إسماعيل غزالي
«الحمار الذهبي أو التحولات» للوكيوس أبوليوس، كتاب سحْري مكر ببطْش النّسيان، بقدرته العجيبة على الاختراق واجتياز امتحان التاريخ المريب.
فدمغ أثره غائرا في ذاكرة السرد الكوني كأحد أبكار المحكيات التي تفتقتْ عن غلس الوجود المتوسطي إلى جانب (ساثيكرون) غير المكتملة أي وصلت منقوصة وهي معروفة بفصل (مأدبة تريمالخيو) لغايوس بيترونيوس، وخلد بغرابته كعمل روائي كان له السبق في ابتكار القوانين الأولية لهذا الفن البديع من جهة، وخلق أفق عجائبي مفتوح من جهة ثانية.
فمناخية الكتاب ذات ظلال وارفة يسهل اكتشافها في الـ (دونكيشوت) لميغيل دي سرفانتيس و(حكايات كانتبري) لجيفري شوسر والـ (دي كاميرون) لجيوفاني بوكاشيو، هذه الأعمال الحكائية التي شكلت خلفية مركزية كبرى للسرد والتخييل الروائي تأسيسا وتحولا.
قراءة «الحمار الذهبي» تفضي إلى تعزيز الفكرة الصّلبة التي طالما راجتْ في حوارات الأرجنتيني لويس بورخيس، وهي أنّ حكاية الأدب بدأت عجائبياً وفانتازيّاً.
سرد متعدد المستويات
يلمح نص التحولات في توطئته إلى أنّ السّرد محبوك بطريقة ميليتية، وللتأكيد ذات طراز يوناني. ويفصح على سبيل الإشارة بأنها طرائف ونوادر في تقلّب أحوال البشر وهيئاتهم لكن درجة التغير هنا تذهب من أقصى المألوف إلى أقصى اللامألوف… ثم ما تني تعود إلى المألوف.
الإيهام بذاتية النّص، يومئ إليه الكاتب نفسه في مبتدأ العمل دائما، واللافت أن يزاوج بين أمرين يثير الانتباه إليهما وهو يخاطب القارئ المفترض على طريقة (بروفايلات) المسرحيّات الإغريقية الكلاسيكية:
«ها أنا سأجمع لك في هذا الخطاب المؤلّف على النّمط الميليتيّ، قصصا متنوّعة وسأشنّف أذنيك المجاملتين بهمس لطيف إن لَم تأنف النظر إلى هذه الطَرائف الّتي خطّتها على ورق البرديّ المصريّ حذاذة يراع النّيل. فتشاهد معجَبا تقلّب أحوال البشر وهيئاتهم: تتغيّر ثم ترتدّ فتعود كما كانت». (ص: 7)
العمل يرتهن لشفوية المحكي، وتدوينه في آن، وللمتلقي الخيار في الاستمتاع من خلال وسيطي الأذن أو العين، والتأرجح بين بلاغة الشفاهي وبلاغة المكتوب يقابله تحقيق ازدواجية لذة الحكي المنذور للسماع، ولذة الحكي المنذور للقراءة.
النص يستهدف الإقناع وتروم رسالته التوجه إلى الصنفين السائدين من التلقي: التلقي الشعبي والتلقي العالِم، بالرغم من أن المؤلف يزعم عدم إتقان اللغة اللاتينية وهو مكر إضافي منه، ليوهمنا بأنه يجنح لخطاب بلغة غير لغته الأصلية، وهو خطاب يجازف بمغامرته كي يحقق رهان الإقناع والإمتاع قبل كل شيء. بل يدخل في صميم ما أطلق عليه هو نفسه: «تغيير اللغة يطابق منهج الفن البهلواني الذي نحن بصدده الآن» ص: 8.
والنص يعي تماما خطورة اللغة، والقيمة الخطابية لأسلوبيته، وهذا يشكل هاجسا مركزيا لسرد التجربة الحكائية. يفصح السارد عن اسمه، إذن، المتماهي مع اسم الكاتب ذاته: لوكيوس. إيهاميّة النص بواقعية المتن الحكائي، وحقيقة حدوثه بالفعل، يروم بها الكاتب تعزيز الفكرة السّحرية لقوّة ما هو لاعقلاني ولامنطقي كنمط قائم في تفسير الظواهر وقراءة الأشياء. إنها رؤية لوجود لا يمكن استناده الأحادي لمنطق العقل الظلامي وأحكام الوعي المحدودة.
سحريّة مقصودة
يدرك الكاتب بداية أن النص يندرج ضمن الخطاب الخارق واللا معقول الذي سيجابه بالتسفيه والسخرية ونفي أدبيّته المؤسسة على سحريته. وهي إحدى الذرائع التي يتخلق عنها خطاب العمل الذي يروم إثبات العكس، وتأكيد الخلفية الخارقة لوجودنا الإنساني الغامض، أي الغرابة التي تزدهر بها حياتنا اليومية ولا نكاد نلتفت إليها بالنظر إلى الرؤية النافية لفرضية ما هو غير منطقي وغير واقعي.
السفر إلى مدينة هيباتا هو اللحظة التي يفتتح بها العمل أفقه الغرائبي، عندما يلتقي لوكيوس في طريقه شابين لاغطيْن في حوار محتدم حول أعمال السحر، فيبدي لوكيوس فضولا وحماسا لتصديق حكاية الشاب (أرسطومان) الذي يدافع عن وجود السحر وحقيقة فاعليته الدامغة: «إنك لعمري قليل الدراية بتلك الأمور التي تعدها أباطيل بناء على أفكار مسبقة خاطئة، لأنها تبدو جديدة على سمعك» ص: 9، وينحاز له لوكيوس ضد الشاب مرافقه الذي يرفض بشكل دامغ الأمر واصفا إياه بالأمر السفيه والمعتوه.
لا يوضح السارد غرض ذهابه للمدينة ويكتفي بغمزة مبهمة: «من أجل قضاء حاجة»، ثم سرعان ما ينكشف ما يضمره على سبيل الشيء الطارئ، وهو «سماعه بأعمال الساحرة (بانفيلا) التي تستأثر بانتباهه ومغامرته».
بعد أن ينفصل عن رفيقيه ويشيعهما ينزل ضيفاً في منزل البخيل (ميلون) بدعوى أنه يحمل له رسالة توصية من (ديمياس الكورنيتي) كي يقيم عنده مؤقتا، ولا يكترث لتحذيرات قريبة أمه (بيرهينا) التي يصادفها في سوق المدينة ويتضح أنها ربته صغيرا، فيتودّد إلى الخادمة (فوتيس) التي أمست معشوقته باندلاع حب مشبوب بينهما (ينبغ لوكيوس في وصفها بـ (فينوس) ويسهب في مدح وجهها وشعرها وفق مذهب ذوقي خاص، الكاتب هنا يكشف عمقا تصويريا أشبه ما يكون بالرسم والنحت ويؤسس لرؤية جمالية فلسفية خاصة ببورتريه الوجه وقيمة شعر المرأة بالذات حين يوجز فتنة المرأة وسحرها في شعرها) كي تكون دليله إلى مختبر بامفيلا السحري، وهو ما تأتى له حين أطلعته على عملية تحول للساحرة بامفيلا من امرأة إلى بومة بعدما أن دهنت جسدها بمرهم.
فطالب لوكيوس الخادمة فوتيس بعلبة المرهم كي يتحول بدوره إلى طائر/ نسر، فأخطأت فوتيس التقدير، وجاءته بعلبة ثانية، فلما دهن جسده تفاجأ بتحوله الصاعق إلى حمار بدل طائر.
