يوسا وبارنز وآخرون ما الذي جعل منهم كتّابا؟




*ترجمة: ميادة خليل

خمس نجوم من مهرجان هاي* في قرطاجنة (كولومبيا) يتحدثون عن بداياتهم الأدبية ــ من الشعر في بيروت الى ركوب الباص في لندن.

***


ليلى آزام زنغنه
لم أتصور أني سوف أصبح كاتبة. لم أقرأ تحت الأغطية, لم أخربش يومياتي تحت الرحلات في المدرسة أو عليّة المنزل. لم يكن في بيتنا عليّة. في الحقيقة, لم أمتلك كمبيوتر حتى أصبح عمري 21 سنة. عندما يسألونني ماذا تريدين أن تكوني عندما تكبرين, غالباً ما كان جوابي: عالمة فيزياء فلكية, لأن الأمر يبدو مثل إطلاق صواريخ نحو النجوم. كنت أفكر بالفعل بـجيمس بوند. الحقيقة أني كنت حالمة. كنت أريد قراءة جملة أو مشاهدة فيلم لـ 10 أو 12 مرة ومن بعدها أشعر بالضيق لأن الصور والألوان والشخصيات صورت الحاجز مثل تلسكوب, لذا أريد الاستمرار معهم في رأسي.
أمشي الى أعلى الجبل أو أمشي في متحف, وأتظاهر بأني هناك. لكن لفترة طويلة, ببساطة, لم أتمكن من ذلك. الليل لم يكن كافياً, كنت أحتاج الى الحلم أثناء النهار.
بدأت الكتابة عندما وقعت في الحب مع الشاب الخطأ. كان وسيما بشكل غير معقول ومتحدثا جيدا. يريد التحدث لأيام بلا نهاية. كنت مغرمة بعباراته التي كتبتها لأحتفظ بأشياء منه عندما يغادر. كتبت مئات الصفحات التي تبدو قراءتها مثل مقاطع من هذيان الحب (نادراً ما كنت أكتب عباراتي في تلك الدفاتر). تلك الدفاتر جعلتني أشعر بأني احتفظت بحبه في زجاجات سحرية. وضعتها بعيداً وأنوي فتحها. لذا لم أكتب عنه, أو عن ما قاله في تلك الأشهر, لكنه قال لي يوماً: “أنت حالمة, مثل كاتبة” ومن تلك المقارنة, وُلد كتابي الأول.
******
جوليان بارنز
كنت في العاشرة أو الحادية عشر من عمري, كما أعتقد, وأجلس مع أمي في الطابق الأعلى من الباص الأحمر ذي الطابقين. لا أتذكر عما كان يدور الحوار بيننا, لكني واثق من أني كنت متحررا مما يفعله الأطفال, كنت أطارد الفكرة بعد الأخرى, والكلمة بعد الأخرى. ثم قالت أمي: “لديك الكثير من الخيال” لم يكن يبدو ذلك توبيخاً قاسياً, كان مثل تعليق لطيف أو حتى مسليا. لكني فهمت هذا “الخيال”, لذا ليس من الضروري أن يكون أمراً سيئاً, كان شيئا لا علاقة له بالموضوع, لكن له علاقة بنهج الكبار, الناضجين, من أجل تحقيق طريق واحد في العالم وكسب لقمة العيش.
لذا كان مفتاح ذاكرتي ليس من التشجيع, التقدم المفاجئ في المعرفة, أو رؤية الطريق المحتمل أمامي, لكن من الإحباط, أو نصيحة لأبقي على عينيّ مفتوحتين. لكني أعتقد أن الكتّاب صُنُعوا بطرق مختلفة. بعضهم لديهم معلم ملهم, أو عم لطيف سمح لهم الركض بحرية في المكتبة, والخ. كذلك, هناك بالتأكيد كتب في بيتي (والديّ كلاهما مدرسان), لكن وجود هذه الكتب كان يبين لي دائماً أن أناسا آخرين يكتبون الكتب, ليسوا أناساً مثلنا. أمي ذات مرة نشرت خطاباً في صحيفة مسائية, ووالدها نشر ذات مرة كتبا عن المشغولات الخشبية. كان هذا هو إرثي الأدبي. ولكن هذا أيضاً أمر عادي.
أن تصبح كاتباً كان بالنسبة لي عملية معقدة تتكون من العديد من العناصر، لكن أحد هذه العناصر, وأنا واثق من ذلك الى حد ما, كان التمرد اللاواعي على الأم. أنتِ تعتقدين أن الخيال مبالغة؟ إذن سوف أثبت لكِ أن الأمر ليس كذلك, سوف أثبت أن الارتباط العفوي بالطفولة يؤدي الى خيال مقيّد, خيال اجتماعي مصطنع, سوف ترين ومن ثم تعرفين بأنكِ كنتِ على خطأ. هذه المواقف العدائية ليست مفتعلة على الأطلاق (نحن كنا بريطانيين جداً في هذا الصدد). لم تعترف أمي أبداً بأنها كانت على خطأ. ليس لدي أدنى شك في أنها قد نسيت حورانا في الباص تماماً حتى صدور روايتي الأولى. لكن ــ بطريقة أو بأخرى ــ أشكرها على ذلك الإحباط.
********
جونو دياز
كانت مكتبتي الأولى. كنت في السادسة من عمري وهاجرت حينها الى الولايات المتحدة من جمهورية الدومينيكان. أمينة المكتبة كانت لا تنطق كلمة واحدة باللغة الأسبانية, وأنا لا أنطق كلمة واحدة باللغة الإنكليزية. إلا أنها لم تهتم, كانت تحاول معي بمثابرة حتى أفهم. ليس كل بالغ يفعل ذلك ــ كل المعلمين الآخرين كانوا يتجاهلوني. لم أر مكتبة من قبل في حياتي, كل هذه الرفوف الخشبية الداكنة المكتظة بالكتب, وشيء من كرم أمينة المكتبة وصبرها اختلط مع ذهول شديد بالكتب بدأ يفتح في داخلي شعورا قويا بالانتماء. ذلك اليوم سمحت لي باستعارة كتابين, وأتذكر تسرع خياراتي, وبعدها احتضنت الكتب كروح عزيزة في الباص طوال طريق عودتي الى المنزل. عدت الى شقتنا وفتحت الكتب بحذر شديد, مسحت الصفحات, لم أفهم أي شيء. في اليوم التالي استعرت كتابين آخرين لكنهما كانا كتابي رسوم توضيحية رائعة. أمينة المكتبة تحدثت معي أكثر على الرغم من أننا لا نفهم بعضنا بالفعل: وهكذا بدأ كل شيء. على الأقل هذا ما أحب أن أقوله عن نفسي.
*******
جمانة حداد
في البدء كانت كلمة واحدة في قصيدة. كلمة واحدة في قصيدة في الفصل الدراسي في مدينة رهيبة اسمها بيروت. القصيدة كانت للسوريالي الفرنسي بول إيلوار:
على دفتري المدرسي
على رحلتي المدرسية وعلى الأشجار
على رمال الثلوج
أكتب اسمي
نظرت الفتاة من حولها: السقف لا زال في مكانه, الكراسي والرحلات كانت في مكانها, الكتب على الرفوف بترتيب دقيق. لم يكن هناك أي زلزال. على الأقل, ليس في الخارج:
على شباك المفآجات
على شفتين مترقبتين
في حالة أعمق بكثير من الصمت
أكتب اسمك.
كانت بالكاد مدركة بأن قلبها كان يدق في صدرها مثل كلب يملأه الغضب, وبأن الدم كان يتدفق الى خدودها الوردية: لا شيء يهم, لا شيء موجودا خلف التيار السحري للضوء والأمل اللذان انبثقا من فم المعلم وتوجها نحو حياة الفتاة.
من قال إن الخصوبة لا يمكن تحديدها بدقة أو حصرها في زمن معين؟ تلك اللحظة, الشابة جمانة عرفت بأنها ستكون كاتبة.
***
ماريو فارغاس يوسا
تعلمت القراءة في الخامسة من عمري ــ أي, في عام 1941 ــ في السنة الأولى من المرحلة الابتدائية. كان زملائي يكبروني بسنة, لكن أمي أصرت على دخولي المدرسة لأني كنت مشاغبا وكدت أُفقدها صوابها. معلمنا كان الأخ جستينيان ــ نحيلا, بسيطا, رأسه أبيض حليق تقريباً. جعلنا نغني الحروف, حرفا بعد حرف, وبعدها, يدا بيد, في حلقة. جعلنا نحفظ المقاطع كلمة كلمة, ننسخها ونتذكرها. من كتب الإملاء المصورة للحيوانات لننتقل الى كتيب صغير عن التاريخ المقدس وأخيراً الى الكوميديا, الشعر والقصص. أنا متأكد أن ذلك كان في عيد الميلاد من عام 1941 على فراشي وسط كومة من كتب المغامرات, من بينوكيو الى ذات الرداء الأحمر, من ساحر الإوز الى السندريلا, ومن سنو وايت الى الساحر ماندريك.
مهنتي ككاتب تطورت في ظل تلك القراءة. القدرة على نقل نفسي الى جحيم البحرية, الى الستراتوسفير, الى إفريقيا, انكلترا, بلجيكا أو ماليزيا, ثم العودة في الزمن من القرن العشرين الى فرنسا رشيليو ومازارين, ومع كل شخصية روائية, أغيّر جلدي, وجهي, اسمي, وظيفتي, حبيبتي أو مصيري وأظل نفسي, لا أنفصل عنها. كانت معجزة غيّرت حياتي جذرياً. لا أتعب من تكرار ذلك السحر, بنفس جاذبية وحماس سنواتي المبكرة. حتى أصبحت النشاط الأهم لوجودي. 
________
*مهرجان هاي للأدب والفنون هو مهرجان سنوي يعقد في مدن عديدة من العالم من شهر آيار مايو الى حزيران يونيو، أسسه نورمان وبيتر فلورنس في عام 1988. الراعي الرسمي للمهرجان هذا العام هي صحيفة التليغراف. 
______
*المصدر: التليغراف/ العالم الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *