*محمود أبو حامد
يعتقد أغلب الكتاب والصحافيين أن بإمكانهم كتابة عمود يومي، حيث يتخيّل بعضهم وهو يقرأ مقالة ما أنه يستطيع ببساطة التعبير عن هذه الفكرة أو تلك بالطريقة ذاتها، دون الانتباه إلى ذاك الهاجس اليومي في البحث عن الفكرة المناسبة، ودون الإحساس بمعاناة ذلك الكاتب في نحته لقاسم مشترك يجمع الناس، ويشغلهم بكل أطيافهم. وهو ما نلفي له صورة في مقالات كتاب “في مديح الذاكرة” للكاتبة الإماراتية عائشة سلطان الصادر عن دار “ورق للنشر”، بدبي 2014.
حين سئل محمد حسنين هيكل، لماذا لا تكتب كل يوم في الصحافة المصرية والعربية، وهناك عشرات الصحف داخل وخارج المنطقة العربية تتبارى وتتنافس لكسب قلمك إليها بمبالغ ضخمة وضمك لقائمة كتابها؟ ردّ قائلا “أنا لا أدري من أين يأتي هؤلاء الكتاب بمثل هذه الأفكار والكلام الذي يكتبونه كل يوم”.
تقول الكاتبة عائشة سلطان في أحد مقالاتها: “الكتابة اليومية معاناة البحث عن فكرة؛ فعندما تحين لحظة الكتابة، يبدأ المخ في إرسال برقيات هوجاء ومشوشة لسائر الجسد، فتبحث اليد عن كتاب، وتفتش العين عن مشهد في التلفزيون، مع شعور مفاجئ بالرغبة في النوم، وحالة توتر كأن أعصابك قد تحوّلت إلى أسلاك مكشوفة رشت بسطل مياه للتوّ. والمسألة كلها لا تعدو كونها ألم ما قبل ولادة المقال، تشعرك أنك تعبر منطقة ذات توتر عال، وبمجرّد أن تعبر منطقة التوتر هذه وتمسك بالفكرة التي بالطبع لم تجدها على قارعة الطريق تبدأ درجات الضغط عدّها التنازلي”.
كتابة الأسئلة
تثير الكاتبة جدلا حول مقولة الأفكار على قارعة الطريق من جهة، وتحاول من جهة ثانية أن تبسّط، قدر الإمكان، حالة المعاناة والتوتر اللذين يعيشهما أصحاب المقالات اليومية، بفعل صعوبة وحرفية العمود الصحفي، خاصة إذا كان صاحبه يحمل في طياته موقفا ثابتا أو رأيا محدّدا، يرتقي بالمقال ليحقق ديمومته.
في الوقت الذي تجد فيه من يسارعون إلى نشر أعمدتهم في كتب سنوية أنيقة، وللسنة أربعة فصول، وللحدث زمان ومكان، وللذاكرة أنواع: أرشيفية، انتقائية، طويلة، قصيرة، ومثقوبة أيضا، وللحدث المسطح فقاعة لا تستمرّ إلا دقائق معدودات، وتعاد من جديد، في الوقت الذي تجد فيه كتبا في المعارض تضمّ مقالات أكل عليها الدهر ونسي أن يشرب، مقالات لا تتناسب لا مع زمان النشر، ولا مع رائحة الأجواء السائدة. لا يتقيّد “في مديح الذاكرة” بيومياته ولا يحاكيها رغم أنه اتكأ على جزعها، بل يقدّم للقارئ كتابا يحتضن بين طياته مقالات تثير الأسئلة، والأسئلة لا تتوقف، وأفكارا جدلية تتقاطع مع إشكالياتنا ووجودنا وطموحاتنا. فعائشة سلطان من كتاب الأعمدة الذين يمتلكون حسا قصصيا، وخبرة صحافية ومرجعية فكرية، يضفون على مواد أعمدتهم بعدا إنسانيا، يستمرّ طالما المشكلة مستمرّة، ويحيطون بكل جوانب الفكرة المراد توصيلها، فيصيرون عيون الناس وآذانهم، والرئة التي يتنفسون من خلالها هواءهم اليومي من جهة، ويزفرون منها همومهم، ورفضهم واستنكارهم لما يدور حولهم من جهة ثانية.
