حفيظة قارة بيبان *
علاقة المثقّف بالسلطة :
سؤال حارق أثارته إحدى الندوات الأخيرة ولكنها أثارت معه قلقا وحيرة، وهي تكشف، لا علاقة المثقف بالسلطة فقط، بل أزمة المثقف التونسي في علاقته بنظيره، إذ تعلن بعض القراءات المقدّمة عن غياب المثقّف التّونسي من الحراك الثوري السابق للثورة، أو الموالي لها وظهوره كمتزلّف للسلطة، ساع في ركابها.
هكذا، بإطلاقيّة كاملة وتعميم مثير للاستغراب، فإذا «المثقّف المنظر»، يشارك السلطة في إلغاء المثقف المقاوم، متجاوزا بذلك كل الأجساد التي اضطهدت، والأرواح التي عذبت والأقلام التي كسرت، مشاركا في العداء الأقسى المتمثل في التهميش الدائم الممنهج – عن قصد أو جهل، أو لأسباب أخرى معقّدة.
* * * * *
خطرت ندوات ومواقف أخرى مشابهة في البال وأنا أستمع إلى بعض الأصوات المحاضرة.
في خيمة الكتاب بشارع الحبيب بورقيبة :
خيمة أقيمت بعد الثورة للتعريف بآخر الكتب التونسية، مفتوحة على الشارع، يدخلها كل مواطن تونسي أو عابر أجنبي، مشتاق لسماع صوت الكاتب التونسي، كنت إحدى المدعوين فيها للمشاركة مع أربعة كتاب آخرين.
وإذا بصوت أحد المشاركين «المسؤولين في نقابة الكتّاب التّونسيّين» يرتفع معلنا ضعف محتوى الكتاب التّونسي وعدم قدرته على المنافسة، بينما كان المنتظر أن تكون النّقابة صوت الكاتب والمدافعة الأولى عن الكتاب التّونسي.
وجدتني مضطرّة للتدخل – وكذلك فعل الكاتب جلول عزونة، رئيس رابطة الكتاب الأحرار – للتّذكير بشهادات النقاد المشرقيين حين يصل إليهم الكتاب التونسي وبالجوائز العربية والعالمية التي فاز بها كتاب وباحثون تونسيون، تغيب أخبارهم تماما عن إعلامنا (المرئي خاصّة) وتخشاهم السلطة ماضيا وحاضرا. وللأسف، يتناساهم أحيانا حتى زملاؤهم من حاملي الأقلام.
في معرض الكتاب الدولي بتونس :
في الدورة قبل الماضية أقيمت ندوة جائزة البوكر العالمية للرواية العربية، وحضر، مع منسّقة الجائزة البريطانية، الروائي التونسي المهاجر، الحبيب السالمي، بعد أن وصلت روايته المختارة من بين أكثر من 130 رواية عربية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية، وذلك مرتين.
ولكنه وجد نفسه، وهو المحتفى به من لجنة الجائزة والقادم من باريس إلى بلده تونس، أمام جمهور قليل ومع بعض كتاب تونسيين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.
بمرارة، ونحن نودعه عند باب القاعة ذكر قولة دالّة معبّرة لمديرة دار الآداب، رنا إدريس، ناشرة رواياته، وهي تلاحظ رواج رواياته في العالم العربي وضعف طلبها في تونس : «أيّها التّونسيون لماذا تكرهون بعضكم؟»
سؤال مشحون، يدل على ما هو أعمق، ويختزل الواقع مشيرا إلى العقدة المتغلغلة في التونسيين، عقدة استنقاص الذات، إضافة إلى نرجسيات وعقد مختلفة أخرى.
في دار الثقافة ابن رشيق : المؤتمر الأول بعد الثورة :
حدث هام، لأول مرة بتونس. هو في الظاهر انتصار للمثقف على السلطة القامعة. ولكنه يثير أكثر من سؤال.
لأول مرة ينظم مؤتمر لرابطة الكتاب الأحرار التي كانت قبل الثورة ممنوعة من التأشيرة، حوصرت كم مرة اجتماعات كتابها من البوليس، ومنعت بعض كتبهم ككتاب الأزهر الصحراوي «وجهان لجثة واحدة» على سبيل المثال، الرواية التي تفتح ملف التعذيب للطلّاب المتمرّدين، كما اضطهد وسجن بعض كتابها كعبد القادر الدردوري.
