المواطن العالميّ


*هيثم حسين


هل بات الخيال نشاطاً تعويضيّاً عن الحياة الحقيقيّة؟ هل من سبيل لكسر الحصار المفروض على المرء في عالمه المُفترَض؟ هل أصبح الوهم سبيلاً للاستشفاء من القلق المزمن؟ هل تُبَلْوِرُ الطقوس المستجدّة في العالم الحديث هويّة مستقبليّة ما؟
يجلس أحدنا على مقعده، يفتح نافذته على العالم. يشتاق إلى الدردشة مع أصدقائه، يشتاق إلى التجوّل في شوارع مدنه، وإلى اللعب مع رفاقه الغرباء فيها. ينفصل عن جنون الواقع باختلاق واقع بديل لا يسعفه، يتأرجح بين التخفيف والتلطيف من جهة، والإحباط والتأميل من جهة أخرى. يضع لنفسه خريطة السياحة المتخيّلة، في خيمته الصحراويّة أو في ناطحة سحاب في غربة قاهرة، يحرص على تسجيل الحضور الافتراضيّ في محادثات مع أصدقاء بعيدين قريبين. يلتقيهم مفتعلاً المصادفة تارة، ومُلحّاً على التلاقي تارة أخرى، يتبادل معهم الهواجس والوساوس والأحلام. الشاشة الإلكترونيّة تمنح المرء فرص الوجود في قلب العالم، تقرّب المسافات، وهي بوّابته إلى داخله بالموازاة مع العالم الآخر. بقدر ما تكون مرآة، فإنّها تكون حجاباً أيضاً. تمنحه حرّيّة الفعل والمبادرة والاقتحام الكلاميّة، لكنّها تقيّده في خيمة الروح التي تعشّش فيها عناكب الوحشة والأسى. وبرغم أنّها تُكئب الكثيرين إلّا أنّها تمنح فسحة للاستمتاع بالقطيعة مع ذاك الوحش الذي يتآكلهم من حولهم وفي دواخلهم. الاغتراب عن المكان وأهله، وعن الذات والآخر هو الوحش المعاصر الذي يتغوّل يوماً بيوم.
فقه المدن يتسلّل إلى السائح الغريب المفترض، يحاول قراءة تاريخها وكشف تفاصيل جغرافيّتها ودراسة طباع أهلها والاقتراب الحذر من التغلغل فيها. يحاول أن يبقى محتفظاً بالحَدّ الأدنى من توازنه، وتلك السياحات المتخيَّلة تبقيه مثابراً على العيش والأمل. تراه في دبي يكتشف الزجاجة السحريّة، وفي بيروت يتماهى مع الحلم والتمرّد والانطلاق، وفي الإسكندريّة يستمتع في مُتَنَزّه الملك، يحاكي بعضاً من متع الملوك وبذخهم. في القاهرة يتلبّس شخصيّات الفراعنة ويحتلّ- في الفضاء المفترض، وفي روحه- مكانتهم الاعتباريّة. في دمشق يخطف عبَق الياسمين، ويركض تحت مطر الخريف في أزقّتها. وفي إسطنبول يحاول التماهي مع الرغبات السلطانيّة بالتحرّر من قيود الأمكنة والأزمنة. وفي المدن الأخرى يتجلّى سلوكيّاً بما يناسب تميّزها وفرادتها. في كلّ مدينة يختلقها أو يزورها يبحث عن مدينته التي يحملها معه جرحاً نازفاً في الروح.
يخترق صندوقاً عجائبياً، يستخرج منه ما يبقيه متماسكاً مستمرّاً، يلوذ بالذاكرة لتغيثه. للذكريات عبقٌ فوّاح يجدّد الروح ويجبر انكساراتها. يزور مدناً بعيدة، يجول في بقاع نائية، يصاحب أناساً لا يعرفهم، يعبّر لهم عن آرائه بصدق وعفويّة وصراحة، كأنّهم أصدقاء الطفولة، وحين يغلق النافذة، ينتابه نوع من الحنين إلى الأمس وإلى الغد، مع حالات من الراحة، ويتناسى قيوده كلّها، لأنّ الأثير جواز سفره العالميّ.
من مدينة إلى أخرى، من حضن امرأة إلى حضن أخرى. أحياناً تختلط عليه المدن والنساء، فيهمس بأنّ كلّ المدن سواء، وأحضان كلّ النساء متشابهة. وأحياناً أخرى يفاضل بينها، فيجد الطمأنينة في إحداها، ويفتقر إلى مشاعر الاندماج في أخرى. المدينة الكاملة حلمه المرتحل معه كغربته التي تلازمه. 
يرسم الغريب جنّته المفترَضة، يغالب جوعه وانهياره ليُبقي نافذته مشرعة على عواصف الأوهام المتجدِّدة. يحلو له أن يغرق نفسه في دوّامات الخيال. وما الضير في ذلك؟! فالخيال عدوّ الواقع، ولابدّ له من عقد مصالحة بينهما، وخلق عالمه الجامع للعوالم، المانع للتجريم والتأثيم.
بينما يتلظّى بنيران صحراء الوهم، يبقي الخيال في أهدأ بقعة يتخيّلها. يحرص على أن ترافقه امرأة في أيّة مدينة يرتحل إليها في عالمه. المرأة روح المدن، وأيّة مدينة دون امرأة طلَلٌ باهت. المرأة تتحف الجسد، وتنعش الروح. 
يعلن أنّ علّة هذه الذبذبات أنّها لا تجود علينا باللمس وبالمعاشرة الحيّة. تعوّضنا عن شيء من الحنان، وتستدرجنا إلى شراك التوهُّم المَعيش. وفضيلتها أنّها تبقي على شيء من التوازن، وتمنحنا فرصاً للتعبير عن أنفسنا في سعي لاستعادة هويّاتنا المستلَبة واقعيّاً. وبقدر ما تفسح المجال للتلصّص على الآخرين، فإنّها تسلب الطاقة على المبادرة بالفعل، لأنّ حدود هذا الخيال محكومة بالقول والمكاشفة والبوح.
في إطلالته من نافذة العالم الافتراضيّ للولوج إلى العالم الحقيقيّ، يكتشف المرء أنّ كلّ مدينة غارقة في أتونها، أحلامها، أوهامها، مركزيّتها المتوهّمة للعالم، كأنّما حدودها حدود الخيال من غير ضفاف. يكتشف انعدام حيلته أمام هذه الأوهام المتفشّية، يلعن ظنّه الذي يزيّن له كهوف المدنيّة ومغاور الحداثة المتخيّلة. 
لأنّ القيود المفروضة على التنقّلات الواقعيّة، تسعى لإبقائنا أسرى الطعن والغدر والخراب، فإنّ الحالم الواهم يشرع للغربة قلبه، ويطلق للتكنولوجيا غربته عساها تساهم مع المدن والنساء في تبديدها.
مَن هو ذاك المواطن العالميّ المفترَض؟ هل يحقّق حلم الإنسان العابر للحدود؟ هل هو أنا؟ أنت؟ هو؟ هي؟ نحن؟ هم..؟ ربّما هو جمع من شظايا الإنسان المعاصر الحالم بجواز سفره العالميّ الحقيقيّ لا المفترَض!
_________
*الدوحة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *