لغة سحرية ‘تحت معطف الغرام’


*محمد الحمامصي

يقدم كتاب “تحت معطف الغرام” للكاتب الدكتور ياسر ثابت، نصوصـًا أدبية تنطلق من قاعدة الإيجاز الذي يكثف المعاني ويعمق تأثيراتها لدى القارئ. تأتي من قَلْبِ تجربة التغريد الإلكتروني، ويحمل طابعـًا فريدًا عنوانه الأبرز: المرأة.

يقول د. ياسر ثابت في تقديم كتابه الصادر عن دار اكتب إن “الكتابة عن المرأة لا تؤثر السلامة. ففي كل حرفٍ، ومع كل منعطفٍ، مشاعر تنام على حرير الكلام، وآلامٌ وآمالٌ، وأحلامٌ وأوهامٌ، ونون نسوة تبدأ معها الحكايات ولا تنتهي”.
ويضيف قائلاً إن “هذه الحكايات يرويها القلم والألم، لتتقد بها جمرتان من نارٍ مجهولة، وينبت النرجس في صدورنا وعلى حواف حروفنا المنمنمة، وتبتهج السعادة وهي تستريح على سرير تلك الرياضة الذهنية التي عمادها البوح في فضاء الإرادة الفاتنة”.
يحفل الكتاب بعباراتٍ دالة ولافتة للانتباه، منها مثلاً: في الفراغ الذي صنعتِهِ أنتِ، أرسمُ ما يشبه القَلْبَ وأواصلُ الحياة”، و”عندما تغلق الجميلة خِزانة ملابسها، تتنكر فساتينها وسط العتمة في هيئة شموسٍ صغيرة”، و”نسير يدًا بيد، في طريقٍ سقط من ذاكرة العالم، فيُصابُ اللَّيْلُ بنوبة من الغيرة”، و”أحلى ما في جمالكِ هو أنه يجيد التمدد، حتى يقضم خيالي فاكهته من كل الجهات”، و”ما حاجة عاشقةٍ إلى أسلاك وذبذبات وشاشات الأجهزة الذكية، وهي “أيقونة” من تحِبُّ”، و”يُقلم الغياب أظفار الحُبِّ، حتى يتكور الحزن في أحشائنا كجنين.
التغريد هنا يسلك درب المرأة ولا أحد سواها، حتى يَعْبُرَ إلى الضفة الأخرى من نهر اللهفة. والمرأة ورد النيازك، وضوء الزنابق، ورائحة الجلنار. أما الكتابة فهي تلك العملية السحرية التي نحفظ فيها كل ورود الشوق ووعود الأمل، وسراب الخيبات، كي يتعلم من بَعدَنا أهمية تكرار الخطأ نفسه بإيقاعٍ مختلف!
في زوايا كل تغريدة، يجد المرء نفسه كما لو أنه يمتلك مفكرة إلكترونية يجمع فيها كل فراشات غربته، ويسكب في وعائها كل الشهقات التي تعيها الذاكرة المثقلة بالأفكار، ومختلَف الكلمات التي أعياها الانتظار. هكذا تولد عبارات من طراز “ثمّة صرير لأبواب الغياب، لا يسمع صداه سوى القلب المعذب”، و”حين تكرهينه الآن، ثم تترنحين على أرجوحة الحُبِّ، فإن هذا قد يعني حُـبـًّا أكبر من أن يقاوَم”، و”تُلقي برأسها للوراء وهي تضحك؛ أنّى للأشواق أن ترتحل بعيدًا عن تلك الأنوثة”.
يرى المؤلف أن هناك كلماتٍ نُخبئها، وأخرى نختبئ وراءها. على أن الكلمات تقف بشموخ بوصفها بيتَ كياننا، وصحائِفَ حَنيننا، وعيارَ الفكرةِ التي يُسبكُ بها الذهب. وفي نهاية المطاف، كما يقول المؤلف، “نحن قطع الفخار، معجونة بالدهشة ومحترقة بنار الغياب”.
إن اللغة والكتابة تركيبةٌ سحرية، تجعلك تُحدث نفسك قائلاً: سأكتب المزيد، عن البرعم الذي يصير زَهْرَة، وخصلات النار التي تغازل الجدار، والسكينة التي تتعقب خفقات القَلْبِ. وبتفصيل أكبر، فإن الكتابة نوعٌ من التعري، إما أن يكشف مواطن جمالنا أو يفضح كومة عظامنا الممصوصة.
إنها آخر ما تبقى من نُبل هذا العالم، كما يقول المؤلف. ولأن الأوصاف هي ابنة الكلمات المفضلة، فإننا نقرأ عباراتٍ دالة مثل “هي المغيب، يشبه فستانكِ الصيفي الداكن الذي تنام فيه دُمى صغيرة وتفر إليه أرواح كبيرة”، و”حين تجولُ الرغبة في أرجاء غرفتها، تُردد أغنيةً صغيرة: وحده الدفءُ هنا”، و”الجبال تنحني حين تعتليها الجميلات”، و”في المنطقة العشوائية الطافحة بالقلق والنميمة، كانت تقف فوق سطح بيتها بشَعْرها الرطب وشالها الخفيف، تتأمل خيط ضوء ينبعث من مشتل نباتاتٍ مجاور”، و”حين يُريقُ ياقوت شفتيها، يُصلي الندى، وتغني صواري السفن”، و”تخربشين ذاكرتي بتجارب تُربك حدود معرفتي. خُذي عندكِ مثلاً: حبتيّ الكرز، المعروفتين خطأً بأنهما شفتاكِ”، و”هذا الهواء القط، عابثٌ وشقي وغير مؤتمن، إلى حد أن تلك الفتاة التي تُحِبُّ الصعاليك أخذت تبتسمُ له سرًا”.
