هانم الشربيني *
( ثقافات )
مشهد 1: ليل خارجي
كشك حراسة و بنادق معلقة بداخله، يعلو الأرض ببضعة أمتار، ويجلس أمامه رجل في منتصف العمر ببدلة زيتية ووجه أسود.
تعشق المدينة الصمت. الجدران وحدها تقف مرتعشة دون حركة، لأنها تعرف كل الأسرار. الظلام يحيط بمنازلها.. ضوء خفيف يلف شوارعها.. تتحرك أوراق الشجر الذي يلف المدينة. هي شبه مدينة منعزلة عن العالم، لا يعرفها أحد ولا يهتم بها أحد. ولكن في المدارس التي يتعلم بها أولاد الأعيان يرتلون كالقرآن كلمة واحدة: تاريخ هذه المدينة الوهمي. تشعر بأنك يوما بعد يوم تعيش موكبا جنائزيا. الخوف يوزع على القلوب بالتساوي. الجميع يعلم أن الحاكم مات ومدفون بالداخل في قصره، ولا أحد يجرؤ على القول بذلك علنا. هكذا سربت الخبر فتحية، إحدى الخادمات بالقصر، دون أجر لصديقتها الوحيدة ثريا، ومنها تسرب لزوجها الذي يعمل حارسا بالمدينة المسماة «الشعراء». ويوما بعد يوم يجلس كالعادة على أحد أكشاك الحراسة فيجلس معه أحد الزوار فيقول له جملة مكررة كل يوم: «ادفع جنيها وسأقول لك خبرا مفرحا يهمك».. يساومه القادم فيدفع في النهاية نصف جنيه آملا في شراء السعادة البعيدة!
وبعد بضع دقائق من التفاوض يقول مجدي: «الحاكم الديكتاتور تم دفنه بالقصر، وحان وقت الفكاك من حكم الميت، ولا بد من الثورة عليه».
الزائر: «كيف نثور والجيش يحمي القصر؟»، يتكلم هامسا، كأنه يكلم نفسه.
مجدي: «وهل سنظل صامتين على ما يحدث لنا من سخرة يومية في خدمة الملك الميت وولده وأقاربه من الأعيان؟».
الزائر: «وهل عندك حل؟».
مجدي: «الحل في اقتحام القصر والاستيلاء على ما فيه من أموالنا التي نهبها الملك».
الزائر: «لا تقل مثل هذه التخاريف.. انظر لأولادك.. سيذبحونهم أمام عينيك إذا علموا بهذا الأمر».
مجدي يصمت كالصخرة ويقول لنفسه: «حتما إنني أخطأت بإفشاء ما بداخلي.. وحدها مياه البحر الذي أجلس بجواره كصياد هي التي تحتمل أفكاري، فمن أكون سوى حامل لسلاح يدافع عن مدينة الملك، وزوجتي وأولادي أجراء في أرضه وبيته، وكذلك كل المدينة؟!.. إنها المدينة التي تعمل بلا أجر ولا تنال غير الشقاء كل يوم».
*****
مشهد 2: نهار داخلي
يستيقظ الصباح، وتبدأ العصافير في السعي لجني رزقها اليومي. وتسير خطوط الليل مودعة المشهد بخيوط بيضاء تلف المدينة وكأنها كرة من الثلج الذي يحمل داخله بخار. الفقراء يتأهبون للعمل في أراضي الملك بالتنقل بين الشوارع لجمع بعضهم البعض.
ينصرف مجدي من على كشك الحراسة ليذهب لبيته على أطراف المدينة. البيت تقريبا بلا سقف.. غرفة واحدة تجلس فوقها أعواد قش الأرز، وبها أكوام من اللحم على سرير واحد لثلاث بنات وولدين، وأم تفتح الباب بنصف عين لتستعد للذهاب للخدمة في القصر. هكذا اعتادت ثريا، ففي انتظارها مهمة بالغة الخطورة، وهي الذهاب لإطعام حمار الملك، الذي كان الملك يخصص له غرفة خاصة ويحضر خصيصا الريش الناعم لينام فوقه، بل يقال إن هذا الحمار كان الملك يستشيره في كل ما يحدث في المدينة.
*****
مشهد 3: نهار داخلي
قصر الملك يرتفع عن المدينة كأنه فنار يراقبها. الزهور الحمراء تسكن على جدرانه المرتفعة، وبجوار حوائطه المرتفعة الشبيهة بجدران القلعة باب خاص للخدم مصنوع من النحاس الخالص، وفي وسط الجدران من ناحية المنتصف يقف باب الملك الخاص: باب ذهبي مزخرف ويحمل في كل زخارفه اسم الملك المعظم «مصري».
تنتقل ثريا من بيتها للقصر في أقل من دقائق بعد استيقاظها. تشعر بأن الجوع يسيطر على تفكيرها، لكنها لا تفكر سوى في ترك بعض الحليب المخزون لأطفالها، وتفكر أيضا في الإسراع لكي تفطر الحمار. حمار القصر مختلف كثيرا عن أي حمار آخر، فهو يعيش عيشة الملوك على حد تعبيرها: لا يأكل برسيما وخضراوات، وإنما طبقا لأوامر الملك لا بد أن يشرب صباحا اللبن بدلا من المياه مثله مثل أي طفل. الحمار كان يشغل كل اهتمام الملك، فحتى قبل رحيله حرص على تلقين ابنه الصغير على نصيحة واحدة هي «لا بد أن تستمر في اهتمامك بالحمار، فهو تميمة الحظ في هذه المدينة، وهو الذي يضمن لك الاستمرار في حكمها والسيطرة عليها».. هكذا قال له أحد الدجالين منذ سنوات حكمه الأولى، وعاش محافظا على تلك النصيحة، فكان يحرص على صحة الحمار لأن استمرار حياته يعنى استمراره في السلطة، بل كان خدام القصر يتعجبون من تقبيل الملك للحمار والحرص على إحضار حلاق الملك أسبوعيا لتهذيب شعره.
لم يكن الملك يعرف من أسرار حكم المدينة سوى الاهتمام بهذا الحمار، ولم يكن يشعر بغيره. والمدينة كانت تحكم نفسها بنفسها، فهي تستيقظ كل صباح ليعمل الفقراء ويزدادوا فقرا، وتزداد حاشية الملك ثراء وقصورا، ولم يكن على الملك سوى فعل شيء واحد فقط هو امتلاك سوط لمعاقبة من يخرج على تعليمات الملك الهمام في بهو القصر، لكي يتعظ غيره من الأجراء المكلفين بخدمة الملك.
*****
مشهد 4: نهار داخلي
الملك يموت.
تذهب ثريا للقصر ككل صباح. تستيقظ على حلم أنها تصرخ وترتدي الأسود. تفرك عينيها وتقول: «اللهم اجعله خير». تغسل وجهها نصف غسلة بماء دون صابون وتتجه كالعادة لقصر الملك. تعرف طريقها لباب الخدم ومنه تتجه إلى المطبخ لغلي اللبن للحمار، لكنها بمجرد دخولها تشعر بحركة غير طبيعية في القصر. ففي صالة القصر المليء بالتحف وصور الملك تقف الملكة «هانيا» على غير عاداتها بوجه عابث يخفي شيئا.
تلقي ثريا السلام على الملكة: «صباح الخير يا سيدتي».
الملكة هانيا: «أهلا ثريا.. قبل أن تغلي اللبن للحمار أريد منك الذهاب لبيت الشيخ محمود جمعة، وأحضريه في ايدك ولا تأتي دونه».
ثريا: «حاضر»، تنصرف وعلى ووجهها رعب من المشهد الذي لا تفهمه.
*****
مشهد 5: نهار خارجي
تخرج ثريا من باب القصر وتتجه لبيت الدجال. تسير كأنها تجري خوفا من التأخر على الملكة التي تنتظرها. ويدق قلبها دقات متتابعة، فهي لا تحب رؤية هذا الدجال الملقب بالشيخ، والذي تقول عنه المدينة إنه لو أغضبه أحد من الممكن أن يحوله لقرد معلق على شجرة. تسكن في رأسها كل الحكايات المخيفة وتقول لنفسها: «كيف أعود مع هذا الرجل إلى القصر؟!.. حتما سأصاب بمرض القلب من الخوف».
تصل للباب فيطير كل الكلام من ذهنها. تدق على الباب فيفتح محمد الخادم الباب قائلا: «إيه في إيه يا بت.. مالك كده جاية تجري؟!».
ثريا: «مافيش حاجة.. الست هانيا عايزة الشيخ محمود».
الخادم محمد: «حاضر يا بت.. هاطلع أصحيه.. روحي انتي وهو هييجي».
ثريا: «لا.. الست هانم قالتلي لازم ييجي في إيدك».
