‘غاليري مصر’ يُقدم أساطير الوعود المؤجَّلة



*د. ياسر منجي
نعرفها اليوم باسم “جزيرة الذهب” – أو (الدهب)، وفق اللهجة المصرية الدارجة، والواقعة في النطاق النيلي المُناظِر لمنطقة “المعادي” – وَرَدَت، تحت اسم “جزيرة الصابوني”، على لسان شيخ المؤرخين المصريين “تقي الدين المقريزي” (764 هـ – 845 هـ)، في كتابه الأشهر “المواعظ والاعتبار بذِكر الخطط والآثار”، الشهير باسم “خطط المقريزي”، في جزئه الثاني، صفحة 185.

يكشف هذا الاستدعاء التاريخي، الذي نمارسه، في مُفتَتَح حديثنا هذا، عن دلالةٍ مهمة، تندَغِم عميقاً في سياق تجربة الفنان رضا عبد الرحمن، التي تستضيفها قاعة “غاليري مصر”، تحت عنوان “أساطير”، والتي تتكئ في شقَّيها، التقني والمفهومي، على استلهام الفضاءَين، الزماني والمكاني، لهذه الجزيرة الفريدة، في بُعدَيهٍما: الحكائي الشفاهي، والجمالي البصري، لصياغة مجموعةٍ جديدةٍ من أعماله التصويرية، التي تُعَدُّ استشرافاً مرحلياً جديداً، جديراً بالتأمل، للخط الأسلوبي الذي دأب رضا على انتهاجه، وموالاةِ تطويره، والاسترسال في مغامرة استكشاف أبعاده، الجمالية والفكرية، خلال السنوات الخمس الماضيات، مستحضِراً في صميمه وفحواه مرجعية الفن المصري القديم، بوَصفها مَعيناً لا ينضب لتخصيب جدلية الصورة/ التاريخ، وهو ما تمخّض، خلال تلك السنوات المذكورات، عن عددٍ من تجارب رضا المهمة، التي لَقِيَت نجاحاً مرصوداً، مٌسَجِّلةً علاماتٍ جديرةٍ بالتوقف إزاءها، والإشارةِ إليها في هذا السياق، وتأتي في مقدمتها تجربته، التي عُرِضَت بمركز الجزيرة للفنون، في مايو/أيار 2010، تحت عنوان “من وحي عشر برديات مصرية”، متماهيةً آنذاك مع تجربة الأديب المصري محمد سلماوي، التي اتخذت الاسم نفسه، في مَتحٍ نَصِّيٍّ فريد من مرجعية الحضارة المصرية القديمة.

أتخذ رضا من الترميز إطاراً لإعلاء صدى البوح، عن طريق بعض الحلول البصرية الذكية، التي نراها تلعب دوراً في إجلاء المعنى وإغناء الصورة معاً؛ ومِن بين الحلول البصرية التي توَسَّع رضا في تَبَنِّيها بمعرضه الراهن، تقنية الإسالة، التي يتم من خلالها ضغطُ فرشاةٍ عريضةٍ مُشْبَعَةٍ باللون، على موضعٍ بعينه من المسطح التصويري، لتنثال دفقةٌ مِن اللون لأسفل، في مساراتٍ متوازيةٍ متفرعة، معطيةً نمطاً بصرياً تكرارياً ذا طابعٍ خاص، يختلف عن مَثيله. ونتحسس جَرّاء تواشُجِها مع جماليات الفراغ، التي نراها تتجلى لديه على نحوٍ خاص في أعمال هذا المعرض، فضلاً عن أنه يعمد إلى توظيفها بحساب، مُنتَقِياً لها مواضع دالَّةً داخل تكوينات لوحاته، يتواترُ أغلبها ما بين الخطوط المُحَوِّطة لبَطَلاتِه الإناث، وبين مراكز تفتُّح أزهاره الزخرفية، فضلاً عن مواضع الانفصال والاتصال الخَطِّيِّة، المحدِّدة للتقسيمات الهندسية لأَسطُح بعض لوحاته، وكأنها تفصل بين عالَمَي السماء والأرض، أو ترسم الحدود المُتَخَيَّلَة، بين عوالم الأرواح والأجساد.
وخلال التقَلُّب بين تلك التجليات والتداعيات، يستعرض رضا ترسانته من المعالجات السطحية غير التقليدية، التي ينفَتِحُ من خلالها مسطح اللوحة على فضاءٍ أرحَب، يكسر الإطار التقليدي لفكرة الوسيط التصويري الاعتيادي، عابراً شروط النوع والمجال، وملامساً تخوم بعض الوسائط الجرافيكية والتجميعية، التي تخلع على أعماله ثوباً قشيباً من الثراء البصري؛ وذلك حين نجده يعمد إلى تطويع إمكانات تقنية التذهيب، ذات التقاليد العريقة في تاريخ فنون الكتاب وتزيين المخطوطات.

وكذا حين نُمْعِن التدقيق والتحديق في بعض لوحاته، لنراه قد لجأ إلى إضافة بعض اللصوقات، أو تثبيت بعض الوحدات التكرارية البارزة فوق مسطح اللوحة، وكذا حين يمزج بمهارةٍ بين معالجات اللون، عن طريق تراكُب طبقاته الرقيقة، لتَنتُج عن ذلك شفافيّاتٍ تُراوِحُ بين مغازلة عين المتلقي، وبين إغناء السطح التصويري بتراكُماتٍ يتردد صداها في أنساق زمنية متعاقبة. ثم إذا به يقابل هذه الشفافيات، بمواضع من التشَبُّع الدَسِم لعجينة اللون، في أماكن التركيز على استيفاء تفاصيل بعض المواضع المحسوبة من الأشكال، وبخاصَّةٍ في وجوه الشخوص والحيوانات، التي يُوليها عادةً اهتماماً خاصاً، مُظهِراً فيها مهارته كرسام بورتريه مُتَمَرِّس.

هكذا جاءت تجربة رضا عبد الرحمن، مُراوَدَةً لأسرار الحكايات عن صُوَرِها، وابتعاثاً لعوالم مِن الأساطير، تتواشَجُ مع أمنيات البشر وهواجسهم، عندما يبوحون بشِكايَةِ وعود أحلامهم المؤَجَّلة.
________
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *