*أحمد بزّون
لا خيار أمام الأجساد المعنفة إلا التفاعل مع محيطها.. هذا ما يمكن أن يستخلص من العرض الذي قدمه البلجيكي فيم فانديكيبوس، في ختام «مهرجان الرقص المعاصر» (Bipod) الذي أقيمت عروضه العشرة في «مسرح المدينة»، فتماشى عددها مع عشر سنوات على انطلاق المهرجان في بيروت.
حمل العرض عنوان «ما لا يتذكره الجسد»، وربما كان المضمون مغايراً، عندما رأينا ما تمر به أجساد الراقصين من مخاطر لا يمكن إلا أن تتذكرها الأجساد، أو أن فانديكيبوس أراد أن يصل أقصى التذكر بالنسيان، على أساس أن آخر الدائرة أولها. وقد بدأ العرض بمواجهة عنيفة بين الإيقاع والرقص، عندما بدأت راقصة تقرع بعنف بيديها على طاولة لتحرك، أو تنفض جسدين مستلقيين على خشبة المسرح. تتنوع الإيقاعات بين حفيف الكفين وتنغيم الأصابع ليأتي الطرق الوحشي المفاجئ الذي يستنهض خشونة الجسد. على أن المواجهة العنيفة تلك تستمر خلال العرض، لتتحول إلى كباش عنيف بين راقصين/ حيوانين، وإلى مزيد من مشاهد العنف على المسرح، حتى بدا العرض كأنه رقص وسط المخاطر، مخاطر الحياة في المنزل والشارع والكون.
لم يقدم العرض حالات شكلانية للأجساد، ولم يكن الرقص مجرد حركات وزخرف بصري، فأداة الجذب فيه لم تكن فتنة تصاميم حركية أو إيقاعات جسد أو حتى تنظيم فوضى الجسد، وإنما كانت في حيلة الجسد وسط المخاطر، وفي تعامله مع كل تلك الانكسارات. تعامل يخرج من الشكل الخارجي ليلامس الأحاسيس والداخل، حتى أننا بتنا نشاهد رقص الأحشاء والروح.
يستبدل الكوريغراف هنا الدقة في تنظييم حركة الجسد بالدقة في التعامل مع المخاطر. وقد وضعنا أمام مشاهد مختلفة صنعها تسعة راقصين وراقصات، تناوبوا، ذكوراً وإناثاً، على أفعال العنف، وإن مارس الذكور عنفاً أكثر، خصوصاً في مشاهد تذكّر بالتحرش الذي تتعرض له النساء في الشارع، حيث يصلب الرجل المرأة أمام إرادته، حتى تتفاعل معه قبولاً وتمنعاً. وفي مشاهد أخرى يتوحد العنف، عندما يتحول فضاء المسرح إلى حجارة جصّ طائرة، تشكل خطراً على اللاعبين مع أي خطأ. فكان على الجميع أن يتشاركوا تلك اللعبة الغريبة التي جعلت رؤوسم أهدافاً لحجارة، وحدها الدقة تنجيهم من مخاطرها.
يتساءل المشاهد: لماذا كل هذا العنف الآتي من بلجيكا؟ كان يمكن أن يكون رقصنا نحن عنيفاً تبعاً لما يجري في بلادنا؟! لكننا ونحن نقرأ سيرة فانديكيبوس، ونعرف أنه صانع أفلام سينما أيضاً نفهم كيف فكر المخرج السينمائي أو الممثل في عنف تصاميم الرقص. لمَ لا! على أن العنف الجاذب في السينما يمكن أن يكون جاذباً على خشبة المسرح أيضاً، وربما أكثر جذباً بعيداً عن خداع الكاميرا.
لعل هندسة العنف أو دقة التنقل بين أمطار الخوف التي قدمها لنا فانديكيبوس، هي التي جعلت هذا العمل، الذي انطلق أساساً عام 1987، يتجدد ويندفع مع جيل جديد من الراقصين والراقصات، وقد شكلت بيروت إحدى محطاته الـ19 في العالم.
ولما كان هذا العرض باكورة فرقة «ألتيما» التي أسسها فانديكيبوس وهو في الرابعة والعشرين من عمره، فإن ما رأيناه يدل بالفعل على عمل مختمر وناضج، بدا متماسكاً رغم ابتعاده عن آلية السرد وتجريديته، وإن كنا نستطيع أن نمد خيوط تواصل بين المشاهد، تساهم في وصل ما ينقطع. فإذا كان الخطر عنواناً للموسيقى والإيقاع والحركة، فإن مستويات الخطر تتباين بين مشهد وآخر، إذ يبدأ المشهد الثاني باستخدام حجارة الجص المتوازية المستطيلات للتنقل عليها من مكان إلى آخر، وسط مخاطر سقوط أقدام الراقصين على خشبة المسرح، وقد تحولت هذه الحجارة إلى أدوات نجاة من خطر السقوط، يسرقها الراقصون ليستمروا في صراعهم، مثلما سرقوا المناشف والسترات. وصولاً إلى مستوى أقل مع لعبة اتقاء خطر سقوط الريشة على الأرض.
_________
*ألف ياء