السخرية اللاذعة هنا مفارِقة، فطموح لوكيوس ليصير نسرا هنا يجسد حلم الإنسان العمودي، المتطلع منذ بدء الخليقة إلى التحليق والطيران، والمشدود إلى الغموض السماوي المؤسطر والمؤله، بغية استكشاف المجهول الكامن في الأعلى (النسر هو رسول جوبتير إله الرعد كما يتردد في بعض فصول الرواية). فتشاء قدرية الحكاية الكاريكاتورية أن يلتصق بالأرض أكثر مما كان عليه حرا يتمتع بخفة كانسان، بتحوله إلى بهيمة: حمار.
وهذا الارتداد من ميزة طائر إلى دونية حمار يعزز حكمة الارتهان لتجربة ما هو أرضي واستكشاف الوجود الإنساني من خلال تقمص جسم حيوان. غير أن الحيوان هنا الذي يتمثله الحمار ما يزال يحتفظ بقيمة إنسانية هي عقل لوكيوس الذي لم يتعرض للمسخ والتحول.
تقلبات مأساوية
يقضي لوكيوس الذي آل إلى حمار ليلته الأولى في إسطبل مع حمار ثان وحصان، بانتظار أن تأتيه فوتيس صباحا بنوعية من الزهور ليلتهمها كي يعود إلى طبيعته الآدمية، وهو ما لن يحصل عندما يتعرض البيت إلى سطو لصوص حمّلوه والحمار الآخر غنيمة السرقة وذهبوا به إلى كهف.
هناك يتعرف لوكيوس إلى حسناء اختطفها اللصوص ليلة عرسها وراح ينصت للحكاية التي طفقت ترويها للعجوز السيئة التي ترعى اللصوص، تحت ضغط التهديد.
ينتهز الحمار مناسبة للفرار وتمتطيه الحسناء وتبوء المحاولة بالفشل، فكانت المضاعفات جسيمة لعقاب مميت ينتظرهما لولا قدوم شاب أبهر اللصوص بمهاراته فقلدوه منصب قيادتهم وعصابتهم، فاتضح أنه خطيب الفتاة الذي سلبت منه ليلة عرسهما، وأوقعهم في فخه بعد أن خدرهم سكرا وفرَّ بحسنائه على متن الحمار لوكيوس، فردت الحسناء الجميل للحمار بأن سلمته لأبيها كي يعتني به كما يليق به، غير أن حظه اللعين يزج به في سيناريوهات مأساوية جديدة: قساوة الغلام عليه بحمل الحطب/ سرقته من لدن إسطبلي كي يقع في يد عصابة من الرهبان الذين حمّلوه تمثال الإلهة إيزيس/ وقوعه في يد صاحب طاحونة بعد القبض على الرهبان بتهمة السرقة وعودته الشاقة إلى تدوير حجر الرحى والأفدح كره زوجة الطحان للحمير/ وقوعه في يد البستاني الذي مارس عليه أفظع أشكال التجويع/ وهكذا دواليك صار يتنقل من جندي إلى أخوين يشتغلان كطباخين عند أحد المترفين فطفق يلتهم أطعمتهم مما خلق صراعا بينهما، وباكتشافهما لضلوع الحمار في ذلك الأمر الشائن فوضا أمره لسيدهما الذي أبدى إعجابه به وسلمه هذا لشخص لقنه ألاعيب بهلوانية وتاجر به ضمن عروض ساخرة وشهوانية، وحين يتحقق له الهروب من فداحة العرض المسرحي الماجن ويركض بعيدا، سيداهمه النوم ليجد نفسه على شاطئ بحر يتضرّع إلى ملكة السماء إيزيس بعد أن يغتسل على طريقة فيثاغور سبع مرات في البحر كي يرجع إلى طبيعته الآدمية ويتحرر من شكله الحيواني الممسوخ، وفي منام ثان ستلوح له الإلهة إيزيس مبشّرة إيّاه بأن تضرّعه حظي بقبولها وتملي عليه ما سيفعله.