هوية الكتابة
في هذا الشأن، يلحّ علينا السؤال الفصل: يمكننا ببساطة معرفة أن هذه الموسيقى للرحابنة، وهذا الشعر لدرويش، وهذا اللحن للسنباطي، دون وجود أسمائهم، فهل يمكننا معرفة -وثمة من يكتبون منذ عشرات السنين يوميا- صاحب العمود الصحافي بعيدا عن المكان المحدد له في الجريدة أو العنوان المصاحب لاسمه؟
ربما كتاب “في مديح الذاكرة” يضيف على مسماه بعدا جديدا حين يدرك القارئ تلك الخيوط التي تربط مقالات عائشة بعضها ببعض من حيث الأسلوب والسرد والأفكار والمرجعيات والعاطفة واللغة، والأهم خصوصية العلاقة مع القارئ الذي تركت في ذاكرته تحوّلاتها الطبيعية؟ كتبت عائشة في أحد مقالاتها: “سألني قارئ ذات يوم، أنت لا تكتبين كما السابق بذاك الاندفاع والحماس اللذين كانا؟ تذكرت كلاما للكاتب كارلوس ليسكانو وقلت للقارئ: أنت كما ترى أنني لست الشخص ذاته الذي كنته قبل خمسة عشر عاما، لقد تدفقت مياه كثيرة تحت الجسور، وتغير كل شيء، نحن كبشر نتغير كما تتغير الحياة حولنا، نكبر، نعرف أكثر، نعبر حيوات وطرقا وسبلا مختلفة، تحط بنا الحياة في محطات بلا حصر ونتعرف إلى كثيرين ممن ينيرون لنا طرقات أخرى ويفتحون لنا أبوابا ما كنا سنفتحها يوما؛ الذين لا يتغيرون هم الذين لا يغادرون محطات الانتظار، وهم الذين لا يرون ولا يزدادون معرفة وعلما فـ”اللهم زدني علما”.
ذاكرة الأمكنة
تهتمّ عائشة في مقالاتها بهموم الناس وتتواصل معهم، تقدّس الوطن وتحترم الولاء له، تواكب بحيادية الأجواء السياسية العامة، وتفرد الكثير من المقالات لأدب الرحلات ووصف المدن، تؤصّل للهوية الوطنية وللذاكرة الشفوية والأمكنة التي كانت، تلامس الذات البشرية بأسئلة جريئة عن العلاقة والصداقات والتأملات والتطلعات، ولكن الأهمّ هو أن عائشة لا تؤمن بالمسلمات وتعيد لها اسئلتها، وتفتح باب التأويلات للموضوعات الرتيبة، من مديح الفشل، إلى أعداء الضحك، إلى وطن بلا أطفال، وأسطورة البحث عن السعادة.
ومن ثمّ الكتابة عن الكتابة: تقول عائشة سلطان: “الكتابة عن الكتابة متعة أخرى بحدّ ذاتها، عندما نكتب عن الكتّاب الذين نحبهم أكثر من غيرهم، وعن الكتب التي تركت في داخلنا أثرا مثل وشم غجرية لا يمّحي، فنحن نعيش شعورا مختلفا ونكتب عن كتابة أخرى، كتابة خارجة عن المتوقع، وذاهبة باتجاه الاحتياج إلى فن آخر من فنون الكتابة”، عائشة التي تمتلك لغتها الخاصة، يميّزها التباين في مستويات هذه اللغة، فيمنحها رشاقة ودفئا ومتانة ومصداقية ومشهدية.. من السياسة إلى الفلسفة، من أدب الرحلات إلى تدوين ذاكرة الأمكنة وتحوّل الشخوص، تمنح عائشة لكل مقال سرديته ومفرداته الخاصة، وحتى شاعريته: “أهذه التي كانت تمرّ قفز غزال بين الرصيف والمارة، أهذه التي طالما أشاحت بناظريها زهوا عن الجميع؛ سألت نفسي وأنا أتأمل تلك العجوز الواهنة تشدّ نفسها للحظة الآتية بصعوبة، يوغل فيها الطريق الممتدّ عذابا وهي ترنو إلى نهايته بأسى، وحيدة على الطريق تمضي، ووحيدة تكمل الأيام الباقيات، لا أحد تستند إليه أو عليه، لا أحد يلقي عليها التحية، حتى بالكاد.. صبية يتأرجحون في الهواء على زلاجاتهم يمرّون بها سراعا يتفادون الاصطدام بها ويتضاحكون لهوا، ربما فعلت مثلهم ذات عمر، ربما تتناهى إلى مسمعها الآن، وهي تبتسم، وقع ضحكاتها التي كانت”.
_________
*العرب