*عمّار المأمون
“دمشق الآن أقرب إلى أرملة حزينة” هكذا يصف الناشر الفلسطيني سعيد البرغوثي المدينة التي تختزل عذابات العصر، لتنساب بعدها كلماته راويا التاريخ من وجهة نظر المشارك. أسس البرغوثي دار كنعان للنشر عام 1989 وبدأت رحلته الطويلة مع المثقفين والمبدعين والسياسيين. وكان لـ”العرب” لقاء معه للحديث عن الكتاب والشعر والسياسة والرحيل.
غادر فلسطين، ثم ترحّل بين ليبيا والجزائر ومعظم بلدان الوطن العربي، وعاد ليستقرّ أخيرا في دمشق، عن هذا الترحال، يقول سعيد البرغوثي: “يمنح الترحال الكثير من الفوائد؛ بغض النظر عما يفضي إليه من متعة أو تنغيص، فكما هي الحياة في كل مكان، فيها الجميل وفيها القبيح، ولكن المؤكد أن حامل عصا الترحال سيستفيد من كل ما يصادفه هناك، لأنه ببساطة يقدم له جديداً في حياته. وهذا الجديد يغني معارفه ويضيف إليها، عبر الترحال ستتعرف جغرافيا جديدة، وستتعرف وجوها جديدة، وأيضاً ثقافة جديدة، وكلها تُثري حياتك وروحك. ففي الجزائر وليبيا ولاحقاً المغرب ومصر، التقيت بالعديد من المبدعين شعراء وروائيين وتشكيليين”.
مدينة الحلم
عن مدينة دمشق، يقول البرغوثي: “دمشق، هي المدينة الحلم، التي قضيت فيها طفولتي المتأخرة، وشبابي المبكر، بكل ما في ذلك من جماليات، فيها عرفت المكتبة الظاهرية، حيث في صمتها المقدس تعرّفت على «أيام» طه حسين، و«عصفور» توفيق الحكيم عصفور من الشرق، حيث أدمنت القراءة التي كونتني على ما أنا عليه. وفيها، شاهدت أول فيلم سينمائي، وأول مسرحية، وعشقت السينما والمسرح. وفيها شاركت بالمظاهرات الطلابية التي أسهمت في إسقاط أول دكتاتورية عسكرية «أديب الشيشكلي». وفي دمشق أيضا أطللت على الأحزاب السياسية، والصحافة اليومية، وأصبت بلوثة السياسة، التي ذهبت بي ذات يوم إلى السجن”.
الظاهر والباطن
التقى البرغوثي بالعديد من الشخصيات الأدبية المهمة التي تركت في حياته أثرا واضحا، عن هذا الموضوع يقول: “كان بيتي ملتقى العديد من الوجوه من حيث الحوارات ومن حيث الغنى والتنوع في الآراء بين اتفاق واختلاف، من الصعب تعداد أولئك الذين كان لي شرف استقبالهم على امتداد أكثر من ثلاثين سنة. لا شك في أن القيم المعرفية والشخصية لأولئك المبدعين، لم تكن على سوية واحدة، لا سيما أنهم لم يكونوا قادمين من أوساط ثقافية وجغرافية ذات منشإ أو بنية واحدة، فكان منهم السوري والمصري والجزائري والعراقي، الأمر الذي أفضى بطبيعة الحال إلى ذلك التنوع الثقافي والتكوين الشخصي على أكثر من صعيد. كل هؤلاء منحوني بعض معارفهم وأيضاً قيمهم التي تميزوا بها”.
من الشخصيات السياسية البارزة، التقى البرغوثي بمعمر القذافي، الذي قال عنه: “قابلته ثلاث مرات، فتبدت سطحيته وتخلّفه، حيث كان حديث عهدٍ بالتنظير، وكان أقرب إلى البراءة، فلم تكن النرجسية قد فعلت به فعلها، قال لي مرة: “أميركا أقل خطراً علينا من الاتحاد السوفييتي، لأن الأميركان من أهل الكتاب”!
ويضيف قوله: “أما انطباعي عنه؛ فهو كما قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «ما نما ظاهر إلا على حساب باطن». فالقذافي -عبر خوائه- لم يقدم لأبناء ليبيا أي منجز، غير الخراب، وتبديد الأموال. غيّر أسماء الأشهر، وبدّل السنة الهجرية إلى سنة وفاة الرسول، وكذلك بعض التسميات عبر ما أطلق عليه “التعريب” التلفزيون أصبح “الرائي” والسينما أصبحت “الخيّالة” والبيجو “السيارة” أصبحت “الحمامة” وغير ذلك كثير، هي كوميديا سوداء.
نقطة مضيئة
تنقل البرغوثي بين العديد من المهن ثم عقد العزم على تأسيس دار كنعان، عن سبب اختياره لهذه المهنة، يعلق: “تنقلت بين مهن تدر أموالاً طائلة؛ معمل بلاستيك، طاقة شمسية، وأخيراً محلاً للفلافل! وكلها تحقق مداخيل كبيرة، إلا أنني مع انطلاق أي من هذه المشاريع، تبدأ معاناتي، حيث لا أجد نفسي فيها، وسرعان ما أتخلى عنها، كنت أفكر في إنشاء دار للنشر، منذ طردي من ليبيا عام 1970، ولكن ذلك تأخّر بسبب المشاريع التي تحدثتُ عنها وأسباب أخرى، وتحقق ذلك عام 1989 عندما نضجت الظروف لإنشاء الدار”.
وعن حالة الكتاب في العالم العربي بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص بعد طغيان التجاري والمبتذل على ما هو أصيل وحقيقي من المؤلفات، يقول البرغوثي: “الموضوع يتضمن واقع الكتاب سواء في سوريا أو في غيرها من البلدان العربية، فهناك ما هو أصيل وجاد وثمين، وهناك التجاري والمبتذل. وهناك قارئ ينتمي إلى هذه الكتب بتنوعها”.
خسارات مزدوجة
للبرغوثي علاقات مميزة مع عديد المبدعين العرب الراحلين، هؤلاء شكلوا نقطة مضيئة في حياته العملية، حيث اشتهر بنشر أعمال لدرويش ومنيف مثلا، وبموتهما خسر البرغوثي الكثير، عن هذه الخسارة، يقول البرغوثي: “الخسارات المادية رغم آثارها السلبية، لا تترك شرخاً في الروح. هناك آمال بتعويضها. وإن كنت شخصياً كما صنّفني أحد الأصدقاء المقرّبين «أنني من الخاسرين» وهو يعني أنني من الخاسرين بإرادتهم وليس بالمصادفة.. وهذا أمرٌ أعتز به، أما الخسارات الأخرى التي أشرت إليها، والتي تعمّقت برحيل أصدقاء كمحمود درويش وعبدالرحمن منيف وسعد الله ونّوس وغالب هلسا وهادي العلوي وغيرهم، فهي خسارات حفرت عميقاً بالروح، لأنها خسارات مزدوجة؛ أولها أنك تخسر أصدقاء ربطك بهم إيقاع الحياة، وثانيها فتتبدى بخسارة متعة انتظار جديدهم بعد كل منجز من أعمالهم، وهي خسارات كما ذكرت، تركت عطباً في الروح”.
النشر الإلكتروني
تواجه مهنة النشر الآن تحديات تتمثل في ظهور النشر الإلكتروني والعزوف عمّا هو ورقي والالتصاق بالشاشات، فهل يمكن أن تختفي دور النشر الورقية، هنا يقول البرغوثي : “رغم كل المغريات التي تكرّس العزوف عن القراءة، إلا أن الكتاب الورقي سيبقى. ذلك العزوف كان موجوداً قبل وجود تلك المغريات، من نشر الكتروني، وشاشات تلفزيون وحواسيب وغيرها سيظل للكتاب الورقي وهجه الخاص لدى الكثير من الناس، وسيبقى واحداً من أهم أوعية المعرفة”.
عن علاقته مع الشعر، يقول البرغوثي: “عندما يصمت العالم يتكلم الشعر، وعندما يخيّم الحزن والظلام يأتي الشعر ليضيء المشهد. أنا عاشقٌ للشعر كمتذوق، عاشق لذلك الشعر البعيد كل البعد عن الخطابية والمباشرة، الشعر بغموضه البهي، الذي يدفع للتأمل، ويدفع عبر التأمل، لفتح نوافذ ذلك الغموض، أكرر البهي، هناك تمتلئ بالدهشة، دهشة الشعر. كم هو العالم جافٌ من غير شعرٍ وموسيقى”.
ويضيف قائلا:” هناك نصوص جديدة ومعايير جديدة طرحتها الأحداث الراهنة في العالم العربي بعد اندلاع الثورات العربية، ولا شك أن تراجيديا المشهد ستفتح المجال واسعاً لإسهامات إبداعية تقتضيها تلك التراجيديا بكل ما تعنيه الكلمة”.
______
*العرب