كيمياء القص


*خليل قنديل

درجت العادة عندي، وبعد الانتهاء من كتابة نصي القصصي، أن أبدأ بالتخلص من ذاك الاندغام مع أبطالي ومعاملتهم بنوع من التخلي الذي يكاد يكون عدوانياً، لا لشيء ربما إلا بسبب رغبة العودة إلى مطارح أخرى في القص.

وجرت العادة أنه وهو يقبل على البطل كي أكتبه أن يمنحني ذاك الجانب الشهي في شخصيته ليعطيني طرف خيطه القصصي ويذهب، لكن من قال إن الأمور تقبل في أن تصاغ على مثل هذا النهج من دون خروج عن المألوف.
وقبل أيام، وفيما كنت أتمشى في أحد الأسواق، كنت أقف وجهاً لوجه أمام بطل قصة «الرغبة» الذي كنت قد كتبت قصته في مطلع سبعينات القرن المنصرم، وكان علي أن أتحاشى القشعريرة التي تشكلت في مساماتي، وفيما كنت أحاول الهرب من نظراته، كان يطاردني بنظرة تشير إلى أني سارقه.
هذا المشهد في إعادة يقظة من نكتبهم قادني إلى تذكر قصتي «الرهان» التي أدرجتها الحكومة الأردنية والسلطة الفلسطينية ضمن منهاج الثانوية العامة، في كتاب اللغة العربية الذي يتم تدريسه لجميع طلبة الثانوية العامة، وذلك في مطلع تسعينات القرن الفائت، والعمل على تحويل القصة إلى درس في الثقافة اللغوية يقع في «14» صفحة من القطع الكبير.
وأعترف أني دهشت من تلك التلاوين التي احتملتها قصتي على هذا النحو كدرس مدرسي صارم، وكان علي بعد ذلك أن أدافع عن نفسي إزاء هذا المسلك الحكومي الذي حولني إلى قاصٍ أصحو وأنام في المنهاج المدرسي.
وقد وضعتني تلك القصة في مفارقات عجيبة إذ كان يصعب على أبنائي وأبناء أصدقائي وبعض معارفي أنهم كانوا يستكثرون على أنفسهم معرفة مؤلف قصة مدرجة في منهاج الثانوية العامة، ولأن العادة درجت في المنهاج المدرسي أن يكون صاحب النص الأدبي، على الأغلب، من المتوفين، من أمثال المتنبي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فقد كان من الغريب أن يكون المؤلف يمكن لمسه ومصافحته. وأنا مازلت أتذكر ذاك الشاب الفلسطيني الذي تعرف علي وأنا في بغداد للمشاركة في مهرجان «المربد»، كيف كان ينهض ويعانقني وهو يقول «يا إلهي انأ اجلس مع كاتب قصة الرهان»!!
وكان عدم التصديق هذا يتجلى في زياراتي لبعض مدارس التربية الأردنية، حيث كنت أرى الطلاب والطالبات وعيونهم تشع بالدهشة من أن الكاتب يمكن أن يكون مرئياً إلى هذا الحد إلى الدرجة التي طلبت فيها إحدى الطالبات إن كان يمكن لها أن تلمسني.
وقد كان العام الدراسي يمر علي دون أي تنغيصات حتى يأتي وقت الدرس، حيث يولد الدرس المزيد من الأسئلة والاستهجانات وعدم التصديق بأن كاتب هذا النص يمكن أن يكون على قيد الحياة سيما أن عدد الدارسين له يتجاوز الـ«خمسين ألف طالب سنوياً».
وبالطبع فإن هذا لا يدر أي منفعة مادية على صاحب النص، ذلك أني ذهبت إلى دائرة المطبوعات الأردنية، وسألت عن حقوقي في الملكية الفكرية، فجاء الرد صارماً أن «اليونسكو» تعتبر كل مادة أدبية تدرس من الملكيات العامة.
الآن وبعد استعمال قصة «الرهان» كدرس استمر لمدة 12عاماً أشعر أنها عادت إلي وإلى بيتي القصصي وهي تحاول أن تسرد براءتها الأولى التي تشكلت عليها.
________
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *