*
اكتسب مؤّرخ الفن البريطاني، تيموتي جيمس كلارك، شهرة كبيرة في مجال تخصصه، على أساس إسهاماته في رؤية فن الرسم الحديث، كونه نوعاً من الربط (التشابك)، بين الشروط الاجتماعية والسياسية للحياة الحديثة. وهو يتابع البحث في النهج نفسه من الرؤية، في كتابه الأخير، الذي يحمل عنوان “بيكاسو والحقيقة.. من التكعيبية إلى الغيرنيكا”.
وتعتمد مادة العمل، بشكل أساسي، على سلسلة من المحاضرات كان المؤلف قد ألقاها، عن الفنون الجميلة في عام 2009.
يُجري المؤلف عملية إعادة تقييم شاملة، لأعمال الفنان بابلو بيكاسو في سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وحتى لوحته الشهيرة “الغيرنيكا”:( اسم المدينة الإسبانية التي تعرّضت لهجوم القوات الألمانية عام 1938 )، والتي أراد أن يجسّد فيها بربرية الحروب وما تخلفه من تخريب وآلام. وهكذا يحاول ت. ج. كلارك، الغوص في البحث عن الدوافع العميقة في فن بيكاسو، ومحاولة رسم ملامح رؤيته للعالم.
يركّز المؤلف تحليلاته، على مدى العديد من الصفحات، على ثلاث لوحات شهيرة من بين أعمال بيكاسو، كلّها عرفت الشهرة منذ عرضها، ولو كان ذلك بدرجة متفاوتة، وهي: غيتار المندولين – عام 1924، الراقصون الثلاثة- عام 1925، الرسّام وموديله- عام 1927. ويبحر المؤلف في محاولة “قراءة” لما تريد أن تقوله تلك اللوحات الثلاث، خاصّة على صعيد العلاقة بين “الخارج المتوحّش” حيال ما هو إنساني، وبين “الداخل” الذي تتغلغل فيه مؤثرات الخارج.
يرى المؤلف في تلك اللوحات الثلاث، المرسومة بعد الحرب العالمية الأولى، نوعاً مختلفاً من الرسم، من حيث اعتماد أشكال جديدة في “الداخل بين الفراغ والأشياء”. كما يجد فيها مؤشرات على انبثاق ثقافة أوروبية حديثة مثّلها الفيلسوف الألماني نيتشه، على صعيد الفكر الفلسفي، من حيث تمجيد الأنا الذاتية. ومثّلها بابلو بيكاسو على صعيد الرسم. ثقافة كانت على علاقة وثيقة بـ”حقيقة الحرب” التي نشبت عام 1914 وأدخلت القارّة في فترة مخاض انتهت بحرب عالمية ثانية.
يشرح المؤلف أن “المجال الداخلي” يجد تعبيره الأمثل لدى بيكاسو في لوحته الشهيرة “الغيرنيكا”. ذلك من خلال رؤية تحمل الكوارث من الخارج ومن الداخل، ومن العام والخاص، ومن ما هو قريب جغرافيا.. وفقدان نقاط الارتكاز بالوقت نفسه، كما نقرأ. وعبر ذلك التمازج في نشوب الكوارث، أراد بيكاسو أن يقرأ رؤيته للحقيقة ولعلاقته معها.
ويؤكد المؤلف أنه ليس هناك أي رسّام آخر في تاريخ الفن أعاد اختراع العالم المرئي بطريقة أكثر راديكالية من بيكاسو. بل ويصل “كلارك” إلى القول ان بيكاسو استطاع رؤية العالم الذي يحيط فيه، بطريقة أكثر وضوحاً من معاصريه.
يشير المؤلف في مقدمة الكتاب أن الرسام الكبير امتلك رؤيته الخاصّة للعالم، على أساس قدرة الفن على المساهمة في النقاشات العامّة الدائرة في حقبته، وقدرته على طرح الكثير من المسائل الجمالية، وحتى ذات العلاقة بالمنظومات الأخلاقية السائدة، لكن من دون البحث بالضرورة عن حلّها. هذا ما يطلق عليه المؤلف مفهوم “الفكر عبر الرسم”.
وحسب التحليلات المقدّمة تتردد فكرة أن بابلو بيكاسو، ابتعد خلال سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، عن النهج “التكعيبي” الذي كان مؤسسه في فن الرسم، لكن من غير أن يتخلّى عنه تماماً، في أية مرحلة من مراحل فنّه. وذلك أنه استمرّ دائماً في الميل بأعماله، نحو الغرابة والابتكار.
المجال “الداخلي” لدى بابلو بيكاسو “كان في صميم فهمه للحياة”، كما يكتب المؤلف. ويضيف ان ذلك الانكفاء على الداخل، لم يكن بعيدا عن أن العديد من أعماله تجد إطارها في مجال لا يتعدّى غرفة صغيرة، كالتي عاش فيها أيام البرد والفقر والبؤس، عندما وصل إلى العاصمة الفرنسية، باريس، والتي تقاسمها مع الشاعر ماكس جاكوب.
المؤلف في سطور
ت. ج. كلارك هو الاسم المعروف للكاتب ومؤرخ الفن تيموتي جيمس كلارك، المولود في بلدة بريستول في بريطانيا. درّس مادة تاريخ الفن في عدّة جامعات بريطانية وأميركية، بينها: هارفرد وبيركلي الأميركيتان، ليدز البريطانية. من مؤلفاته: صورة الشعب: غوستاف كوربيه وثورة 1848، رسم الحياة الحديثة، وداعاً لفكرة: مراحل من تاريخ الحداثة.
الكتاب: بيكاسو والحقيقة.. من التكعيبية إلى الغيرنيكا
تأليف: ت.ج. كلارك
الناشر: جامعة برنستون- 2013
الصفحات: 329 صفحة
القطع: المتوسط
_________
* البيان
* البيان