* أوراس زيباوي
كيف كانت أحوال باريس قبل قرن؟ حول هذا السؤال يتمحور موضوع معرض بعنوان «باريس 1900» يقام في متحف «القصر الصغير» في باريس. إنه معرض استعادي شامل يغطي السنوات الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية الحرب العالمية الأولى. وهي المرحلة التي درج المؤرخون على تسميتها مرحلة «الزمن الجميل» لأنها تحيل على إنجازات إيجابية على الأصعدة العلمية والاجتماعية والتقنية والسياسية. إنجازات تحققت ليس فقط في فرنسا، بل في دول أوروبا الغربية عموماً، ومنها بريطانيا وألمانيا.
في هذه المرحلة، تبلورت أيضاً أسطورة باريس «عاصمة الأنوار»، وقد نظمت فيها المعارض العالمية وكان آخرها حينذاك المعرض الذي أقيم عام 1900 ولاقى نجاحاً كبيراً واستقطب خمسين مليون زائر. وفي مناسبة هذا المعرض، تم بناء صروح عمرانية جديدة منها متحف «القصر الكبير» ومتحف «القصر الصغير» ومحطات القطار التي ما زالت موجودة وتعمل حتى اليوم. ولا ننسى أيضاً أنّ «برج إيفل» الذي شيّد عام 1889 أصبح، منذ ذلك التاريخ، رمزاً للمدينة، وقد عكس آنذاك دخول فرنسا في العصر الصناعي ومساهمتها في تصوّر الهندسة الحديثة. هكذا صارت باريس واجهة العالم المتحضّر، وقد سعى منظمو المعرض إلى استعادة هذه الأجواء من خلال الصور والوثائق النادرة والديكورات التي تبيّن كيف تغيّرت ملامح المدينة في تلك الحقبة وما هي الإضافات التي طرأت عليها وعلى معالمها السياحية، ومنحتها الشكل الذي هي عليه الآن.
الطابع القديم
يكشف المعرض أيضاً أنّ هذه الحركة العمرانية الكبيرة لم تأت من فراغ، بل جاءت مكمّلة لتلك التي بدأت في عهد الإمبراطور نابليون الثالث، وهو امتد من الخمسينات حتى السبعينات من القرن التاسع عشر وعرف نهضة كبيرة في المجالات الصناعية والتجارية والمالية. والواقع أنّ باريس كانت ولا تزال، حتى عهد نابليون الثالث، تحافظ على طابعها القديم المتوارث منذ مرحلة القرون الوسطى. فالطرق كانت ضيّقة وغير نظيفة، وكان ليل المدينة مظلماً لأنّ الشوارع لم تكن عرفت بعد الإضاءة.
قرّر الإمبــــراطــور نــابـــلــيـون الثالث إجراء تغييرات جذرية تليق بالعاصمة باريس، وأوكل تلك المهمة إلى محافظ منطقة «السين» البارون بيار أوسمان الذي قام بتنفيذ مجموعة من المشاريع المعمارية الكبرى، ومنها بناء الجادات الواسعة كجادة الشانزيليزيه الشهيرة، وهذا ما منح المدينة طابعاً حديثاً لا تزال تحافظ عليه حتى اليوم. ومنذ ذلك الحين، صار لقبها «عاصمة الأنوار»، وصارت مدينة نموذجية تحتذي بها بقية العواصم العالمية.
وبموازاة هذه الحركة العمرانية، ازدهرت الموضة والفنون في كل أشكالها، وشهدت المدينة ولادة أساليب فنية جديدة منها حركة الفن الجديد التي ساهم فيها مبدعون كبار من أمثال هيكتور غيمار ورينيه لاليك.
ونشاهد في المعرض نماذج من أعمال هؤلاء التي شملت العمارة وابتكار أنماط جديدة في صناعة الحلي والأواني والأثاث وزخرفتها، وهذا ما جعل باريس عاصمة للأناقة العالمية والذوق الرفيع. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ غيمار طبع العاصمة الفرنسية ليس فقط بأبنيته المميزة بل أيضاً بالتصميم الذي ابتكره لمداخل محطات المترو والتي أنجزها ما بين عام 1900 و1912، وهي ما زالت موجودة حتى الآن.
شكلت هذه المرحلة أيضاً محطة أساسية في تاريخ الفنون التشكيلية الحديثة. وقد ساهم فيها مبدعون انتموا إلى تيارات مختلفة منها الانطباعية المتمثلة خصوصاً بفنانين مثل مونيه ورونوار وبيسارو، وهؤلاء عايشوا التحولات التي عرفتها باريس وعملوا على تجسيدها في لوحاتهم فرسموا محطات القطار والحدائق العامة والجسور، ومنها «جسر الفنون» الذي يربط متحف «اللوفر» بـ «الأكاديمية الفرنسية».
أما الفنان كميل كايبوت فيعدّ أحد أكثر الفنانين الذين عكسوا في أعمالهم باريس الجديدة وشوارعها الأنيقة، ويطالعنا ذلك في اثنتين من لوحاته: «جادة الإيطاليين» و «شارع باريس». وصوّر الفنان الطبقة البورجوازية التي نشأ فيها وعايشها من قرب، وجاء تصويره لها بأسلوب واقعي ومتفرّد في آن واحد، فكان شاهداً على عصره وعلى بروز طبقة اجتماعية في العاصمة الفرنسية تقطن المساكن الفخمة وتعيش حياة اجتماعية غنيّة ومنفتحة.
ليل باريس
في رصدهم لأحوال باريس عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ركّز منظمو المعرض أيضاً على جانب مهمّ هو ليل المدينة. فباريس عاصمة ليالي السهر وأهاليها يحبون ارتياد المسارح والمقاهي وصالات العرض وحفلات السيرك… مشاهد كثيرة خلّدها بعض فناني تلك المرحلة في أعمالهم، ومنهم تولوز لوتريك الذي جسدت لوحاته سجلاً حياً لملهى «الطاحونة الحمراء» Moulin rouge في حيّ «مونمارتر» حيث كان محترفه.
تولوز لوتريك، كلود مونيه، أوغوست رونوار، بول سيزان وغيرهم، كانوا من الفنانين المجددين الذين عاشوا في سنوات الزمن الجميل، ولكن بالمقابل ظل بضع فنانين متمسكين بالقيم الفنية القديمة ومنهم جان ليو جيروم الذي دافع عن قيم الفن الكلاسيكي الأكاديمي وعارض توجهات الانطباعيين الذين شكلوا أول ثورة حقيقية على القيم الفنية السائدة منذ القرن السادس عشر وكانوا من رواد الحداثة الفنية. هكذا كانت باريس في تلك المرحلة قادرة على احتواء كل التيارات، من الأكاديمية والواقعية إلى الرمزية والانطباعية.
كل الأعمال التي تطالعنا في معرض «باريس 1900» تؤرّخ لمرحلة أساسية في مسيرة المدينة، وتسجّل دخولها الأزمنة الحديثة. من هنا فإنّ لهذه الأعمال أهمية وثائقية عطفاً على أهميتها الجمالية، وقد جاءت في مرحلة تشهد تحولات فنية وتقنية كبيرة كان لها أثر على المشهد الإبداعي.
وهكذا، فإنّ المعرض هو بمثابة احتفاء بباريس وبالكثير من صروحها وحدائقها التي ما زالت قائمة حتى اليوم ويقصدها سنوياً ملايين الزوار والسياح ومنها «متحف القصر الصغير» الذي يستعيد تلك المرحلة الأساسية في حياة العاصمة الفرنسية.
_________
*الحياة