«إيدا» للبولندي بافليكوفسكي… كي نرى وجوهنا في المرآة


*إيمان حميدان

«إيدا» هو فيلم المخرج البولندي بافل بافليكوفسكي الاول بعد عودته الى مسقط رأسه بولندا منهياً إقامة سنوات طويلة في بريطانيا. ويبدو ان اختيار بافليكوفسكي لموضوع فيلمه الجديد هو بداية مشروع طويل يتعلق بالعودة الى ذاكرة اوروبا الشرقية ما بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة ذاكرة بولندا، وإلى مناقشة تاريخها الدموي الذي لم تقم السلطات فيها بأي عمل عميق حول الذاكرة، خلافاً لما قد بدأته ألمانيا (الغربية سابقاً) منذ ستينيات القرن الماضي.

تدور حوادث فيلم إيدا، الذي عرض في مهرجان كان عام 2013 والذي حاز على جائزة افضل فيلم في مهرجان وارسو آذار 2014، في ستينيات القرن الماضي في بولندا التي تعاني من رضوض النازية وجروحها العميقة. آنا (أو إيدا) (لعبت الدور آغاتا ترزيبوشوفسكا) تحضّر نفسها لتوفية نذورها. قبل ان ترسم راهبة بأيام معدودة، تخرج من الدير لزيارة خالتها واندا غروز (لعبت الدور أغاتا كوليتزا لتحوز جائزة افضل ممثلة في مهرجان وارسو) التي لم تتعرف اليها سابقاً والتي تجهل كل شيء عنها. تكتشف من الخالة أنها يهودية وأن أهلها قد قتلوا أثناء فترة النازية. تكتشف أيضاً أن اسمها الحقيقي هو إيدا ليبينشتاين وليس آنا. قالت لها الخالة بسخــرية سـوداء قاسـية: «باختصار أنت راهبــة يهودية»!
امرأتان قريبتان تلتقيان. الاثنتان تعكسان اجواء بولندا القاتمة في الخمسينيات والستينيات. النسيان المتعمد الذي مهما بلغ مداه لا بد ان يهتز عند اول اصطدام بالتاريخ. تاريخ الأحياء والأموات.
شابة حالمة عاشت سنواتها القليلة اليافعة في مكان كئيب وصامت، وأخرى شهدت بولندا النازية ثم الستالينية التي أودت أيضا بأرواح الألوف من البولنديين.
خرجت الراهبة آنا من الدير لتبحث عن ماضيها، لتعرف من هي. اما الخالة واندا غروز التي كانت تلقب بواندا الحمراء بسبب مهنتها كمدعية عامة، والتي ارسلت الكثير من البولنديين الى السجون والى الموت، فتريد ان تنسى من هي.
الراهبة تفتش عن الماضي والخالة تريد أن تنسى ذلك الماضي الذي عانت منه، لكنها وبعد وصول الشيوعية الى بولندا، سبّبت هي نفسها وعبر سلطتها القضائية بكثير من المعاناة للآخرين.
اثناء بحثهما في مناطق بولندا الريفية عن الرجل الذي قام بتصفية عائلة إيدا يرفض سكان القرى الاعتراف انهم قد سمعوا سابقاً باسم هذه العائلة المقتولة. تقليد الصمت الذي يمارسه الجميع، كالنعامة التي تضع رأسها تحت الرمل متأملة النجاة. لكن لا نجاة من الماضي.
تفشي واندا سرها أنها خسرت ابناً وحيداً كانت قد عهدت به وهو صغير الى شقيقتها روزا والدة إيدا، لأنها كانت تناضل في صفوف الشيوعيين ضد النازية، الا ان الإبن الصغير قتل أيضاً مع بقية أفراد عائلة إيدا. خسارة لم تستطع واندا تحملها فراحت تستعين بالكحول لإكمال حياتها. قامت باتباع حياة لاهية خالية من معنى إنساني وحقيقي. كأنها وجدت حلا لمأساة تاريخها ان اتبعت حياة تشـبه من فقد ذاكرته.
اثناء رحلة البحث تتعرف إيدا الى شاب يعزف الموسيقى. تكتشف معه مشاعر الحب والجنس. خرجت من الدير واكتشفت العالم لكن رغم ذلك ورغم رغبة الشاب بالزواج منها، تقرر إيدا إن تعود الى الدير بعد معرفة مصير عائلتها. لم تستطع واندا تحمّل مواجهة الماضي وخاصة بعد معرفة تفاصيل جريمة قتل روزا وعائلتها، بمن فيهم ابن واندا الصغير. أنهت حياتها برمي نفسها من النافذة.
فيلم «إيدا» هو التفات صادق نحو الماضي. أراد المخرج البولندي عبره مناقشة فقدان الذاكرة المتعمدة التي تحكم دول أوروبا الشرقية حول الحرب العالمية الثانية حيث كان القتل أحيانا يقترف من اجل بيت أو ارض.
تعود المرأتان الى ذاكرة لم تتمن أي منهما العودة اليها. انه البحث عن حقيقة حدثت في مرحلة ماضية. كان لكل من المرأتين رد فعل مختلف. معرفة الحقيقة تغدو ضرورية الا انها تأخذ أبطالها الى أماكن غير متوقعة ولا تنجيهم من كآبة تصبح طبيعة ثانية لهم. إشهار الذاكرة لم يبعد بريمو ليفي عن الانتحار، ولا ساعدت واندا غروز على ختم عزائها.
موضوع المسؤولية العامة والشعور بالذنب العام في بولندا لم يُقارب بعد بنفس الدرجة كما تمّ في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن يتابع عمل المخرج البولندي يلاحظ ان أفلامه التوثيقية الماضية رصدت الكثير من الأوضاع المشابهة في بلدان أوروبا الشرقية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد أن فقد الكثير من مناصري الشيوعية مكانتهم بل هويتهم السياسية والوجودية إلى حد بعيد، بحيث اضطروا الى النظر في وجوههم في المرآة كي يتعرفوا على أنفسهم من جديد.
_________
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *