعِّم النظام بفعله هذا؟ لقد قام بنشر كتبه دون حتى أن تصدر عنه كلمة احتجاج واحدة؟ سلوكه كريه، وهو متعاون مع النّظام.
كان رد فعلي بالحماس نفسه: إنه لعبث أن نتحدث عن تعاون إنْ كانت روح كتب هربال، بخيالها وسخريتها، تقع على طرف نقيض مع الذهنية التي تحكمنا وتريد أن تكتم أنفاسنا بحصارها. إن العالم الذي يمكننا أن نقرأ فيه هربال لَيَختَلف اختلافاً جذرياً عن العالم الذي لا يُسمع فيه صوته. كتاب واحد لهربال يقِّدم خدمة للناس ولحرية تفكيرهم، أكبر من الخدمة التي نقدِّمها لهم نحن بحركاتنا وباحتجاجاتنا! وسرعان ما تحوّل النقاش داخل السيارة إلى خصام حاقد.
عندما أعدت التفكير لاحقاً فيما دار بيني وبين (أ)، مذهولاً مما ساده من حقد (صادق ومتبادل)، أسررتُ لنفسي: كان تفاهمنا عند الطبيب عابراً وناتجاً عن ظروف تاريخية خاصّة جعلت منا مضطهدين؛ أما خلافنا، بالمقابل، فكان جوهرياً ولا علاقة له بالظروف؛ كان خلافاً بين أولئك الذين يعتبرون المقاومة السياسية أسمى من الحياة الواقعية؛ أي أسمى من الفن ومن الفكر، وبين من يرون أن معنى السياسة هو أن تكون في خدمة الحياة الواقعية؛ أي في خدمة الفن والفكر. ربما كان هذان الموقفان معاً شرعيين، لكن التوفيق بينهما مستحيل.
بما أنني كنت قد استطعت قضاء أسبوعين في باريس، خريف سنة 1968، فإنني قد حظيت بحديث مطول لمرتين أو ثلاث مع أراغون بشقّته في شارع فارينس. لا، أنا لم أقل له شيئاً ذا بال. اكتفيت بالإنصات إليه. وبما أنني لا أهتم أبداً بتدوين يومياتي، فإن ذكرياتي عن لقاءاتي بأراغون تبقى عائمة، ولم أحتفظ من كلامه سوى بموضوعين كثيراً ما استعدتهما: حدَّثني بإسهاب عن أندري بروتون الذي قد يكون تقرَّبَ إليه في نهاية حياته؛ ثم حدثني عن فن الرواية. حتى في تقديمه لروايتي المزحة (الذي كتبه شهراً قبل لقائنا) كان قد أطرى على الرواية، عامّة: (الرواية أساسية بالنسبة للإنسان مثل الخبز)؛ وكان ألحّ علي، خلال زياراتي، بأن أُدافع دائماً عن (هذا الفن «الـمُحَقَّر»، كما كتب في مقدمته؛ وقد استعملت هذه العبارة عنواناً لفصل من كتابي فن الرواية).
لقد احتفظت من لقاءاتنا بانطباع مفاده أن السبب الأشد عمقاً في قطيعته مع السرياليين لم يكن سياسياً (امتثاله للحزب الشيوعي)، بل جمالياً (إخلاصه للرواية، الفنُّ الذي «حَقَّرَه» السرياليون). ويبدو لي أنني كنت قد تبيّنت المأساة المزدوجة لحياته: شغفه بالفن الروائي (الذي يعد ربما المجال المركزي لعبقريته) وصداقته لبروتون (أنا اليوم على بيّنة: في زمن تقديم الحساب، يكون الجرح الأشد إيلاماً هو الناتج عن الصداقات المتصدّعة؛ فلا شيء أغبى من التضحية بصداقة من أجل السياسة، وأنا فخور بأنني لم أقم بذلك أبداً. أنا قدّرت ميتران بسبب استمراريته في إخلاصه لأصدقائه القدامى، مَا جعله هدفاً لهجومات عنيفة خلال المرحلة الأخيرة من حياته. إن ذلك الإخلاص هو ما شكَّل نبله).
بعد ما يقرب من سبع سنوات من لقائي بأراغون، تعرفت إلى إيمي سيزير(2) الذي كنت تعرَّفت إلى شعره مباشرة بعد الحرب، من خلال ترجمة تشيكية صدرت في مجلة طلائعية (المجلة نفسها التي عرفتني بميلوز). ثم تعرفت إليه في باريس في مشغل الرسام ويلفريدو لام. كان إيمي سيزير، الشاب الحيوي والجذاب، قد انهال علي بأسئلة أوّلُها: (كونديرا، هل تعرفت على نيزفال؟) _ بالطبع، لكن كيف تعرفت أنت عليه؟ لا، هو لم يتعرف عليه، لكن أندري بروتون كثيراً ما حَدَّثه عنه. وحسب ما كنت أتصوّر، فإن بروتون، بوصفه رجلاً متصلّباً وعنيداً، لم يكن بإمكانه أن يقول إلا سوءاً عن فيتزلاف نيزفال الذي كان قد انفصل، سنوات من قبل، عن مجموعة السرياليين التشيكيين، مفضلاً الامتثال (مثل أراغون تقريباً) لنداء الحزب. ومع ذلك، فقد أكّد لي سيزير بأن بروتون، سنة 1940،في أثناء إقامته بالمارتنيك، كان قد حدّثه عن نيزفال بحب. وقد بهرني كلامه، لأنني أتذكر أن نيزفال أيضاً كان يتحدَّث دائماً بحب عن بروتون.
إن ما صدمني أكثر من غيره في المحاكمات الستالينية هو الرّضا البارد الذي كان يقبل به رجال الدولة الشيوعيون قتل أصدقائهم. ذلك أنهم كانوا جميعاً أصدقاء؛ أقصد أنهم كانوا قد تعرفوا على بعضهم البعض بحميمية، وعاشوا معاً لحظات قاسية من هجرة واضطهاد وصراع سياسي طويل. فكيف أمكنهم أن يُضحّوا بصداقاتهم بتلك الطريقة الحاسمة والحزينة؟
لكن هل كانت تلك صداقة؟ توجد في تشيكوسلوفاكيا علاقة إنسانية، يطلق عليها باللغة التشيكية كلمة (SOUDRUZSTVI) من «SOUDRUH : رفيق»، مما يعني «صداقة الرفاق»؛ أي التعاطف الذي يجمع بين من يخوضون الصّراع السياسي نفسه. وعندما ينتفي التفاني المشترك في خدمة القضية، يختفي التعاطف أيضاً. لكن الصّداقة التي تخضع لمنفعة أعلى من الصداقة، لا علاقة لها بالصداقة.
في زماننا كنّا قد تعلمنا كيف نُخضِع الصداقة إلى ما كنا نسميه المعتقدات، مصحوبة بالفخر وبالاستقامة الأخلاقية. يجب، بالفعل، أن يكون المرء متمتِّعاً بنضج كبير كي يفهم بأن الرّأي الذي يدافع عنه ليس سوى فرضيّته المفضّلة، وهو بالضرورة رأي غير كامل ، ومن المحتمل أن يكون مؤقَّتاً، وأنّ مَحدودي الأفق وحدهم يستطيعون اعتباره يقينياً وحقيقة. وعلى العكس من الإخلاص الصبياني لقناعة، فإن الإخلاص لصديق يُعَدّ فضيلة، ربما قد تكون الوحيدة والأخيرة.
أنا أنظر في صورة لروني شار(3) إلى جانب هايديغر. اشتهر أحدهما بوصفه مقاوماً للاحتلال الألماني، ويٌعاب على الآخر تعاطفه، في لحظات من حياته، مع النازية الناشئة. يعود تاريخ الصورة إلى سنوات ما بعد الحرب. نراهما من الخلف؛ على رأس كل منهما قبّعته أحدهما طويل والآخر قصير، وهما يمشيان في الطبيعة. أنا أحب هذه الصورة كثيراً.
* UNE RENCONTRE. MILAN HUNDERA. GALLIMARD. 2009. P/P: 130/134
-1 بوهوميل هربال BOHUMIL HRABAL (1914-1997)، أحد أهمّ الكتّاب التشيكيين خلال النّصف الثّاني من القرن العشرين.
-2 إيمي فيرديناند دافيد سيزير AIMÉ FERNAND DAVID CÉSAIRE (1913-2008)، شاعر ورجل سيّاسة فرنسي. ولد بالمارتنيك. هو أحد مؤسّسي الحركة الأدبية الزّنجية. كان شديد المعارضة للنّزعة الاستعمارية.
-3 روني شار RENÉ CHAR (1988 – 1907) ، شاعر ومقاوم فرنسي.
———-
*الدوحة