قراءة في رواية “من يصغي إلى أصوات الصمت؟”


*توفيق الشيخ حسين


( ثقافات )
صور غامضة نصف مرسومة .. لم تعد الحكايات تتقطع ولا الناس يختفون مثلما حدث بين صخور الكرمل السوداء والجمر المتلاحق .. همسات ترن كأنها أجراس تحمل هموم الوطن .. وفراغ مترامي أمام البحر.. يعزف كل واحد منهم معزوفته المجهولة , ويمثل نفسه على خشبة مسرح أو ناصية شارع أو صفحات جريدة أو زاوية مقهى , زاوية بعيدة عن الضجيج لأن الزوايا هي أفضل الأمكنة التي تنشط فيها الذاكرة …
” الأمر المهم أن يدخل الإنسان ُ في قلب ِ الحجر ِ , أن يرى العالم بعيونه ” ..
يستهل الأسعد روايته بتصدير من أغنية طروادية تقول :
” أيـها الغريـب .. “
قالت ْ آندروماكي وهي تطحن الملح َ على جانب الطريق 
” ….إذا أخبرتني من أي ّ وطن أنت َ
سـأ قول لك َ كم أنت َ حزيـن ” 
في ” أصوات الصمت ” يخلق الأسعد عالما ً من شخصيات وأحداث ويبحث عن ذلك العالم الداخلي للإنسان في ضوء الظروف التي تحياها هذه الشخصيات .. انه بحاجة إليهم لكي يبدأ حكايته ربما ليعود إلى الحياة مرة أخرى .. أنهم كانوا معا ً، واحدا ً فواحدا ً .. أحياء ً أو موتى ..
” ستروي حتى الأمكنة حكاياتها هاربة من الموت ” .. 
يركز الأسعد على وصف فضاء أحدى الشقق التي لا تكتمل فيها الحياة .. هي مكان للذكرى .. حين يتوافد الأشخاص قادمين من غيابهم العميق ويتطلعون حولهم مندهشين شاعرين باليأس .. 
هذا هو محور الحكاية التي بدأت بفكرة مسرحية وأختار لها الأسعد شخصيات مختارة بعناية لتكو ين فريق مسرحي ..
يقول الدكتور سعيد يقطين :
” الشخصيات الروائية تتمازج أو تتداخل أو تتقاطع من خلال الأفعال أو الأحداث التي يقوم بها كل شخصية من هذه الشخصيات ” ..
رواية ” أصوات الصمت ” للروائي محمد الأسعد هي اكتشاف في الواقع واكتشاف في الذات وبحث عن الظاهر .. بحث من خلال الظاهر عن الباطن .. بحث من خلال الأحاسيس كيف تتحقق في الظاهر .. يمثل المكان والزمان مكونان أساسيان في بناء الرواية .. فالأسعد وهو يبني شخصيته في الزمان وفي المكان يعطي لكل شخصية إطارها الخاص بها .. 
يقول الأسعد عن رواية ” أصوات الصمت ” في أحد حواراته : 
” هي تجربة , بمعنى إنها كتابة في سياق ٍ ممتد ٍ طابعه التجريب .. ولا أجد كلمات مثل ” الرضا ” أو ” السخط ” ملائمة لوصف ما أشعر به تجاه هذه الرواية .. الأفضل أن نتحدث بتعابير تقييم هذه التجربة , أي وضعها في سياق امتيازه الأول رفض تكرار القوالب ” …
تعتبر رواية ” أصوات الصمت ” محاولة جديدة لكتابة تجربة ” فلسطيني الكويت ” .. 
هل كان يفكر الأسعد فعلا بكتابة تجربة بهذه المواصفات ؟ لا نعرف .. بل قد نستغرب من منح هذه التجربة صفة ” تجربة فلسطيني الكويت “. ما يكتبه الكاتب هو تجربته .. وفي هذه الحدود لا يمتلك أن يكتب أو يقول إلا ما يعبر عن مستوى ثقافي محدد خاص به .. يقول R.Gaillois :
” يقتصر الكاتب على نقل ما كابده أو عايشه .. انه لا يحلل سوى انفعالاته ولا يروي إلا تجاربه ولا يبلغ شيئا عدا ذكرياته ” ..
إذا كان الزمن يمثل الخط الذي تسير عليه أحداث الرواية فأن المكان يظهر على هذا الخط ويصاحبه ويحتويه .. الزمن يرتبط بالإدراك النفسي أي بالأفعال ” الأحداث ” وأسلوب عرض الأحداث هو السرد .. أما المكان فيرتبط بالإدراك الحسي .. أي يظهر من خلال الأشياء التي تشغل الفراغ أو الحيز .. وأسلوب تقديم الأشياء هو الوصف .. 
” العودة ثلاثين عاما ً إلى الوراء , كلما مر ّ بنا الزمن عابرا ً إلى الماضي دائما ً ” من هنا يظل المكان الفلسطيني البعيد حاضرا ً … 
في ” أصوات الصمت ” يرسم محمد الأسعد صورة تاريخية باحتضان الكويت لأعداد من فلسطيني نكبة 1948 ونكسة حزيران 1967 بتوجه أعداد من اللاجئين الفلسطينيين إلى الكويت .. وكما يقول الدكتور احمد أبو مطر :
” فهو لا يكتب من خارج الأحداث بل من وسطها حيث يكتوي بنارها يوميا ً ” ..
“الأسعد ” يكتوي مع شخصياته وبحاجة إليهم لكي يبدأ حكايته .. هم أصحاب الأرض التي فقدت أهلها , وبكت عليهم , وما زالت تبكي , وحين طلبتهم سمعوا صوتها مخنوقا ً كأنما يأتي من أعماق بئر ..
“علي الطش ّ, احمد النمّول , عاطف , أبو عواد , رسوم ناجي العلي , جمال , الزائر , أبو القشب , بائع خردوات السيارات , باسم , المتوحد الكرملي , الميت, ميرسول , المتصوف ” .. 
كثيرة هي الأشخاص في رواية ” أصوات الصمت ” التي تحمل رموزا ً معينة وهي شخصيات تمثل شرائح فلسطينية متنوعة .. فالأسعد لا يعيش في ملكوت خاص به وإنما يستمد رموزه من مجتمعه ليعكس صورة لواقعه كما يفعل المؤرخ ..
يقول ” جبرا إبراهيم جبرا ” :
” الروائي لا يعيش في ملكوت خاص به , ولا يستمد من خياله فقط مادته الروائية , ومهما أغرق في الخيال لابد أن يستمد رموزه من مجتمعه ولابد أن يعكس صورة لواقعه كما يفعل المؤرخ ” ..
لعل البناء الفني للرواية يعطي للباحث عن الدلالات الرمزية مجالا ً أوسع في عمليات البحث .. رسوم لناجي العلي تتزاحم فيها الكروش المتضخمة والعيون البلهاء والوجوه النحيلة لفقراء المخيمات .. والصحفي الزائر, صاحب علب لف التبغ اليدوي الفضية، يتحدث عن كاموأوسارتر إلى بسطاء تنفتح عيونهم دهشة وأفواههم أيضا وهو يحاول بلهجة قاطعة إثبات أن حياتهم عبث ولا خلاص إلا بالتمرد على كل شيء .. جمال عامل البناء النحيل يتحدث عن ظهيرات ناعسة بين أشجار القرى التي تجوّل فيها صبيا ً يبيّض أوعية القرويات النحاسية ..
الشقة ليست مجرد مكان للحدث الروائي ولكنها بنبضها وأحاسيسها وتعاطفها تكتسب بعدا ً رمزيا ً تتخطى مجرد الدلالة المكانية .. كما كانت الصحراء في رواية غسان كنفاني ” رجال في الشمس “، تتسع معها دائرة رؤية الرمز في تفاصيل الرواية .. 
” الصهريج , الشمس , الصحراء , الجرذان , الموت ” وكلها أشياء قابلة في حد ذاتها لتشكيل عناصر رمزية تنسجم في مبنى رمزي عام إذا ما نظر إلى الرواية من هذه الزاوية ..
حين بدأ يتحدث ميرسول :
” نحن أموات بالفعل ما لم ننهض ونمثل أنفسنا .. دعوني أذكركم برواية غسان رجال في الشمس , الا تلاحظون أن من ماتوا في خزان أبو الخيزران كانوا ثلاثة ؟ إذن ماذا كان مصير الباقين ؟ الباقون نحن , أنا وانتم ؟ ألسنا في الخزان نفسه حتى هذه الساعة ؟ ” ..
إن تنامي الوعي بتعاسة الواقع المعاش هو الذي دفع ” بالأسعد ” إلى أن يمنحنا دلالات عميقة عن بؤس الواقع والظلم والقهر الاجتماعي الذي يعيشه الفلسطيني والذي يؤدي إلى اختيار طريق خلاصه بكامل إرادته , حيث لم يقدم أي شيء للشعب الفلسطيني سوى الصمت , صمت الفاسدين والمتكالبين على الوطن والشعب ..
” سواء فهم هذا الفقمة أو لم يفهم , سيظل الفلسطيني يستمع إلى صوت قراه المدمرة , سيكون وحيدا ً مثلما كان , سيغني وحيدا ً ولكن شيئا ً فشيئا ً سيصل صوته إلى عدد متزايد من الناس , هذا وأمثاله من الكروش المتهدلة يتعيشون على عذابنا , يمثلون عذابنا , ولكننا لسنا بحاجة إليهم , سنغني أغنيتنا في كل مكان وننشر ظلالنا ” .. 
يحاول ” الأسعد ” تشريح شخوص روايته فكرياً حيث يتحول كل واحد منهم إلى راوية يقص حكايته كفلسطيني منفي يرتبط بأرض وقضية وما في دواخله من هموم وطموحات وأحلام منهارة وممزقة ..
يرسم لنا ” الأسعد ” شخصياته بكل دقة , في علاقتها بذاتها وبالآخرين والتي تواجه محاولات طمس الهوية , وإخفاء المعالم , وسرقة أرض وشعب , كما عبرالناقد مختار عيسى في تناوله للرواية :
” تأكيد الوجود التاريخي لشخوصه الممثلين لشعب الشتات على أرض هجروا منها , ويأبى الزمن الإنصات لحضورهم , فتكون أصوات الصمت , أصوات مفردات المشهد البصري المخزون أعلى صراخا ً في آذان عالم لا يسمع لأنين المكلومين , المشردين تحت سمع وبصر قائد ومنظمة , وشاعر , ومحقق , وسجن , وتحية عسكرية ” ..
لم يبق َ لدى ” الأسعد ” من كل ما رسم سوى خطاطات على أوراق في مخيلته ,وكل ما كان لديه كان فكرة , وضاعت الفكرة في الضجيج الذي ساد بعد سقوط الطش قتيلا ً في بيروت على أطراف خلدة مع بداية الاجتياح الإسرائيلي .. ورحيل النمّول لإنقاذ الجنرال الأفريقي الضخم , ووقفة أبوعواد على ظهر سفينته يتأمل شواطئ نيوزلندة , وجلسة الميت في مقهى من مقاهي عمـّان زاعما ً بقبعته العريضة أنه حفيد مركيز فرنسي , وسعادة ميرسول أخيرا ً لأنه تحول كما يقول إلى رجل خفي على تلال عمـّان بنعمة رفيقة جولاته في الحدائق التي حررته من كل القيود .. 
*محمد الأسعد / رواية أصوات الصمت / الدار العربية للعلوم ناشرون / مسعى
بيروت / لبنان / 2009

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *