ماريا بوبوفا
ترجمة: نداء غانم
يقدم الكاتب هنري ميللر في كتابه حكمة القلب (وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة والمقتطفات الأدبية والسيرة الذاتية) إضاءات على فن الحياة ومستقبل البشرية.
في مقالة مميزة بعنوان (تأملات في الكتابة) استعرض ميللر العوامل النفسية، والعاطفية، والإجتماعية التي صنعت منه كاتباً.
في هذه المقالة، يبدأ ميللر بتصدير رحلة الاستكشاف التي خاضها في الكتابة، والتي اعتبرها أساسية وغير محدودة ساعدته في تحويل المعلومات إلى معرفة ومن ثم إلى حكمة:
الكتابة كالحياة ذاتها، رحلة استكشاف أشبه بمغامرة ميتافيزيقية، وهي وسيلة تقربك من حقيقة الحياة بشكل غير مباشر، لأخذ نظرة كلية على الحياة بدلا من النظرة الجزئية. يعيش الكاتب بين عالمين؛ الواقعي والميتافيزيقي. ويأخذ مساره بينهما ليتحدا أخيراً (هو والمسار) ويصبحا كيانا ً واحدًا.
انطلاقتي كانت من القاع حيث الفوضى والظلام، في مستنقع من الأفكار والعواطف والتجارب قبل أن أصل الى ما وصلت إليه، وحتى الآن فأنا لا أعتبر نفسي كاتبا بالطريقة التي يعرف بها الكاتب. أنا مجرد شخص يسرد قصة حياته، وكلما تقدمت في العمر اتضح لي بأنها مصدر لا ينضب لسرد القصص، وعرض التجارب، وأنها لا تنتهي كتطور الكون، وهي كالسباحة عكس التيار، إنها بالأحرى رحلة في بُعد آخر غير تلك الأبعاد المتعارف عليها. والتي تدرك فيها وفي إحدى المراحل بأن ما يتوجب عليك سرده وما يتم بالفعل يفقد أهميته مقارنة بعملية السرد ذاتها. إنها نوع من الفن، الفن الذي يضيف مسحة من الميتافيزيقية لجميع أنواع الفنون، وهي التي تضع الفن في موضع القدسية، بعيدًا عن حدود الزمان والمكان وتدمجه مع الكون نفسه. هذا هو الفن الذي يُعد مذهلاً ومهمًا وشافيًا وخالداً.
منذ البداية كنت على يقين تام بعدم وجود هدف محدد لي، ومع استمرار بحثي عن يقين يتجاوز الإيمان والعقيدة، أصبحت غير مبالٍ بمصيري ككتاب، وصرت متأكدًا تماما من قدري كإنسان.
وفي وصفه لفشل محاولاته الأولية في الكتابة من خلال تحليل أعمال الكُتاب الذين يعتبرهم مثله الأعلى ومن ثَم تقليدهم، يصور ميللر الفشل كنوع من أنواع الإبداع التنفيسي، وشرط أساسي ليكتشف الفرد نفسه ثم هدفه:
فشلي الكبير كان بمثابة عُصارة تجاربي. كان الفشل في حقيقة الأمر عملية صقل محكمة. توجب عليّ أن أحصد المعرفة بكل ما يتبعها من سوء، أن أدرك عبثية كل شيء، وأن أحطم كل شيء، أن أجني اليأس، أن أتذلل، ثم أعود ثانيةً لأنقي نفسي من كل ما هو مقيت، وأن احتفظ بما تبقى، لأستعيد أصالتي. توجّب علي أن أصل إلى الحافة وأن أقفز في الظلام نحو المجهول.
ويتابع ميللر في ذات السياق، ليصنع حالة من اللامبالاة الانتقائية، حيث يجمع بين أسلوب راي برادبري القاضي بالاستمتاع عند الكتابة، وأسلوب تشارلز بوكوفسكي المبني على المعاناة والألم. فيقول:
على السطح، هناك حيث تستعر المعارك التاريخية، قد تتواجد الحياة. لكن حياة الشخص فعليًا تبدأ عندما يصبح أسفل ذاك السطح، عندها يتوقف عن الصراع، لأنه سيضمحل ويختفي عن الأنظار. حينها، أستطيع أن اكتب بنفس مقدار سهولة عدم الكتابة. بدون إكراه وبدون أغراض علاجية.
ومهما أنجزت أو ما سأنجزه سيكون نابعًا فقط من متعتي المطلقة، سألقي بثماري كشجرةٍ أفرط أُكلها بالنضوج، ولن يعود ذا قيمة ما سيقوله القراء أو سيعتقده النُقاد.