في الموكب الاحتفالي لإلهة كورنث ستقع نظرة لوكيوس في الجمهرة الغفيرة على الكاهن الذي أومأت له توصية إيزيس في المنام، وهو يحمل الورد فهرع إليه والتهمه منه ليسترجع شكله الإنساني في الحين، وظل ممتنا للإلهة إيزيس التي حرّرته من طوق المسخ الحيواني واعتنق ديانة المعبد وصار كاهنا في نهاية المطاف.
يغدو الحمار الشخصية المأساوية التي تتجشم عناء قسوة المصائر التي يساق إلى فخاخها ويسقط عنوة في مهاويها. وهي مصائر فادحة جابه معها حافة الموت في أكثر من تجربة لاذعة.
خصائص إبداعية
التحول هنا وإن تم بفعل السحر فهو يحيلنا على أنماط التحولات في المتون العجائبية للأساطير والملاحم الشعرية كالإلياذة والأوديسا والتحولات للشاعر أوفيد، غير أن الاشتغال على المسخ والتحول كموضوع مركزي في شكل سردي روائي، يعطي لنص الحمار الذهبي قيمة جوهرية لها خصوصية أكيدة، يمكن أن تستند إليها شتى أنواع التحولات في الأدب السردي المعاصر المعروف بالمسخ والمآلات والتحول بما فيها الكافكاوية ذاتها والأمر هنا ليس محض إسقاط عكسي. مما يجعله نصا أصليا ينتصب في تاريخ السرد كشجرة صلبة ذات أوصال وفروع وأغصان وأفنان وجذور متشعبة وغائرة.
و إمعانا في المتن السردي لرواية الحمار الذهبي، يمكن الانتباه إلى خصيصات لافتة تمهر إبداعية القول الحكائي وجمالية الصناعة التخييلية ورمزية الخلق السردي وهندسة المعمار القصصي ونسق المتواليات المحبوكة بدقة ورصانة، خصيصات يمكن الوقوف على عشر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1: يتقاطع النص مع استراتيجيات الأساطير والمتون الميثولوجية المعنية بالترحال والسفر والاختراق. استراتيجيات المغامرة والتيه وتخطي الحدود. فمغادرة البطل وعدم استقراره في مكان معين، تغذي هذه البنية المتغيرة والمتحولة لتفرعات الحكاية الأصلية واندلاق خيوطها في أكثر من جهة. وهو ما نجده كقيمة أدبية حاضرا بقوة فيما بعد، ضمن اشتغال روايات طبقت شهرتها الآفاق: دونكيشوت لسرفانتيس، ورحلات جاليفر لجوناثان سويفت…الخ.
2: تحول البطل من إنسان إلى حمار، هو شكل من أشكال العجائبية التي دمغت النصوص الأسطورية، وأدب الشعوب الشفاهي، قبل أن تحتكم إليها نصوص سردية ملهمة في التاريخ الأدبي كألف ليلة وليلة، والعجائبية التي ينفرد بها نص الحمار الذهبي كما هو ملمع إليه سلفا، لها علاقة وطيدة بأدب المسخ الذي عرف به كافكا من بعد وما بعد كافكا في الأدب الفانتازي. المسخ أو التحول في نص الحمار الذهبي، يستند إلى مسألة الفعل السحري ليشيد عالما تخييليا موصوف بالإثارة ومفخخ أفقه بالمفاجآت، أدب التحولات والمسوخ إذن سابق على لوكيوس أبوليوس بكل تأكيد، لكن أن يُشتغل عليه نص سردي بصوغ مركزي وجديد، نص له مواصفات الرواية الحديثة برغم تجذره السحيق في التربة الرومانية، أمر يعد مصدرا أساسيا لجماليات التحول بامتياز.
3: السخرية اللاذعة في نص الحمار الذهبي دامغة في كل فصوله، ذات آلية خفية تضمر رؤية وموقفا، وذات مرح محكوم بعمق فكري ومعرفي وفلسفي، فروح الدعابة الجارحة هنا ليست مجانية أو منثورة كيفما اتفق. بلاغة السخرية هذه نجد لها ما يشبهها في النص السردي اللاحق الشهير بـ: دونكيشوت لسيرفانتيس، وفي نصوص فرنسية كما عند موليير والشيء ذاته سيبرز في الأدب الروسي (غوغول مثلاً)… إنها السخرية التي سيستأثر بها القرن العشرون أدبيا وفق توصيف إيتالو كالفينو في كتابه (آلة الأدب(: مقال الضبط والأشباح.
4: قلة قليلة هي النصوص التي خصصت لموضوع السحر عملا تخييليا، فنص التحولات أو الحمار الذهبي تفصح في توطئتها ومتنها عن اهتمامها الجاد بإضاءة معضلة السحر، كمسألة أساسية وكشكل من أشكال التفكير والحياة، ولا ينفي عنها طبيعتها الميتافيزيقية ويؤكد فاعليتها كقيمة إنسانية. السحر كموضوع في التحولات أو الحمار الذهبي، يقابله الشكل السحري للرواية، تلك الرؤية الخيالية للواقع التي سادت بصور متباينة في تاريخ السرد الكوني بدءا بألف ليلة وليلة قبل أن تبرز كمدرسة في أميركا اللاتينية مع بوخيس وماركيز وغيرهما.
5: نادرة هي الأعمال السردية التي جعلت من الحمار شخصية روائية، وإن كان أدب الحيوانات له تقاليد في الحكايات الشفوية للشعوب، وكذلك في المتون السردية المكتوبة.
هناك (خواطر حمار (لألكونتس دي سيجير و(أنا وحماري (لخوان رامون خيمينيث وهناك الحيز الملفت الذي يخصه نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت (الموسوم بـ (عيد حمار).
نص التحولات أو الحمار الذهبي كرواية، نموذج أصلي للسرد الذي أنسن الحمار والعكس، والأمر يحتمل تأويلا رمزيا لمجمل المحكي الاستعاري.
6: يعتمد نص الحمار الذهبي على خطة مبتكرة في الحكي باستناد الحكاية الأصلية إلى وحدات حكائية عبارة عن متواليات تتعاقب بشكل خطي تارة وبشكل عمودي تارة أخرى. فالرواية منشطرة إلى أحد عشر كتابا، وكل كتاب مؤسس على التشذير أو التقطيع النصي في صيغة مجزوءات حكائية ولكل مجزوءة عنوان. ثم هناك نص في رواية الحمار الذهبي شغل حيزا كبيرا من مساحة الحكي يتعلق بأسطورة: بشيسية وكوبيدون. وحضوره المركزي والمسهب في الرواية يكاد يجعل منه نصا داخل النص الإطار أو رواية داخل الرواية. خطة بديعة نجد لها ما يحاكي أثرها في المتون الروائية الكلاسيكية والمعاصرة.
7: إيقاع الأحلام والرؤى والرموز في الرواية يجعلها مكتوبة بشكل هذياني، تتفجر في هذا الإيفاع الطاقات الهائلة الداغلة في قيعان الشخصية، وتطفو الصور والحقائق الصادمة من أعماقه المنسية المريبة إلى السطح. إنه استغوار لطبقات سيكولوجية نجدا لها أثرا غائرا في روايات ما يسمى مجاوزة بـ (تيار الوعي) كما عند جيمس جويس وفيرجينيا وولف.
8: التعدد المعرفي والأجناسي لرواية الحمار الذهبي ذات التشعبات المؤسسة على خلفية متنوعة: التاريخ والأسطورة وفن النحت والرسم والجغرافيا والطبخ والنبات والفلسفة وعلم اللغة والشعر والأديان و…الخ. تعدد خلاق يجعل منها نصا خرائطيا ويعزز من هويتها النوعية كرواية، فقراءتها العجيبة تؤكد انتماءها بقوة إلى الأدب الحديث، ولا علاقة لها بتلك العصور الغابرة، وهنا قدرتها البديعة كأثر استطاع أن يمكر بحدود لحظته التاريخية ويخلد في ذاكرة الأزمنة وتلك هي القيمة المبتكرة لكل عمل حداثي مريب.