هذه الرابطة التي ظلت بلا مقر غير ما جادت به عليها المنظمة العالمية «ألتيير»، ورغم أهمية الحدث، فقد أدار الإعلام المرئي الوطني والخاص وجهته بعيدا عن الحدث الثقافي الهام، وذهب إلى حيث يتصارع السياسيون وحيث تحصد المصلحة الرّاهنة.
* * * * *
من خلال هذه المواقف المختلفة :
• الحكم بضعف الكتاب التونسي من أحد المسؤولين بنقابة الكتاب.
• غياب الإعلام المرئي الوطني عن حدث ثقافي هام يتمّ لأول مرة بتونس.
• سؤال الاستنكار من مثقفة عربية مسؤولة تتعامل يوميا مع الكتاب العرب : «أيها التونسيون لماذا تكرهون بعضكم؟»
من خلال هذه المواقف وكثير غيرها، ندرك الأزمة التي يعيشها المثقف التونسي، وعقدة استنقاص الذات المتغلغلة في شخصية التونسي بصفة عامة، والّتي تجعل بعض مثقفينا، يشطب بسهولة، كل الأعمال والنضالات لكتاب ومبدعين، نجحت السلطة بإعلامها ومالها في تهميشهم، وحجبهم عن المشهد العام، أو تركوا للنسيان لأنهم ترفعوا عن مغازلة الإعلام، الذي يواصل دوره غالبا بتلك العقلية الكريهة المستخفة بالثقافي، والمستسهلة للتواصل فقط، مع المكرّس أو الصاخب والمثير.
مع ذلك، يفرض السؤال نفسه :
– كيف يمكن إسقاط نضالات جماعة برسبكتيف مثلا من الذاكرة ؟ هؤلاء الذين عبروا عن رأيهم من النظام البورقيبي من خلال مجلة «آفاق» التونسية (الهاشمي الطرودي، محمد الصالح فليس، النوري بوزيد، نور الدين خضر…وغيرهم).
فكان عقابهم سنوات من السجن والتعذيب ؟
– كيف ينسى المثقف القائل بغياب المثقف، الشهداء (شهيد ثورة الخبز الشاعر الفاضل ساسي)، والمضطهدين سجنا، أو إقصاء ومحاصرة لأنهم رفعوا أصواتهم الحرة من خلال الفن أو الكلمة، وأقلقوا راحة الحكام وأعوانهم ماضيا وحاضرا؟
– كيف تُمحى بسهولة من ذاكرة هؤلاء، الأعمال المسرحية الرائدة، الساخرة أو الفاضحة، لتوفيق الجبالي، والفاضل الجعايبي وجليلة بكار وغيرهم، «خمسون»، على سبيل المثال ؟
– وهل تنسى ذاكرتهم القريبة، صورة حديثة للمسرحيين أمام المسرح البلدي، في اعتصامهم بعد الثورة، يطاردهم البوليس ويضربهم بالعصي لأنهم وقفوا ضد السلطة ؟
* * * * *
كم من الأحداث والأعمال والنصوص لم يلتفت إليها الإعلام، وشارك السلطة، ماضيا وحاضرا في تغييبها، ومن المؤسف أن يشارك في ذلك بعض المثقفين.
وكأنّه لا يكفي واقعَنا الثقافي، قمعُ السلطة وتجاهلُ الإعلام، قبل الثورة وبعدها، واستخفافه بدور الثقافة على أهميته، لنضيف إليه، جلد الذات، وتغييب المثقف للمثقف، متجاوزا بذلك النقد إلى الإلغاء.
1. المشروع الثقافي المقموع : مجرّد مثال :
حين كان المثقف في موقع المسؤولية، يسعى قبل الثورة، إلى تحقيق مشروعه الثقافي، شارحا للسلطة فوائده على البلاد والعباد، كان يقابل كل مرة بإجابة واحدة دالة :
«برا وليدي، ربي يعينك!»
هكذا كان بورقيبة يجيب وزيره البشير بن سلامة، كلما عاد إليه مذكرا، شارحا أهمية المشروع وذلك بـ «إرساء مقومات سلطة رابعة ثقافية تشمل الإعلام والاتصال والتربية والثقافة، مع تصور شامل يجعل من الثقافة ومكوناتها ركيزة أساسية في التنمية، يكون اقتصاد الثقافة والصناعات الثقافية عاملا فعالا ضمنها، لتصبح سلطة رابعة مضادة تتجسم في هيئة أو مجلس أو برلمان».
«برّا وليدي، ربّي يعينك!»
هذا ما ذكره البشير بن سلامة في مذكراته، حين كان وزيرا، لم تطل إقامته في حكومة بورقيبة الحاكم الأوحد. بهذا الاستخفاف، قوبل المشروع الثقافي والدعوة إلى سلطة ثقافية في زمن بورقيبة المستنير.
فكيف الحال، في زمن الحاكم العسكري الهارب، بن علي، البعيد تماما عن عالم الثقافة ؟
* * * * *
بعد الثورة عاد الرجل إلى الدعوة إلى مشروعه ،تصنيع الثقافة، وجعلها إحدى ركائز التقدم في البلاد (انظر مقاله المنشور بجريدة المغرب في 3 أفريل 2014).
«هذه فرصتنا، إذا لم نستغلها حاليا، فقد لا تتكرر…يجب أن نطالب بالتنصيص على السلطة الرابعة في الدستور الجديد».
مشروع آخر قدمه «الكنعاني المغدور»، عبد الحفيظ المختومي داعيا إلى جبهة ثقافية تقدمية بعد الثورة، وقد جاء مشروع بيانه التأسيسي في الكتاب الصادر لأعماله الكاملة سنة 2012 «حتى لا يأكلنا الصدأ فننسى».
ولكن، من يستمع إلى صوت المثقف الساعي لإنارة سبيل السياسي الذي لا يرى غير الراهن والمصلحة الحزبية الضيقة ؟
وكيف يستجاب لصوته، بعد الثورة، وهو يقاوم – كما كان قبلها – بفردانيته، السلطة السياسية العمياء المستقوية بنفوذها المدعوم بالمال والإعلام، في وطن، يتناسى حكّامه المتوالون، أنّنا نستعمر الآن بالثقافة الغازية، لا بقوّة السلاح ؟!
وطنٌ، يمرّ بعض مثقّفيه على نضالات مقموعة وإبداعات جريئة لمثقفين وكتاب وفنانين، متجاوزين التراكمات التي أدت إلى الانفجار (حتى وإن لم تبد مباشرة)، ناسين أن شعار الثورة الأول، كان شعارا ثقافيا انطلق من بيت شاعر تونس «أبو القاسم الشابي» :
إذا الشّعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر.
وإذا «الشعب يريد» يتحوّل شعارا لكلّ الثّورات الموالية.
هكذا، يساهمون، إلى جانب السّلطة، في تهميش الأصوات التي ترتفع ضدّ الاستبداد، في مجالات ثقافية متعدّدة، وإلغائها من الذّاكرة.
* * * * *
2. سلطة المال والإعلام :
في الزمن الأمثل لسلطة المال والإعلام، ما مآل كل ما هو ثقافي إذا قصّ الجناحان ؟
حين احتجت رابطة الكتاب الأحرار – بعد الثورة – على التخفيض من ميزانية وزارة الثقافة بنسبة 30% وذهب كتابها للاعتصام بالقصبة أمام الوزارة الأولى، تنديدا بهذا العار : التخفيض بنسبة 30% من ميزانية لا تكاد تصل إلى 1% من ميزانية الدولة. وقدمت رسالة إلى الوزير الأوّل وأخرى إلى وزير الثقافة تعبران عن الاحتجاج.
ما كان جواب «حكومة الثورة» ؟ الحكومة التي رفعت وقتها من ميزانية وزارة الشؤون الدينية، للمرة الثانية ؟!
مرة أخرى، يصطدم المثقف الحر بقرار السلطة اللامبالية، إذ يعلن موقفه الرافض لمزيد التهميش، في زمن سلطة المال والإعلام، كما يصطدم بمواقف غيره من المثقفين المنظرين التابعين للسلطة أو المكتفين بالظاهر والسطحي.
* * * * *
4. الأسئلــــــــــة الحارقـــــــــة :
تظلّ الأسئلة عديدة وحارقة، تحتاج إلى عمق نظر، وسعة اطلاع لأجل إجابة عميقة مقنعة، لعل أهمها السؤال الأول الذي أثارته إحدى المداخلات في ندوة «المثقف والسلطة» :
– هل المثقف غائب حقا عن الحراك الثوري في تونس؟
أم هو مغيّب ومهمّش على الدّوام، والأدهى أن يكون ذلك من المثقّفين أنفسهم؟
– وهل عليه أن ينزل إلى السياسة، ويدخل معتركها بصخبها ومناوراتها ودسائسها ليكون جديرا بصفة المقاومة و«الثورية» ؟
– أم أن دوره أعمق وأبعد مدى، إذ تتجلى ثورته من خلال فنه وإنتاجه الثقافي الذي يرصد الواقع، ويقاوم رداءته، منيرا جوهر الإنسان، مستشرفا الغيب والمجهول؟
هنا لا بدّ من التذكير ببعض الكتب التي لم يقرأها القائلــــــــــون بالغيـــــــــاب، والتي استشرفــــــــت الثـــــورة، أو فضحت الاستبداد، وسخرت من الحكام وقاومت بطرقها الفنية القمع السياسي والاجتماعي والديني قبل الثورة، لا بعدها : «آخر الرّعية» لأبي بكر العيادي ، «قائع المدينة الغريبة» لعبد الجبار العشّ، «دروب الفرار» لحفيظة قارة بيبان، «عم حمدة العتال» لمحمد الصالح فليس، «وجهان لجثّة واحدة»، للأزهر الصحراوي، …وغيرها، وكذلك الكتاب الأخير لجلول عزونة «الحرية أولا…الحرية دائما… ضد الرقابة على الإبداع» – سحر 2013 –
– أوليس سلاح الكاتب والفنان، قلمه، ريشته، موسيقاه، جسده المنتفض على الركح، معبرا عن معاناة الإنسان وصراعه في سبيل حريته؟ فيصبح فنه – حين يكون صادقا، عميقا ومبدعا – أفتك من السلاح؟
– ألم يقل الصهيوني مناحين بيغين، يوم اغتيل غسان كنفاني الكاتب والقاص الفلسطيني : «اليوم تخلصت إسرائيل من كتيبة جيش بأكملها»؟
* * * * *
لكم نحن اليوم، وقد تحررت الكلمة، في حاجة إلى التحرر أيضا من عقدنا، ومن استنقاصنا للذات!
لكم نحن، اليوم، في حاجة إلى دراسات عميقة جادة، تعيد النظر في واقع المثقف التونسي، وتقرأ مدونة المبدع بصفة خاصة، في علاقتها المتوترة الدائمة مع السلطة بمختلف أشكالها !
* * * * *
لعل الكتاب الصادر حديثا عن دار نقوش عربية بعنوان «رواية القمع في تونس» يقدم – ولو إضاءة صغيرة – للمكتفين بالحديث المتعالي عن غياب المثقف التونسي.
كتاب يضيء عديد الروايات التونسيّة التي كتبت قبل الثورة والتي « تثبت، بانفلاتها من مفهوم القيد وتعدّد صيغ الخطاب، قدرتها على مواجهة ضروب الاستبداد والقهر، والتمرّد على المواضعات، بصيغ مباشرة أحيانا ومتلفعة بحيل السّرد والمكر الرّوائي أخرى ( )».
إصدارات تبرز من خلالها مقاومة الرّوائي التونسي للسلطة القامعة إذ يكشف الواقع ويدينه، بأدواته الخاصة، فيعلن بذلك موقفه وثورته التي لا يكون مبدعا بدونها.
كما يمكن النظر في العدد الهام الأخير لمجلة قصص (166)
أخيرا، متى يتخلّص المثقّف التونسي من أزمته العميقة أو من نكبته الراهنة ؟
* أديبة من تونس
( موقع دروب )