أنا لستُ هُنا لأبني قيمًا جديدة، فجُل ما أنا عليه، لا يعدو كوني مسارًا لانتقال المعرفة.
الفردوس في كل مكان، وكل الطرق تؤدي إليها.
الكلمات واللغة:
انا لا أؤمن بالكلمات حتى ولو صيغت من قبل أمهر الرجال. أنا أؤمن فقط باللغة فهي التي تتجاوز الكلمات، ولا يتعدى دور الكلمات سوى أنها تعطي اللغة وهماً مناسباً، ولا وجود للكلمات المجردة إلا في عقول الطلاب وعلماء الحشرات والفلاسفة.. الخ
وخارج اللغة لا يتعدى كون الكلمات، أشياء ميتة عديمة القيمة، فهي لا تعبر عن حقائق ولا عن أسرار.
في الجدل القائم حول قيمة إحلال السلام مع الغموض، يردد ميللر مفهوم ريكله وجون كيتس والرأي الذي أبداه مجموعة من العلماء العظماء السابقين بالإضافة الى ريتشارد فينمان واسحق عاصموف والقائل بالقدرات السلبية (مصطلح استخدم لوصف قدرة الفرد على التصور والتفكير والعمل خارج نطاق أي افتراض مسبق لقدرة الانسان المحددة سلفاً) ، يردده ميللر بصورة جميلة:
الفهم هو ليس القدرة على اختراق الغموض، بل القبول به والعيش بسعادة معه وفيه وخلاله وبواسطته.
ويسلط الضوء على الهدف الضمني الأسمى للكتابة من خلال أسلوب شعري يسلب الأنفاس لـ أناييس نن:
إنها مادة الحياة الأولى، الإشارة الأكيدة للحياة. يصل الشخص الى القلب بواسطة الحقيقة، والتي أفترضها أسمى ما يمكن أن يسعى إليه الكاتب، بحجم ما يتخلى عن النضال، وبالحجم الذي يتخلي به عن النوايا. الكاتب العظيم هو الرمز الأوحد للحياة، لعدم الكمال. يتنقل بدون جهد، يظهر الكمال بشكل وهمي مستندًا على شيء غير معروف، وهذا الشيء هو ليس العقل قطعاً، ولكنه شيء ذو أهمية، شيء يتناغم مع الكون، كصوت ثابت وصلد، متين وممتلئ بالتحدي، فوضوي.. كالكون تماماً.
الفنون لن تُعلمنا شيء، إلا قيمة الحياة.
ويضيف ميللر إلى أدق تعريفات الفن التاريخية:
الفن هو الحياة، وليست الحياة بذاتها بل بكامل ترفها. هو ما يدلك على الطريقة للاستمتاع بالحياة، وهذا هو الذي تم تجاهله، ليس فقط من قبل العامة بل من الفنانين أنفسهم. في نهاية المطاف، فالفن يتفوق على نفسه. معظم الفنانين يهزمون الحياة من خلال صراعهم معها. أنا اعلم يقينًا أن جميع الفنون ستختفي يومًا ما، لكن الذي سيبقى هو الفنان نفسه. والحياة ذاتها ستخلو من الفن لأنها ستصبح في مجملها هي الفن.
وفي نطاق زيف الحقائق:
بين الذاتية والموضوعية، لا يوجد العديد من الفروقات الجوهرية. كل شيء في حقيقة الأمر وهمي وخادع. جميع الوقائع والأحداث، بما فيها الإنسان وأفكاره ومعتقداته عن حقيقته ونفسه هي ليست سوى أشياء متغيرة ومتبدلة. ولا يوجد حقائق أو معارف ثابتة تعطينا أرضية صلبة للاستناد عليها.
وفي مساهمته في التعليق على تأملات أخرى لكتاب آخرين عن موضوع الحقيقة مقابل الزيف، يضيف ميللر:
الخيال والابتكار هما الخامة الأساسية للحياة. ولا سبيل لنشر الحقيقة من خلال المصادر الروحية التأملية.
وبالتالي، ومهما كان فأنا من الممكن أن أثق ثقةً مطلقة وعمياء بالأشياء المادية أكثر، مثلا إبرة جهاز قياس الزلازل، والأشكال الهندسية، ولكن ليس بتجربتي الغامضة والصاخبة في الكتابة، والتي من الممكن أن يكون قد عاشها غيري بغموض آخر وبصخب مختلف.