لذة الكتابة، في تقدير المؤلف، تكمن في أنها العلامة الكاملة للحياة، والطوق الأخير للنجاة. والكاتبُ في سعيه الدؤوب لارتياد أماكن مجهولة ومشاعر جديدة، إنما يبحث عن سببٍ يحرضه على التحليق بجناحيّ الكتابة. نقرأ في الكتاب تغريدات مثل “تقولُ الصغيرة لرفيق الطفولة: هناك رقعةٌ زرقاء في السماء، دعنا نُطارِدُها، ونطِير”، و”في قَلْبِي منطقة رِيفيّة اسمها اللاطُمأنينة، مُغلفة بالأسرار وتستعصي على الزوار”، و”العنِاق لا ينتظر المناسبات؛ إنه يصنعها”.
في هذا الكتاب، نطل معـًا من نوافذ مفتوحة حد الأمل، وبالتفاصيل المنسية، نخلق عالمـًا فريدًا. ورويدًا رويدًا، يُعَبر عمقُ الحياة عن نفسه جملة واحدة في المشهد الساحر، فنتأمل تلك الأفكار والمشاعر التي انزلقت من أذهاننا وتسربت من صدورنا بأناقة ذاهبٍ إلى حفل وشجاعة مسافرٍ إلى ساحة القتال.
يقول: “يحْلُمُ كُلَّ مساء بتلك المصافحة الصباحية، التي تضغط فيها كَفُّه على كَفِّها لتمنحها جرعتها من خشونة الرقّة اليومية”، و”القمر الليلة يرتدي رداء نورس، كأنه امرأة تختال بقميصها اللامع السميك، وأسرار الليل لا تزال عالقة به”، و”في الفنادق المتلألئة والسهرات التي تراوغ الليل، نساء يضعن عطورًا غامضة تحتفي بكرنفال البهجة العابر”، و”انتظرتْ حتى فتح مظلته، قبل أن تتأبط ذراعه، ليسيرا الهوينى تحت شجرةٍ متمايلة تنقّط مطرًا”.
بتدوين ذلك كله، يحاول ياسر ثابت تحرير الذات من قيودٍ لا تنتهي ورطانةٍ تُوهِم البَعْضَ بتحقيق تقدم، والتخلص من كل أولئك الشخوص الذين يتصارعون داخلي. والكاتب إن نحَّى عنه قلقه، تنَّحى عنه قلمه.
حروف اللغة هنا تأخذ شكلاً جديدًا، أكثر رشاقة وتركيزًا، لتؤلف جملاً وعباراتٍ تحدد المعاني تخومها وأبعادها وبداياتها ونهاياتها. وحسب الكاتب، فإنه “هكذا نكتب بأقلام لا تثمل، ونستعين بالأحلام على الحياة. وفي تقديري أن اللحظات هي حياتنا، وكل ما أفعله هو قراءتها ورصد تفاصيلها الثرية”.
التأمل هنا يدفعك إلى آفاق أكثر رحابة وخيالات لا نهاية لها، كأن تفكر في معنى ومغزى العبارات التالية: “تحذره بحروفٍ ماكرة: أنا قميصٌ ملعون، ألبس كُلَّ الإغراء ويلبسني”، و”تشدو أغنيتهما المفضلة، حتى تكادُ الأسطوانة أن تخرُج عن مسارها وتبكِي”، و”أيها المدار ما أجملك! من أجلك تستقيل النجوم وتحلم بدوار مستحيل في الفلك”، و”لم ندع معجزة إﻻ واجترحناها.. باستثناء أن نكون معـًا!”.
الأكيد، كما نطالع في “تحت معطف الغرام”، أن الكتابة هي ابنة الذاكرة، وحين نكتب نشعر بالحنين والفقد والشغف، كعشاق حفظوا الهوى أو ودعوه رغمـًا عنهم. وبَعْضُ تغريداتنا رسائل مشفرة ننثرها في الفضاء الواسع ليفهمها فقط من قُدِر لهم ذلك.
يقول المؤلف: “لستُ أدري إن كنتُ أنا الذي يكتب، أم التجارب. غير أن تلك المغامرة الإبداعية علَّمتني كيف أؤثث أركانَ الوقت في فضاءٍ يضج بالذكريات. فالكتابة بوابة الصوت، والكاتب بأحلامه الكبيرة يساعد قراءه على الحياة. وأنا إذ أعطيك كلماتي، فإنني أمنحك جزءًا من نفسي، التي تنمو مثل عشبةٍ نبتتْ على جانب الطريق”. والحروف هي تلك العاطفة الغامرة، العامرة بالمعاني الدافئة والدمعة النائية.
يذكر أن د. ياسر ثابت له عدة مؤلفات أدبية، منها رواية “أيامنا المنسيـّة”، و”يوميات ساحر متقاعد”، و”كتاب الرغبة”، و”فضة الدهشة”، و”لحظات تويتر”.
كما صدرت له مؤلفات تاريخية وسياسية، منها “قصة الثروة في مصر”، و”صناعة الطاغية: سقوط النخب وبذور الاستبداد”، و”شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي”، و”حروب العشيرة: مرسي في شهور الريبة”، و”فيلم مصري طويل”، و”قبل الطوفان”، و”جمهورية الفوضى”.
___________
* ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *