من عالم القصة الإماراتية، تظهر الكاتبة مريم الساعدي لتبوح لنا بحكاياتها القادمة من ذاكرة لامنتهية في البعد، ممزوجة بنكهة الحاضر. وكامرأة من هذا الزمن، من هذا المجتمع، تراها تتطلع إلى المستقبل، ولكن بكل حذر، وتقول: “لا يزال الطريق طويلا، ولكننا نسير باتجاهه، سنصل يوما حتما، وسنكون أكثر جمالاً واكتمالاً. نحن نكتب الأدب في دولة مقدامة، تقوم باتخاذ خطوات حضارية كبيرة، في القفزات الكبيرة قد تسقط بعض الأشياء، لكننا سنستعيدها”.
الذاكرة جزء مهم من الحالة الإبداعية التي تعيشها مريم، ويمكن تقصي آثارها بين السطور، في كثير من القصص التي كتبتها. فلطالما اتكأت عليها أثناء السرد، محاولةً نقلها للقارئ، ولكن من خلال أحداث درامية تتفاوت في ذروتها تبعاً لتفاصيل الحكاية: “أستحضر ذاكرتي كثيراً، في الواقع لا أكتب إلا من ذاكرتي. لست خصبة الخيال لأتخيل كل شيء، أنا أحتاج للذاكرة، وللواقع لأستلهم منهما فكرة قصة.
ولكني بالتأكيد لست وفية للتفاصيل فأنا لا أكتب سيرة حياة أو قصصا توثيقية، الإبداع مجال مفتوح للاختراع، وأنا أخترع الكثير من التفاصيل الصغيرة حول الفكرة الكبيرة الحقيقية. أنا أريد أن أكتب ما يجري أمامي وما أعيشه وما يحصل.
الإمارات الآن تصنع تاريخها، كل شيء يبتدئ ويزدهر وينمو ويتطور هنا الآن، ومهمتنا أن نرى ونتفاعل ونعبر لكي لا نبدو كائنات استهلاكية مأخوذة بموجة التطور السريع.
الأدب يضفي لمسة إنسانية على أي مكان، ويقدمه للعالم وللحضارة الإنسانية وبالتالي إلى التاريخ، فيصير المكان إنسانياً أكثر مفهوما أكثر أليفاً وحميماً وله جزء مهم في قلب الإنسان العالمي”.
خطوط حمراء
في كل مكان، ثمة حدود اجتماعية، تحدّ من حرية الكاتب، هناك من يتخطاها رغبة في التحرر، وهناك من يبقى أسيرها، لا يعرف تجاوزها، أو لا يستطيع. وبدورنا، سألنا مريم الساعدي: هل وقفت الحدود الاجتماعية بوجهكِ يوماً أثناء الكتابة، فتخليتِ عن فكرة ما، حفاظاً على التقاليد والعادات؟
فكان جوابها: “أؤمن أننا في اللاوعي نسير وفق حدود بيئتنا وقواعدها وقوانينها. لو عشت في أي بلد غربي مثلا، لربما كنت قد كتبت بشكل مختلف، أكثر مباشرة، وأستطيع تسمية الأشياء بمسمياتها، وأكون أكثر جرأة، وأكثر قوة. حين يعرف الإنسان أنه لا يوجد إنسان آخر يراقبه، أعتقد أنه يكتب بشكل حر خالص من المخاوف والتوجس″.
وأكملت: “نحن في المجتمع العربي عموماً كمن يعيش في عش دبابير، في عقول العرب عيون كثيرة تراقب، ليست عين الرقيب الرسمي بالضرورة. عيون أشخاص كثيرين يتصورون أنهم حماة المجتمع فيسيرون وهم يحملون دروعاً معنوية يحاربون بها كل من يظنون أنه مختلف.
بالنسبة لهم الإنسان المثالي هو الذي يشبههم، الذي يتكلم بلسانهم، ويقول ما برأسهم، وعليك ككاتب أن تعرف ما يدور برؤوسهم لكي تشتري سلامة رأسك. وحتى لو فعلت سيظل هناك دوما أشخاص آخرون تدور برؤوسهم أفكار أخرى غير التي في رؤوس الفئة السابقة، وعليك ككاتب أن تعرف أيضا ما يمكن أن يدور في رأس كل فئة لتتجنب جلب الصداع إلى رأسك.
ففي لا وعيك أن تكتب متجنباً، كمن يحوم حول الحمى. يقول ولكن حقاً لا يقول، ولكنه يكتب لأنه يرغب في أن يقول، ويحصل أن ينسى، أن ينفلت عقال الفكر في لحظة تحرر وانعتاق.
وهنا علينا أن نبتسم فقط ونصمت في وجه الريح. الشرق ملفوف بشبكة متداخلة عتيقة من الخوف. كلنا عيون على بعض، لكن لا أحد عين على نفسه”.
كانت مريم قد كتبت مادةً في جريدة الاتحاد بعنوان “حرية شاعر”، أشارت من خلالها إلى أن جلوس شاعر أمام محقق هو أشبه بمهزلة تاريخية.. مما دفعنا عبر السؤال، إلى معرفة وجهة نظرها تجاه تحديد الخطوط الحمراء في وجه الإبداع، وكونها تؤمن بأن على المبدع تخطي كل شيء لحظة الكتابة، بغض النظر عن الأعراف والقواعد التي يكسّرها.. وما كان منها، إلا أن بدأت إجابتها بسؤال: “ماهي الخطوط الحمراء؟ من يضعها؟ خطوطك الحمراء قد تختلف عن خطوطي الحمراء، وخطوطي الحمراء قد تبدو وردية عند شخص آخر، وآخر تميل خطوطه للقرمزي أكثر فيشتد غضبه لو تجاوزت خطوطه رغم أنك ترين أن خطوطك أيضا حمراء لكنه يراها وردية باهتة وعليك أن تلزمي الحدّ.
كل شيء نسبي، من قال إن لإنسان ما الحق في أن يفسر ما أراد أن يقوله إنسان آخر؟، وماذا لو كان هذا الإنسان شاعرا؟ ونحن نعرف ما يحتويه الشعر من مجاز وخيال وتخيل ومعان مرادفة وتناقض وتناص واستعارات مختلفة. من قال إن لشخص ما الحق في محاسبة آخر على المعنى المبطن في كلامه، على “نيّته”؟! لو فعل الناس ذلك، ما دور الربّ إذن؟”.
أدب نسائي
يعيش المجتمع الإماراتي اليوم، حالة فريدة من نوعها، جعلته يتميز بأقلامه النسائية في مجال الكتابة القصصية، فكثير من المبدعات الإماراتيات استطعن أن يؤسسن لموجة أدبية حديثة، حيث استحضرن حيواتهن كمواد أساسية لفعل الروي، بالتقاطع مع المفردات المؤسسة للمجتمع، في الماضي وفي الحاضر. وحين وجهنا لمريم الساعدي سؤالنا: “لماذا تستقطب كتابة القصة النساء الإماراتيات أكثر من الرجال؟ هل يتعلق الأمر بخاصية البوح أم برغبتهن في التحرر؟
قالت: “أعتقد أن للأمر علاقة بالتعليم والعدد، النساء أكثر عدداً، وأكثر تعليماً، الرجل ذهب للعمل ولا صبر له على الجلوس للكتابة التي تحتاج إلى ثقافة واطلاع وقراءة.
كما أن نمط حياة الرجل يستدعي منه حركه أكثر، لا قدرة له على الجلوس لساعات طوال بغرض الكتابة. ثم إن الأمر أيضا له علاقة فعلاً بطبيعة المرأة وميلها للبوح أكثر وأيضا برغبتها في التحرر والحصول على فرصة السير في المكان الخارجي مثل الرجل.. يعني هناك عوامل عديدة”.
________
*العرب