الخادم محمد: «طيب ادخلي يا بت استنيه على ما اطلع أصحيه».
يفتح الباب لها فتدخل وتجلس على كنبة خشبية في مدخل البيت. تجلس وهي ترتجف من الداخل، كل تفكيرها يدور حول العفاريت التي تحوم في البيت والتي من الممكن أن تدخل لجسدها وتتحول إلى جسد بعفريت.. وتتذكر كل الحكايات التي تتداولها الخادمات عن قدرة الدجال على تحويل البشر لحمامة تطير في السماء.
تستمر في الرعشة الداخلية إلى أن تسمع صوت الدجال يناديها من أعلى السلم المؤدي إلى صالة المنزل قائلا: «فيه إيه يا بت.. الست هانم عايزاني في إيه على الصبح كده؟!.. الحمار حصله حاجة يا بت؟!».
ثريا: «والله ما أعرف يا شيخ.. أول ما دخلت القصر قالتلي روحي نادي على سيدك الشيخ يا ثريا».
الشيخ الدجال: «طيب استني على ما أركب الحمار بتاعي يا بت».
ثريا: «حاضر»، ثم تسير بجواره إلى القصر كالأصم.
*****
مشهد 6: نهار داخلي
يدخل الشيخ محمود من الباب الجانبي المخصص لضيوف القصر، وقبل أن ينطق بكلمة يجد الملكة في انتظاره. يلتقط من وجهها أمرا خطيرا فيقول: «خير يا ست هانم؟!».
الملكة هانيا تلتفت حولها وتقول بصوت هامس: «الملك مات».
الشيخ يرسم الصدمة على وجهه ويقول: «لا اله إلا الله»، ويصمت.
الملكة: «المهم أنني لا أريد أن تعرف المدينة شيئا.. ولا أدري كيف أتصرف.. وأريد استشارتك».
الشيخ: «فلنقم بدفنه في حديقة القصر، ولكن يا سيدتي لا بد من الحفاظ على صحة الحمار لأن استمرار الحكم بين أيديكم مرهون بالحفاظ على حياته.. هكذا قرأت طالع الملك في أحد الأيام».
الملكة: «أخاف أن يتسرب خبر وفاة الملك للمدينة فينقلب علينا الخدام والأجراء».
الشيخ: «الخدام لا يمكنهم التمرد عليكم، لأن الحمار يحمي القصر من الشر، والخدم لو أوقفتم أجرهم اليومي فسيموت أولادهم من الجوع.. والمهم هو دفن الملك سرا وزيادة حراس المدينة ليلا».
الملكة: «المهم أن تقوم بدورك في حماية القصر».
الشيخ: «سأقرأ بعض التعاويذ حالا، وسأقرأ بعض التعاويذ على اللبن الذي يشربه الحمار لكي يحفظ بيتكم يا سيدتي».
*****
مشهد 7: الدجال والحمار
يعرف الدجال حقيقة كل شي في هذه المدينة. يعلم أنها مدينة الفقر هو الذي يحركها، وأن عرق الخدم هو الضريبة التي يجب أن يدفعوها يوميا لكي يستمر هو وغيره في القيام بوظائفهم وكأنهم هم حراس المدينة ومن يحمونها. لكنه يحفظ بعض التعاويذ من كتب السحر القديمة التي كانت ملقاة على البيت الذي ورثه عن أبيه، وكان بعضها تعرض للحرق، وكانت مخزنة في صومعة لتحزين القمح مصنوعة من الطين وتجلس فوق سطح المنزل الذي يطل على ترعة يقال إنها مكان للجن والعفاريت.
يدخل الدجال إلى الحمار الذي يقع تحت رجليه سجاد فاخر، وأمامه طاولة من الطعام تمتلئ بالبرسيم والبطاطس المقشرة والمقطعة، فيتلو عليه بعض التعاويذ ويحرق إحدى الأوراق التي تحمل حروفا متفرقة فوقه.
بعد أن يخرج من عند الحمار يستمر في النهيق. بعدها يخرج للملكة قائلا: «لا تحزني، فعرشك محفوظ، والحمار ما زال يتمتع بصحة كبيرة، وأسنانه تشير إلى صغر سنه ورشد عقله».
تنظر له الملكة وهي صامتة تماما ثم تنطق قائلة: «لا يهمني الحمار.. ما يهمني المدينة».
الدجال: «الحمار هو الذي يحكم المدينة.. وطالما هو موجود فإن المدينة ستستمر».
قاصة وصحفية من مصر .