أصل الحقائق الثابتة، والذي يشكل حجز الزاوية، مغروس في داخلي كفنان، وتمثل في شخصي. أنا لا استطيع تضييع ما أنا عليه، لا أستطيع تغيير الحقيقة أو تمويهها، ولأكشف الحقيقة للعامة، الحقيقة التي لا تتغير كما يتغير وجه هذا العالم مع كل نفس ألتقطه، يتوجب علي طرح زيف مزدوج الأوجه، كذبة بوجهين، تكشف وهم الكذب. وأن هذا القناع المتحول هو جوهر الفن وأحد أهم مراسيه، قناع اعتماد الكذب من أجل كشف الحقيقة.
يؤكد ميللر أيضًا على ما جاء به ويليام جيبسون ووصفه بالثقافة الفردية المصغرة، والتي بدورها تدل على أن الابتكار هو مكون أساسي ونتاج طبيعي لتجارب حياة الفرد:
تبدأ الحياة في أية لحظة، من خلال الإدراك والعمل، لكن وكما لكلٍ بداية، كصفحة كتاب مثلا، أو جملة أو فقرة أدبية فكل منها تشكل مجموعة من الروابط الحيوية الأساسية التي تشكل في مجملها شيء ما. في الكتابة، كل سطر وكلمة مرتبطة ارتباطًا كليا بحياتي أنا وحدي، بأفعالي والحقائق والأفكار والانفعالات والرغبات والأحلام وحتى الأشياء عديمة القيمة وغير الجديرة بالذكر التي تطفو فوق سطح عقلي، كلها تشكل المكون الأساسي للكتابة، حتى الفراغ. كما بيت العنكبوت، ينسجه من نفسه فلا يخذله أبدًا ولا يتوقف عن العطاء.
يكرر أيضًا ميللر ما تعكسه “الوابي – سابي” وهي نظرة أو مفهوم ياباني يقدم الجمال في إطار عدم الاكتمال النهائي أو النقص ، مما يعني قبول فرضية اندثار الأشياء بعد مدة من الزمن واختفائها، فيقول:
في عصر يتسم بالفناء والتغير المستمر، الاندثار يعتبر فضيلة وليس واجبًا أخلاقيًا. لطالما نظرت دائما إلى مفهوم الاضمحلال على أنه مفهوم مذهل وغني عن الحياة وعن استمراريتها.
ويختم ميللر بشكل مؤثر، وشاعري عن هدف الحياة:
كان يتوجب علي أن أتعلم كيف أفكر، وكيف أرى وكيف أحس بشكل حداثي مختلف، بطريقة غير علمية رتيبة، بطريقتي الخاصة، وهو أصعب شيء يمكن على الفرد أن يقوم به. كان علي أن ألقي بنفسي في التيار، مع إدراكي التام بإمكانية الغرق.
وهذا ما يفعله الغالبية العظمى من الفنانين أيضًا، ولكنهم يلقون بأنفسهم وأطواق النجاة حول أعناقهم، والمفارقة أن ما يغرقهم هو طوق النجاة نفسه.
ومن يسلم نفسه طوعًا ويتكبد عناء التجربة، فإنه لن يغرق أبدًا في وحل الواقع. وإن التقدم الذي تحدثه في حياتك لا يأتي كنتيجة حتمية للتكيف مع الحياة بل من خلال الجرأة والشجاعة، ومن خلال طاعة الرغبة العمياء. يقول رينيه كريفيل: “الخوف يقتل” وهو ما لن أنساه ما حييت، فالمعنى الكلي للحياة متجسد في الجرأة، وفي الإقدام.
في عملية بناء أو صناعة أو ابتكار شيء جديد، غالبًا ما يتم الخلط بين مفهومي الإقدام والإرادة. فما يحدث هو أن يحل مفهوم العملية نفسها مع الوقت محل مفهوم الإرادة والتي بدورها أيضًا (مفهوم العملية) تتلاشى وتتساقط مع الوقت لتدعم ظهور مفهوم جديد مختلف تماما عن المعرفة وعن المهارة وعن التقنية وعن الإيمان. وبالإقدام وحده يصل الفنان إلى هذا الوضع الغريب، وهذا هو المشهد الذي لا يمكن لأحد وصفه بكلمات ولكنه بات واضحًا ضمنيًا من خلال كل سطر تمت كتابته.
* ترجمت هذه المادة كمساهمة في مشروع تكوين للكتابة الإبداعية.
araa.com