*أبو بكر العيادي
في مدينة الخزف بضاحية سيفر، حيث يقام معرض بعنوان “الخزاف بيكاسو والبحر المتوسط” حتى موفّى مايو الجاري، يستطيع عشاق الفنون الجميلة أن يقفوا على تجربة فريدة لفنان القرن العشرين، انخرط فيها بشغف طفولي، وهو في مرحلة متقدمة من حياته، عانق إثرها الأرض والطين والإبداع.
لم يكن بيكاسو (1881 /1973) يعلم، وهو يزور المعرض السنوي لصانعي الفخّار بمدينة فالوريس عام 1946 صحبة صديقه فرانسوا جيلو، أن شيئا سيسحر لبّه ويأخذ بمجامع قلبه، وهو العليم بالجمال وأسراره.
حصل ذلك حينما توقف أمام منصة سوزان وجورج رامييه، فناولاه مثلما تقتضي العادة كرة من الطين الرخو، فعجنها وصاغ منها طائرا صغيرا وثورين. ولما عاد في العام الموالي، قدّم له الزوجان -وكانا قد أنشآ في الأثناء ورشة مادورا- تماثيله الصغرى بعد تحميتها في الفرن.
أثار ذلك النمط الجديد من التعبير إعجابه، فقرّر أن يستقرّ في فالوريس صحبة زوجته وابنه منذ عام 1948، ليرتاد الورشة بانتظام ويعمل مع رامييه وزوجته جنبا إلى جنب.
وبالرغم من أنه خاض من قبل تجربة التشكيل الخزفي في مطلع القرن مع باكو دوريو، صديق غوغان، وزار مرارا ورشة جان فان جونغين، أخي كيس، حيث قام بزخرفة بعض الأطباق بصور مستحمات وأسماك، إلا أن ذلك لم يترك فيه الأثر الذي انطبع بداخله حينما التحق بورشة مادورا.
ولع وتيه
لقد ولع بهذا النمط الجديد من التعبير الفني حتى أنه أنجز في السنة الأولى وحدها ما يناهز ألفي قطعة، أي ما يقارب نصف ما أنجزه خلال العشرين عاما التي سوف يقضيها في فالوريس.
وإذا كان مناخ الورشة قد لقي هوى في نفسه، وجو الألفة الذي كان يشيعه العملة قد شجعه على البقاء، فإن دافعه الأول، حسب برونو غوديشون مندوب المعرض، كان أنه وجد في ذلك وسيلة لتعميق معرفته عن الحجم، وإثراء عمله كرسام ونحّات.
طوال تلك السنوات، كان الاشتغال على الطين يغذي بحوث بيكاسو في شتى ميادين الخلق، من دور اللون إلى إمكانات النقش. وكما اعتاد في مراحل حياته الماضية، كانت الحرية هي العنوان الأسمى لهذا الفصل الذي خطه بيكاسو.
كانت سوزان وزوجها يطمحان إلى إضفاء نوع من الجدة على صناعة الفخار. كانت سوزان مثلا ترسم نماذج وتشكل أنماطا ذات سطح موحد، وتتقدم بالنصح لتلميذها بيكاسو بعد أن هيأت له ركنا في الورشة.
وسرعان ما تحرر التلميذ من النماذج المسبقة ليصوغ إبداعاته الخاصة، حيث أعاد تحديد حقول الأشكال والزينة، ووظف داخلها موضوعاته، فكانت النتيجة باهرة، ولو أنه يعترف أن أعماله ناجمة عن استعارات وتوليفات وتحويلات، إذ يقول بصريح العبارة: “كل ما أشهده، أسرقه”.
ولكن شتان بين من يسرق بغباء، ومن يستحوذ على عناصر، فيضفي عليها من فنه ونبوغه ما يظهرها في عين الناظر من صنعه.
ثمّ استعاد ذكريات طفولته في كاتالونيا، فهيأ قدورا ومقالي وأباريق، مثل “البوتيخو” الإسباني الذي حوله إلى عصفور سمين، أو الطبق المفرطح الموروث عن عرب الأندلس الذي طبع فيه حسك سمكة موسى، كان يشغل بها العاملين في الورشة ويدلهم على إخراجها في أحسن صورة.
بعد ذلك انتقل إلى ثيمة صراع الثيران وكان يتابع أطواره في حلبة مدينة نيم جنوبي فرنسا، بعد أن حرّم على نفسه العودة إلى بلده أسبانيا في ظل فرانكو، فعاد إلى تلوين الأطباق والأباريق باستعمال الألوان التي دأب عليها في مراحله السابقة.
قريبا من المتوسط، كانت النسائم تنقل إليه عبق المتوسط بحضاراته المتوالية، يونانية وقبرصية وإيطالية وأسبانية وعربية، وقد استقى من الماضي اليوناني والأتروسيات، التي لا تزال جرارها وقورايرها ذات العروتين حاضرة في الحياة اليومية، ملامح ونماذج.
وكانت فرصة أخرى ليلوّن تلك المأثورات بأصناف من الطيور والحيوانات وعازفي المزمار، ويصبغ جوانب المزهريات باللونين الأسود والأبيض على طريقة النماذج التي وقف عليها في متحف اللوفر.
بل إن الهوس يدفعه أحيانا إلى التقاط ما يخلفه عمال الورشة من كسارات وشظايا ليحوّلها إلى ما يسميه في نوع من السخرية “اليونانيات”.
من 1947 إلى 1971 انطلق بيكاسو في عملية إنتاج جمعت إلى الغزارة قدرا كبيرا من الخلق والابتكار في المجالين التصويري والتخطيطي، ساعده في ذلك، علاوة على سوزان رامييه، الخرّاط الماهر جول أغار الذي كان يزوده بأوان من الطين طرية سهلة العرك والعجن والتشكيل، تتحوّل بين يدي الفنان القدير أشكالا حية وأحيانا وقحة.
ولم يكن همّه البحث عن المال، وقد جمع منه الكثير، بل كان يبحث فقط عن متعة الخلق، وخرق المألوف، وابتكار طرق جديدة لعجن الطين وطليه، وتحويل أدوات الحياة اليومية إلى قطع فنية.
من عجائب القدر أن مدينة سيفر المشهورة بصناعة الخزف، لم تكن تتصوّر أن تستميل فنانا في قيمة بيكاسو ليصوّر على أطباق الخزف لوحات ونقوشا وخطوطا تصويرية، ولكنه انجذب بنفسه إلى هذه الصناعة فأضفى عليها من فنه ما لم تكن تحلم به.
_______
*العرب