9: أدب المحاكمة والمرافعات ملفت في مشيدات الحكي لرواية الحمار الذهبي، فلوكيوس أبوليوس يوظف ثقافته كمحامي هنا (لا بد من الإشارة لكتابه المرافعة أيضا المعروف بدفاع صبراتة)، ويصنع من الرصيد القانوني والقضائي جماليات لصالح الكتابة السردية، تخصبت بشكل مثير وممتع في بنية النص خاصة في المحاكمة الساخرة للكتاب الثالث. ينضاف لأدب المحاكمة أدب المحاورات الفلسفية، كما هو معروف عند سقراط وأفلاطون وأرسطو الخ.
10: أسلوبية الرواية اللافتة، فسحرية المناخ الحكائي في الحمار الذهبي يتخلق أيضا عن سحر اللغة ذات الاشتغال البلاغي المتعدد، المراوغ والرصين، التهكمي والجاد، الدوار والخطي، الإيحائي والمعلن، الرمزي والمنطقي…الخ، وكل هذه الصور مؤسسة على الأدوات البيانية الصرفة من أشكال الاستعارات والتوريات. ثمة لغة التصوف والتاريخ وطروس الحكي الأسطوري ولغة المتون الخبرية والتحليل العقلاني والسجالي. الحمار الذهبي، كنص فانتازي بنزوع غرائبي وسحري هو في المضمر وثيقة فلسفية وتاريخية واجتماعية ذات رؤية تستغور نمط الحياة الرومانية وتضيء عبر التخييل المناطق العاتمة لذهنية المرحلة وأشكال انحطاط الوجود الاجتماعي والسياسي والعقائدي والحضاري.
بالرجوع إلى بهلوانية النص التي يلمح إليها السارد في توطئة الكتاب، يبدو أن الحمار الذهبي معني في ظاهره بفن السحر، وباطنه يضمر اهتماما أعمق له علاقة بالإيزيسية التي ينتهي إليها كديانة وأسلوب حياة، فتحول لوكيوس إلى حمار، يقابله تحوله الموازي من كائن مولع بالسفر والمخاطرة والمتعة والاكتشاف، إلى عابد إيزيس، من مغامر إلى كاهن.
فهل الكتاب المضمر في نص الحمار الذهبي هو كتاب إيزيسي؟ وهل لحمل الحمار تمثال إيزيس في مشهد الرهبان الذين أمسكوا به وقلدوه وزر تلك المهمة الشاقة كان له الأثر المثمر في منتهى التجربة على شاطئ البحر وهو يرنو إلى القمر (فإيزيس هي ربة القمر والأمومة عند الفراعنة) فتلوح له في رؤيا النوم لتخلصه من شكله البهيمي؟ أليس انتهاء لوكيوس المغامر والمولع بالاكتشاف والمعرفة والمتعة إلى ديانة إيزيس هو شكل من أشكال الخلاص، الخلاص الأبدي من خطايا تجاربه السابقة بما فيها تحصيله المعرفي؟ (هل هذا ما حال بينه وبين العودة المأمولة من القارئ إلى معشوقته فوتيس مثلا؟).
في مختتم هذه القراءة، لا بد من العودة أيضا إلى توصيف الحمار بالذهبي، فذهبية الحمار هنا تجد تأويلها المتعدد، بالنظر إليه كحمار غير عادي، لأنه يمتلك عقلا إنسانيا من جهة، وذهبيته هي مجمل تجاربه الإنسانية ومغامراته ذات الغنى التاريخي والفلسفي والاجتماعي والأدبي…الخ من جهة أخرى.
٭ لوكيوس أبوليوس: (الحمار الذهبي أو التحولات)، ترجمة: عمار الجلاصي، 2000.
( الاتحاد الثقافي )