جان جينيه عاش مع جنونه وانحيازه لقضايا الشعوب


*حسونة المصباحي

منذ البداية وحتى النهاية، كانت حياة جان جينيه سلسلة من المتاعب المضنية، والمغامرات المثيرة. فقد ولد يوم الاثنين 19 ديسمبر 1910 في أحد مستشفيات باريس. وبعد ولادته بسبعة أشهر، وتحديدا يوم 28 يوليو 1911، أودعته والدته التي كانت قد أعلنت أنها عزباء، وأنها تدعى “كامي جينيه”، ملجأ للأطفال، واختفت من دون أن تخلّف أثرا.

لست فرنسيا
كان جان جينيه لا يزال في طور الرضاعة لمّا احتضنته عائلة صغيرة تعيش في إحدى القرى .وكان ربّ العائلة، ويدعى “شارل رينييه”، نجّارا. أما زوجته، “أوجيني”، فقد كانت تدير محلاّ لبيع التبغ. وعندما بلغ سنّ الثالثة عشرة، عُمّدَ جان جينيه في كنيسة القرية على أمل أن يكون كاثوليكيّا مثاليّا.
وفي المدرسة التي دخلها عام 1916، أظهر الطفل الذي حرم من حنان الوالدين، نبوغا في الدراسة لفت إليه نظر معلّميه، والبعض من زملائه في الدراسة سوف يتحوّلون في ما بعد إلى أبطال في رواياته. وثمّة حادث عاشه الطفل آنذاك سوف يرسخ في ذاكرته لأمد طويل. وهو يرويه على النحو التالي: “لقد أدركت وأنا طفل صغير أنني لست فرنسيّا، وأنني لا أنتمي إلى القرية.. أدركت ذلك بطريقة ساذجة وغبيّة.
فقد طلب منّا المعلّم أن يكتب كلّ واحد منّا موضوعا إنشائيا يصف فيه بيته. وحدث أن كان موضوعي هو الأفضل والأجمل من كلّ المواضيع الأخرى. وقد قرأه المعلم بصوت عال، وجميع التلاميذ سخروا منّي قائلين: “لكن هذا البيت الذي وصفه ليس بيته.إنه طفل لقيط!”. وعندئذ حدث فراغ رهيب لدى الطفل الموهوب. وفي تلك اللحظة بالذات كره فرنسا. وفي ما بعد سوف يقول بأنه “تقيّأها”!
السرقة والموهبة
كان جان جينيه قد بلغ سنّ العاشرة لما شرع يسرق كلّ ما كان تقع عليه يده من أقلام ومحابر، ومن قطع نقديّة صغيرة كانت العائلة التي احتضنته تضعها على طاولة عند مدخل البيت. وبتلك القطع النقديّة كان يشتري حلويات يوزعها على زملائه في المدرسة.
وفي ما بعد كتب يقول: “في سنّ العاشرة كنت أسرق من دون تبكيت ضمير أناسا كنت أحبهم، وكنت أعلم أنهم فقراء. وقد انتبهوا هم إلى ذلك. وأنا أعتقد أن كلمة “لصّ ” جرحتني وأوجعتني كثيرا”. وبعد أن حصل جان جينيه على الشهادة الابتدائية، انقطع نهائيّا عن الدراسة ليبدأ مرحلة جديدة في حياته الشقيّة.
وأمام مصاعب الحياة، كان عليه أن يمارس مهنا مختلفة غير أنه سرعان ما يفرّ منها هاربا معلنا لأصدقائه أنه يودّ السفر بعيدا للعيش في أميركا. وكان سلوكه يثير حفيظة الكثيرين.أما هو فلم يكن يعبأ بذلك. وكان يجد متعة كبيرة في قراءة الروايات البوليسية، أو تلك التي تتحدث عن مغامرات عجيبة في أعماق البحار، والمحيطات، أو في الأصقاع المكسوّة بالثلوج، أو في صحارى الشرق حيث يكتوي الناس بلهب الشمس.
ومرات عديدة عثرت الشرطة على الفتى الطائش في المحطات، وفي القطارات، وهو لا يدري ماذا يفعل هناك، والى أين هو ذاهب. وفي عام 1925، أقام عند موسيقيّ أعمى، وبمساعدته تعلّم فنّ العروض. غير أن إقامته عنده لم تدم طويلا بسبب سرقته لمبلغ مالي أهدره في حفل سوقيّ. وجرّاء السرقات التي ارتكبها، دخل السجن أكثر من مرة. وفي السجن المخصّص للفتيان المراهقين، أمضى عامين، وهناك عاش تجارب مهمّة سوف تصبح في ما بعد مادّة لكتابته الشعرية، والروائية، والمسرحية.
جان جينيه في دمشق
في نهاية العشرينات من القرن الماضي، جنّد، وأرسل إلى بيروت، ومنها إلى دمشق التي مكث فيها عاما وشهرا. وقد يعود تعلّقه بالعالم العربي، وبثقافته، وانتصاره الدائم لقضاياه السياسية بالخصوص إلى تلك الفترة التي قضاها جنديّا في بلاد الشام، والتي لم يكن يخفي أنها كانت من أسعد الفترات في حياته.
وعندما عاد إلى فرنسا عام 1933، التقى جان جينيه بالكاتب الكبير اندريه جيد الذي كان قد فتن بمؤلفاته في سنّ مبكّرة. غير أنه لم يمكث سوى فترة وجيزة في باريس، فقد قرّر أن يسافر راجلا في هذه المرة إلى ليبيا. وعند وصوله إلى أسبانيا عرف الجوع، وأمضى أيّاما عصيبة أجبر خلالها على النوم في العراء.
وكان عليه عندئذ أن يعود إلى الحياة العسكرية ليجد فيها ما يمكن أن يبعد عنه شبح الجوع والتشرّد. وفي هذه الفترة انكبّ على قراءة أعمال كبار الكتاب الفرنسيين والعالميين. وكان دوستويفسكي الأقرب إلى عالمه. فقد وجد في رائعته “الإخوة كارامازوف” ما عمّق مفهومه للحياة والإنسان والوجود.
وإثر فراره من الجندية، وكان ذلك عام 1936، قرّر جان جينيه السفر راجلا عبر أوروبا متحاشيا نقاط التفتيش، والجمارك. وقد استمرّت رحلته العجيبة هذه سنة كاملة. وخلالها قطع مسافة تقدّر بـ 8500 كيلومتر.
وكانت مدينة نيس الفرنسية نقطة انطلاقه. وبعد أن اجتاز إيطاليا، قطع البحر الأدرياتيكي إلى ألبانيا، غير أن شرطة الحدود قادته إلى اليونان. ومن هناك سافر إلى يوغسلافيا حيث أوقفته الشرطة في بلغراد لتودعه السجن لمدة شهر. بعدها قادته إلى الحدود الإيطالية. وقد ظلّ جان جينيه يتنقل من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى إلى أن حطّ رحاله في براغ حيث أمضى خمسة أشهر درّس خلالها اللغة الفرنسيّة لسيّدة تدعى آن بلوخ. وكانت تلك السيدة الحب الأنثوي الوحيد في حياته. غير أنه كان “حبّا أبيض” كما كان يقول. وفي بولونيا التي وصلها عام 1937، اعتقل، وأمضى أسبوعين في السجن. بعدها اجتاز ألمانيا التي كانت تعيش الهيجان النازي، وعنها سيكتب في “مذكرات لص” قائلا: “إنه شعب من اللصوص (يقصد الشعب الألماني). هذا ما أحسست به في داخلي. وإذا ما أنا سرقت هنا فلن أقوم بأيّ عمل يمكن أن يحقّق لي الثقة بنفسي. أرضخ للنظام العادي، ولا أهدمه. أسرق في الفراغ”. وعندما عاد جان جينيه إلى باريس، كتب رسالة إلى آن بلوخ يقول فيها: “سأنزل بأسف إلى الجزائر،ومنها إلى النيجر، والكونغو، وبعدها أنطلق إلى أميركا”…
عودة إلى السرقة
خلال السنوات الممتدة بين 1937 و1942، عاد جان جينيه يسرق من جديد. وبسبب سرقاته دخل السجن أكثر من مرة. ومرة سرق الأعمال الكاملة لمارسيل بروست، فكان العقاب 3 أشهر سجنا.
وكانت سنة 1943 سنة المجد والشهرة بالنسبة إلى جان جينيه الذي كان حتى ذلك الوقت “لصّا محترفا”. فقد اطلع الكاتب والشاعر جان كوكتو الذي كان يحظى بتقدير الأوساط الفرنسية المثقفة على بعض الأعمال التي كتبها جان جينيه في السجن. وكان انبهاره بها كبيرا حتى أنه لم يتردّد في أن ينطلق متجوّلا في مقاهي باريس، وصالوناتها الأدبية للتنويه بها، معلنا عن ميلاد كاتب فريد من نوعه. كاتب لم يسبق له مثيل منذ فرانسوا فيّون، وأرثر رامبو.
وعندما وقف جان جينيه أمام القاضي بسبب سرقته لطبعة نادرة لديوان فرلين: “حفلات ظريفة”، قال المحامي الذي كلّف كوكتو بالدفاع عنه: “أنتم تحاكمون واحدا من أعظم الكتاب الفرنسيين في العصر الحديث!”. وهكذا تراجعت المحكمة عن الحكم على جان جينيه بالسجن مدى الحياة!
القديس جان جينيه
عقب الحرب الكونية الثانية ، صدرت أعمال جان جينيه النثرية والشعرية في طبعات أنيقة عن دار “غاليمار” المرموقة. ولم تلبث تلك الأعمال أن لاقت رواجا هائلا لا في فرنسا فقط، وإنما في أوروبا، وفي أميركا الشمالية والجنوبية. ولم تلبث أن ازدادت شهرته آتساعا بعد أن دخل عالم المسرح من بابه العريض منجزا مسرحيّات حقّقت نجاحات جماهيرية باهرة.
وعندما أصدر سارتر عام 1952 كتابا بعنوان: “القديس جينيه، الممثل والشهيد” بهدف التنويه بعبقريته، قرّر جان جينيه الابتعاد عن الأضواء، والفرار من بريق الشهرة التي أصبح يحظى بها ليعود إلى الأسفار باحثا عن الوحدة، وعن السكينة الروحيّة. وخلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، انشغل بالدفاع عن القضايا السياسية فقد ساند ثورة الطلبة في ربيع 1968.
جان جينيه وصبرا وشاتيلا
عاضد حركة “بادر ماينهوف” الألمانية التي كانت تحرض على العنف الثوري ضدّ البلدان الرأسمالية. كما وقف إلى جانب حركة “الفهود السود” التي كانت تناضل من أجل تثبيت حقوق الزنوج الأميركيين.
وفي باريس شارك في العديد من التظاهرات المناهضة للأعمال العنصرية التي كانت تستهدف العمال المهاجرين، المغاربة منهم بالخصوص. ومتعاطفا مع القضية الفلسطينية، أقام جان جينيه في المخيمات في الأردن، وفي لبنان مرات عديدة، وعاش بين الفدائيين أشهرا طويلة. ومن وحي ذلك كتب “الأسير العاشق” الذي صدر بعد وفاته بأشهر قليلة. وعندما غزت إسرائيل لبنان في صيف عام 1982، حرص على أن يكون في بيروت للتعبير عن تضامنه مع المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين برّا وجوّا وبحرا. وعن مجزرة صبرا وشاتيلا كتب نصّا بديعا تميّز بشاعرية عالية.
وفي الليلة الفاصلة بين 14 و15 أبريل عام 1986 أدرك الموت جان جينيه الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى عقود طويلة وهو مقيم في فندق متواضع بالدائرة الثالثة عشرة بباريس. واحتراما لوصيّته، دفن في المغرب، البلد العربي الذي أحبه أكثر من كلّ البلدان الأخرى. وهو يرقد الآن في المقبرة المسيحية بمدينة العرائش. وهكذا كانت حياة ذلك المبدع الرائع الذي قال ذات مرة: “حياتي المرئيّة لم تكن سوى تنكّرات محجوبة جيّدا”.
________
*العرب اللندنية

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *