أحمد بزّون *
لأول مرة يقيم الفنان الأردني محمد العامري معرضاً له في بيروت، بعدما طاف العالم، ولأول مرة نقع على أعماله مباشرة، وقد كنت رأيت له في بداية التسعينيات بعض الأعمال معلقة في مقهى «الفينيق» الذي كان معروفاً بأنه مقهى المثقفين في عمان، بالإضافة إلى أعمال نراها عبر الانترنت.
معرضه البيروتي، إذاً، في غاليري «أرجوان» (حتى 30 الجاري)، يعرض فيه مجموعة من أعماله الجديدة التي يعتمد فيها مقامات اللون أو التجريد الذي ينحو إلى تحقيق توازن بين ما هو وجداني أو غنائي وما هو تلميحي وإيحائي في اللوحة الواحدة، فلا يبدو متطرفاً في اتجاهه نحو عفوية مغرقة بالفوضى، ولا ذاهباً إلى موضوعية تستخفّ بأمواج الداخل وتوترات الفنان نفسه.
ما هو واضح وجلي في المعرض اهتمام العامري باللون، بصفته يمثل السطح الأول للذاكرة البصرية، فيتعامل مع اللون الموجود في الخارج بصفته يوقظ إحساس الداخل، من دون الخضوع له ولا لموضوعه. فهو يعيد صوغ الأشكال التي يدخلها إلى مرآة نفسه من جديد، يدمر الجاهز منها حتى لا تشكل سلطة عليه، ثم يدفعها بقوة أكبر ليقيم بها أشكاله، تماماً على حد قول سيزان «عندما يحظى اللون بقوته وغناه يكتمل الشكل». كأن العامري يبدأ بناء لوحته باللون، يحرّكه ويهزّه ويقوّيه ويرفعه نحو ما يمكن تسميته التجلي، عندها يظهر الشكل، او نسمع ذلك الصوت الذي يجمع وشوشات الألوان.
ونحن بالفعل أمام مشاهد للطبيعة، من دون أن تكون الطبيعة العيانية نفسها، فالعامري يصور في اللوحة نتيجة علاقته بالمشهد الخارجي، بالأمكنة، بالأشياء، بالتفاصيل الصغيرة والفسحات الصحراوية. يستحضرها مرة بألوان غمامية متناثرة، ثم يضبطها بأشكال هندسية حاسمة. يحاذر ألا يسقط في تقديس العفوية ولغة الصدفة، وإن ترك نفسه لآلياتها أو أوتوماتيكيتها حيناً، فهو كالسباح الذي يغطس تحت الماء لكنه سرعان ما يستعيد أنفاسه فوق سطحه. هكذا يلعب في الوقت نفسه دور المشاغب والضابط. يترك العنان لريشته، وإذا ما لاحظ شرودها عاد وشدّ عقالها. يضرب ريشته أحياناً، أو يرش نقاط الأكريليك من دون قياد، لكنه يعرف كيف يضبط حدود عبثه ويقود العزف الألوان إلى مبتغاه. فهو لاعب ماهر، يسبح في مخيلة إبداعية خصبة وجادّة، بينما يكون مرحاً وضاحكاً، أو غاضباً ومتوتراً. فهو يقيم حركته الدينامية أو مهرجانه اللوني على مسرح اللوحة بمزاج خاص، وبرؤى متبدلة. يمارس عشقه وجنونه وعبثه وتجليه، غير ملتزم بعين غير عينه ولا حس غير حسه. همّه أن يقدم بناءه الذي يقتنع به، من دون أن يغازل عيون الآخرين.
مع ذلك فاللوحات التي قدّمها العامري في معرضه لاقت إعجاب فنانين ومتذوقين كثر حضروا الافتتاح. ربما رأوا في لوحته، المفتوحة على مروحة من التأويلات، غير ما قصد الفنان، فالعامري عرف كيف يترك لإيقاعات بنائه فسحات يخشاها الملوّنون عادة، وعرف كيف يوازن بين الكتل ويوزع نقاط ارتكاز اللوحة على كل المساحة، ويجذب العين بأسلوبه الشيق في إضاءة اللوحة من دون أن يتخلى عن إيقاعات الأسود والغوامق.
تبدو ألوان العامري مختمرة، وبنية لوحته ناضجة، وهو يلعب على المسافة بين استعارة الألوان من الطبيعة وتجريد كاندنسكي الذي ينفصل اللون عنده عن المرئي، مثلما يوازن بين التلميح لأشكال الطبيعة واختصارات ماليفيتش الهندسية. وفي كل أعماله المعروضة لا نجد الإنسان حاضراً بملامحه، لكنه ليس غائباً تماماً، فلا تبدو الطبيعة عند العامري بكراً، ولا المشهديات الأخرى، إنما منتهكة، فالإنسان مرّ بمنحنياتها، وترك أثره، والفنان يصوّر أثر الحدث، أو يصور تلك الحركة وذاك الصخب. وما رأيناه من حركة الخطوط الهندسية وتصادمها الأفقي والعمودي، وحتى تصادم الألوان الغمامية أحياناً، ليس سوى حركة الإنسان وفعله، وبمعنى آخر علاقة الفنان بالطبيعة والعالم الخارجي.
– السفير