غرباء القرية!


*ميرزا الخويلدي

يقولون: إن العالم أصبح قرية واحدة. وإن وسائل الإعلام والاتصال جعلت الناس يعيشون في بيت واحد وربما على سرير واحد. فقد انهارت الحواجز والأستار وأصبح الناس وما يحملون من عادات وتقاليد وثقافات واعتقادات مكشوفين لبعضهم، فهل بقي شيء يمكن أن يمثل خصوصية لأحد..؟!

نعم، هناك ثمة خصوصية نتفرد بها عن العالم! وهي التعامي عن كل هذا الانكشاف الواسع والصريح، والهروب إلى الكتب القديمة وإلى التاريخ وإلى الأفكار العتيقة من أجل أن نتعرف على بعضنا، وأن نحدد معالمه الفكرية والشخصية.
هل قربتنا وسائل التواصل فعلا..؟ هل أصبحنا نعرف بعضنا أكثر من قبل؟ على اعتبار أن المعرفة سبيل التواصل، وأن «الناس أعداء ما جهلوا»، أم أنها ركزت الحواجز وأقامت السدود داخل القرية الواحدة، وبالتالي صارت تلك القرية مختنقة بما تضم وتحتوي..؟
الغريب أنه في زمن يتمكن المرء أن يعرف ما يدور في قارات الأرض بلمسة زر، لا يعلم عن مواطنه المقيم بجواره سوى ما تختزله الصورة النمطية التي كونتها المرويات عن الآباء والأجداد، لسنوات الصراع القبائلي والطائفي، وما يرسمه خطباء المنابر، الذين لو صدّقنا بعض ما يقولون لأصبح العالم سوداويا تدب فيه التعاسة.
لماذا يؤجر البعض عقله شقة مفروشة للآخرين، يعيثون فيها فسادا، ويملأونها بالخرافات والأفكار المعلبة والأحكام الجاهزة، وهو يمكنه أن يتعرف بنفسه على الحقيقة؟ كيف يسمح شاب يمتلك كل وسائل المعرفة في يديه أن يخدعه أحدهم بفكر يعزله عن العالم، ويرهبه من الاقتراب منه؟ وكيف يرضى أحد أن يعطي الآخرين حق التفكير نيابة عنه، وحشو دماغه بأفكارهم وتصوراتهم..؟
أي تأثير لكل هذه التقنيات في مساعدة الناس للتواصل فيما بينهم، إذا كان كل فرد سيحبس نفسه في خندق عميق ثم يمسك الهاتف المحمول لكي يرسل تغريداته نحو العالم؟ فحتى العصافير في أقفاصها تغرد. جميعا نعلم أن «القناة» يمكنها أن تربط بين المحيطات المتباعدة، لكن البعض من الذين استسهلوا التقنيات الحديثة صاروا يمتلكون قنوات فضائية تكرس ما يعتبرونه خصوصياتهم وتعزلهم عن العالم، بل وتمنع الآخرين من الاقتراب منهم. أصبحت هذه التقنيات الحديثة التي صنعتها أرقى عقول الحداثة، وسيلة لتكريس العزلة وقصف الآخرين.
نحن بحاجة للعبور نحو الضفة الأخرى، لكي نعرف بعضنا، ونتعرف على العادات والفلكلور والفن والموسيقى وعادات الحياة والزواج والطعام والأفكار والتصورات وغيرها، لأن هذه المعرفة يمكنها أن ترفع الالتباس وتزيل الهواجس الوهمية والمخيفة التي نحملها تجاه بعضنا. وسائل التواصل يمكنها أن تقرب المسافات وتزيل الحواجز وتصنع صداقات ومعارف وعوائل افتراضية، عابرة للحدود، وتبحث عن المشتركات فيما بينها، وتعزز مساحة الحوار والتفاهم، وتجعل الناس يشعرون أنهم أكثر استقرارا وأمنا وأن المحيط الذي يعيشون فيه يصبح أكثر اتساعا، وهو لا يضيق بفعل الخصومات والعداوات والرهاب الذي يبعدهم عن الآخرين.
إذا جردت من رسالتها، فإن وسائل التواصل مجرد أدوات لا توفر بالضرورة تواصلا حقيقيا بين البشر. بل ربما تسببت في الشعور بالعزلة والغربة. والنموذج الذي أمامنا هو ما نشهده في بيوتنا حيث ينهمك كل أفراد العائلة في الإبحار عبر هواتفهم المحمولة في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم بحاجة لقطع الاتصال من أجل تأكيد التواصل الإنساني بينهم.
______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *