جويل ريا والاندهاش البصري


*ضحى عبدالرؤوف المل

تلامس أنامل”جويل ريا”(joel Rea) تفاصيل الواقع، كما تلامس ريشته الألوان بكثافة لها سطوعها المؤثر على السطوح والأبعاد، فحواس ريشته الفنية ترسم بلغة ضوئية تشكيلية دقيقة في وضوحها، وضخامتها وقدرتها على محاكاة الطبيعة، ضمن سريالية مخفّضة تخيليا ترتفع وتنخفض تبعا إلى نسبة معينة من الرؤية الفنية التي يحددها بصريا من خلال فكرة تتوافق وتختلف مع الحقيقة. لدرجة استبصار ممتعة تؤدي تفاعلاتها الفنية بقدرات جمالية متفاوتة، تعتمد أحيانا على مبالغات في الحجم، وعلى التناسب المدروس مع الموتيفات المثيرة لعناصر الاندهاش البصري. مستخدما الألوان الزيتية على القماش بتقنية العين الفوتوغرافية التصويرية المتسعة ضوئيا، والتي تترجم كل لقطة منها أنامله الممسكة بفرشاة قادرة على تصوير الأشكال، وتحديد الألوان، ومنح المشهد صفة التكامل الضوئي السينمائي المحفوف برؤية حركية ذات اتجاهات وانعاكسات، ومسارات فنية تتأرجح ما بين الواقع والخيال، والسريالية والتعبيرية، والانطباعات الفوتوغرافية ذات الفانتازيا التشكيلية المتحررة لونيا من التراكيب التي لا تتواءم مع واقع اللوحة. إلا انه يحتفظ بحركة داخلية مميزة لها محاكاتها الفنية التي ترتبط بالعين والبصر والحواس بشكل عام.

فلسفة جمالية تحمل في طياتها قدرة العين والحواس على تقليد الطبيعة وحيويتها اللونية. أو بالأحرى على تصوير كل ما تراه العين وفق الحس الفني المميز، والميال إلى خلق عوالمه المتجانسة مع المفهوم الواقعي، والتشكيلي المستقل تصويريا والمتضمن الصفات ذات الصياغات الهندسية، والأداء المتقن الذي يتسم بتنغيم وتفخيم، وترقيق، وانعكاس ضوئي، وإظهار الأبعاد المرئية المختلفة تكوينيا عن النحت، والمؤاخية له تشكيليا. لأن الصورة التي يرسمها”جويل ريا” يضيف عليها من عالمه الداخلي والخارجي والحواس الصافية من كل ما من شأنه ان يؤثر على جمالها الخاص.
تأثيرات تنبعث من اللون الأبيض الكثيف، وتعرجاته الجذابة التي تكشف عن الخطوط اللونية، ومذاقها التعبيري في أسلوب رسم تصويري يدفع بالمتلقي إلى الاستغراب والدهشة من قدرة الخيال على صياغة واقع سريالي مختلف ومتقارب مع ذاته. لأن الحركة المنبعثة من الخطوط تؤثر بصريا على العين، فتتغير وضعية الأشكال ومميزاتها في اللوحة الواحدة ذات الكيان الفسيولوجي والميتافزيقي، وإيقاعات الفراغات الواسعة والضيقة، والمفتوحة فضائيا ضمن مقاربات تؤدي إلى إظهار روحانية العوالم المادية التي تتجلى بالإنسان، وممن حوله من كائنات أخرى، كالكلب والنمر والقطـ والكثير من الحيوانات التي صورها”جويل ريا” بانسجام ووفاق مع الإنسان، وفكرة التعادل الجمالي بين الكائنات من حيث قوة الحركة والسكون والجمال. 
عين سريالية على الواقع المرسوم بعدسة ريشة زيتية، مغمسة بالمشاعر الانطباعية الباحثة عن تفاصيل الجمال بين الأشجار والغيوم والأمواج، والغابات، والإنسان، والحيوانات، والأشياء الحسية التي من شأنها إعطاء نفحة شاعرية للوحة تحمل من السريالية جوهرها المشرق. لتظهر أحيانا جوانب النفس الإنسانية التي تتنازعها الخيوط الوهمية اللاهثة وراء خطوط الريشة الواضحة في رسومات تبعث على التساؤل، وتحمل في طياتها القصص المشهدية الموحية بمفاهيم حركية من شأنها تحفيز البصر، للتوغل داخل كل لوحة يرسمها بتصويرات مسبقة جاهزة في خياله الفني المفتون بقدرات الطبيعة الخلاقة، وقوة عناصرها غير المرئية، كالريح التي يظهرها من خلا ل جاذبية الأشياء الطائرة أو تفاعل الموج المرتفع مع دورة المد والجزر حيث تبرز دقة التصاوير الزيتية، المتناغمة بموضوعية الفكرة الغنية ضوئيا بألوانه الانسيابية على سطوح لوحات ذات أبعاد مختلفة، وسيكولوجية تشكيلية مؤثرة على النفس الإنسانية الغارقة بمتاهات الحياة وأسرارها التي لا تنتهي. 
يستكشف”جويل ريا”من خلال فنه الزيتي عوالمه الداخلية، وقدراته على رسم تساؤلاته عن الكينونة الوجودية والعلاقات النفسية المتشابكة، لوحي الإنسان التصويري، وقدرة تفوقه على تسخير كل شيء له، وحتى تلك الريشة البسيطة التي من خلالها يمكن رسم لوحات منظورية هندسيا متقنة بصريا، ومزدانة بسطوع ضوئي متوهج ساعيا وراء مثالية تصويرية تضاهي العدسة التي اخترعها الإنسان نفسه وعجز عن تقليدها بقدرات تتوازى فنيا، فاستطاع ترويض ريشته. لترسم بمقاييس تشكيلية سريالية الحياة، والأحلام التي تنازع الإنسان مخاوفه وهواجسه، ولحظات فنتازية يحلم بها تبعا لما يجول في نفسه من رؤى لا يمكن تحقيقها في الحقيقة، ولكن روح سرياليتها هو ما ينطبع في اللاوعي النفسي، والتجسيد التصويري المبالغ به فنيا، والذي يحقق من خلاله”جويل ريا”عنصر الدهشة والمفاجأة عند المتلقي. 
يجمع “جويل ريا” بين التصوير السريالي الزيتي، والتصوير الفوتوغرافي الضوئي حيث يستطيع منح اللوحة ما لا تستطيع العدسة منحه للصورة. لأنه يضيف عليها من ذاته تفاصيل وموتيفات لا يمكن جمعها في صورة فوتوغرافية رقمية. لأنها بلمسة يد إنسان لامس اللون، والضوء والمساحة، والعتمة، والظل، فالتفاعل اللاواعي البارز في أسلوبه يتشكل من أحلام اليقظة، المرسومة بتفاصيل بصرية واقعية خارجة عن المألوف، ونابضة بحيوية واقع عميق يوحي بمنظور حسي سيمتري. يتماهى مع الصورة وأبعادها التفكيكية فتظهر، وكأن العناصر مركبة رقميا. لكنها بتلاحم بصري يشد النظر إليها لما تحمله من تضاد وتناغم وجمالية إبداعية متقنة فنيا من حيث الشكل العام المؤثر على الحس الفني عند المتلقي. 
يعالج”جويل ريا عملية الإخراج الفني للمشهد الفنتازي أو السريالي بديناميكية، وحنكة زيتية تحمل في ثناياها قدرات تصويرية بنائية اللقطة المتعددة الاتجاهات فنيا. ان من حيث التوزيع السينوغرافي أو من ناحية المجهر البصري الذي تبدو من خلاله الأشياء قريبة جدا ومناقضة كليا لمصطلحات الفن التشكيلي المتعارف عليه، فلوحات”جويل ريا”تستعصي على الفهم النظري. لأنها تحتاج لعمق بصري وتفكر عميق، لمواضيع شائكة يطرحها بتمرد فني على العدسة الضوئية، ومؤاخاة الريشة الميكانيكية الحساسة بتعبيراتها السريالية المرتكزة على الإنسان الشديد الصلة بكل ما حوله من جمال تسبغ عليه من ذاتها تصورات تستحق التأمل والتجسيد بمعان مختلفة، و بروحانية ألوان نابضة تكتسب سموا مرئيا شديد الإيحائية ذات خصائص سيكولوجية منسوجة بهالة ألوان زيتية، وأسلوب فني تشكيلي بارع ودقيق في إظهار خصوصية عالية في الرسم الزيتي، وتبايناته الرؤيوية والهندسية وإيقاعات اللون الأبيض الحالم الذي يعزف عليه”جويل ريا”نوتته السريالية الخاصة.
________
*المدى

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *