*عثمان حسن
يعود الفضل إلى تطور القصة الحديثة في العالم إلى أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر، هذا القرن الذي تطورت فيه كل أشكال الفنون، وبرزت فيه بشكل واضح ملامح صراع الإنسان مع السياسة والدين، وهو القرن الذي مهد لانتشار الصحافة والذي انتشر فيه الفن القصصي على نحو لم يسبق له مثيل .
إن دخول القصة معترك السياسة في أوروبا أعطاها، بحسب النقاد، حيوية كبيرة، وأصبح فن القصة مرتبطاً بالصراع الاجتماعي، وعاكساً لشكوى الناس وتمردهم ضد الظلم كما أصبح لسان حال الفقراء والمهمشين والبسطاء الذي يصور قسوة الحياة وغلظتها، وأبرز الأسماء العالمية التي ظهرت في هذا القرن: موباسان، تشيخوف، إدغار آلان بو، غوغول، أوسكار وايلد، دوديه وهوفمان وغيرهم .
يؤكد هذه المقولة النافد المصري عبدالمنعم تليمة وهو يقول “إن القصة القصيرة بشكلها الحديث الذي وصلت إليه، هي نتاج أوروبي بلا مراء” .
هرمان ملفيل (1819 -1891) وهو صاحب رواية “موبي ديك” المعروفة الملحمية التي تحكي قصة صياد الحيتان بيكود وقبطانها المتسلط “أهاب”، هي رواية واقعية عبارة عن سلسلة من التأملات حول الوضع الإنساني واصطياد الحيتان، هي قصة فلسفية وواقعية رمزية، أما الصياد “أهاب” فيجسد الصيغة المأساوية للفردانية الأمريكية الديمقراطية، وقد اعتبرت القصة الطويلة ملحمة طبيعية تصور النفس البشرية في طبيعتها البدائية من خلال أسطورة الصيد وما فيها من رمز لجزيرة عدن كمعالجة ايجابية لما قبل التكنولوجيا لدى الشعوب .
إدغار الان بو (1809 -1849) هو مثل ملفيل ذو نظرة ميتافيزيقية قاتمة ممزوجة بعناصر من الواقعية والمحاكاة والسخرية، مهدت قصصه لروايات الخيال العلمي والرعب، في كتاباته نوع من الغرابة كما في قصائده، وقد تطرق لموضوعات الحياة في الموت، خاصة موضوع دفن الأحياء .
في هذا السياق لا يمكن غض الطرف عن المدرسة الواقعية في الأدب 1860 -1914 الذي يعتبر مارك توين وهو الاسم الشهير لصامويل كليمنس 1835 -1910 أحد روادها بشهادة كاتب كبير هو حائز نوبل ارنست همنغواي، أصدر توين رائعته “هاكلبري فن” التي وصفت بأنها قصة الموت والولادة ورغم كونها تنتمي للجنس الروائي فإن تماهيها في كثير من النماذج القصصية الأمريكية كان واضحاً لا سيما في مسألة الحدود الفاصلة بين الواقع والوهم وهو الذي يمكن تلمسه في أعمال ستيفت كرين 1871 -1900 الذي استقى موضوعات قصصه من الحارات الشعبية وميدان المعارك، كما هو حال “الزورق المفتوح” و “الفندق الأزرق” و “العروس تأتي إلى السماء الصفراء” .
ثمة من يشير إلى تأثيرات أشد للواقعية الأدبية في النثر الأمريكي أكثر من الواقعية الأوروبية، وهي التي برزت بين 1914 -،1945 وهي فترة الحربين العالميتين، كما هي أعمال وقصص “همنغواي” الذي كتب عن الحرب والصيد والملاحقات بأسلوب سهل وسلس، وإذا ما درسنا أعمال و”يليام فولكنر” و”سكوت فيتزجيرالد” فيمكن تصنيفها في هذا الإطار، رغم أن ما قدماه ينتمي للجنس الروائي أكثر من انتمائه إلى القصة .
ريتشارد رايت 1908-1960 هو كاتب أمريكي زنجي، له مجموعة قصص قصيرة بعنوان “أولاد العم توم” في 1938 وله روايات مثل “الابن الأصيل” في ،1940 وفي مجمل أعماله كان رايت كاتباً واقعياً استلهم معظم أعماله من فكرة التمييز العنصري .
كانت فترة الخمسينات التي توصف بأنها فترة العصرنة ودخول التكنولوجيا إلى الحياة اليومية وولادة طبقة غنية مترفة على حساب طبقات مهمشة ترزح تحت الضغوط القاهرة، من المراحل التي اكتسبت فيها القصة العالمية زخماً كبيراً لجهة انتصارها للإنسان وطموحاته في مقابل نفيه وتحطيمه ومصادرة حقوقه، ويمكن تلمس هذا الأثر الإنساني في العديد من نماذج القصة العالمية . وأصبحت مثل هذه الموضوعات من الميزات التي تأخذها لجنة جائزة نوبل في الاعتبار، وكان معظم الكتّاب الذين حصلوا على هذه الجائزة حرقوا الفاصل بين الواقع والخيال، لينتجوا أدباً على تماس مع العذابات الإنسانية جراء الظلم والاضهاد و الحروب والسياسات الفاشلة والجوع والمرض وخلاف ذلك .
لقد صور هؤلاء الكتّاب حال الفوضى التي تبشر بتحطيم الإنسان عبر كثير من النماذج المدهشة في القص وأساليبه باستخدام تقنيات مختلفة من السرد الفني، وبقراءة متفحصة لكل من: الصيني مو يان، والكندية أليس مونرو، والفرنسي لوكليزو، و الألمانية هيرتا مولر، وغيرهم الكثير نجد تشابهاً كبيراً في الموضوعات المطروحة .
“مو يان” الذي قالت عنه لجنة نوبل في 2012 “يدمج الهلوسة الواقعية بالحكايات الشعبية، والتاريخ والمعاصرة”، هو من الكتّاب الذين يرسمون صورة حية عن تجاربه حينما كان شاباّ وعن الحياة في مقاطعته، وظهر ذلك واضحاّ في “الذرة الرفيعة الحمراء” التي صدرت بالإنكليزية عام 1993 وتتكون الرواية من خمس قصص تكشف عن عقود من القرن العشرين أثناء الاحتلال الياباني للصين، صوّر فيها ثقافة اللصوص وثقافة المحتل الياباني والظروف القاسية التي كان يعانيها الفقراء والعمال والفلاحون في تلك الأرياف . . كتب “مويان” عدداً من القصص التي تتشابه موضوعاتها في رصد بيئات وأقاليم تعيش ألواناً مختلفة من القهر السياسي والاجتماعي .
قارن النقاد بين “مو يان” والتعقيدات في كتابات و”ليم فوكنر”، وغابريل غارسيا ماركيز، وقد استفاد “مويان” من الأدب الصيني القديم والأدب الشفاهي .
في 2013 منحت أكاديمية نوبل جائزتها للكندية التي تكتب بالإنجليزية “آليس مونرو”، ووصفت بأنها سيدة فن الاقصوصة الأدبي المعاصر . . كما اشتهرت بكونها كاتبة أقاصيص راسخة في الحياة الريفية، وهذا دفع لمقارنتها بالروسي تشيخوف . قالت الاكاديمية السويدية “إن مونرو تتميز بمهارة في صياغة الاقصوصة التي تطعمها بأسلوب واضح وواقعية، وقصصها تدور في مدن صغيرة يناضل فيها الناس من أجل حياة كريمة” .
في السياق ذاته يمكن توصيف أعمال الألمانية “هيرتا مولر” نوبل 2009 التي استوحت أعمالها من خلال حياتها في ظل دكتاتورية نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا .
وقالت لجنة نوبل ان مولر كاتبة “عكست حياة المحرومين بتركيز الشعر وصراحة النثر، ولدت “مولر” في منطقة تتحدث اللغة الألمانية في رومانيا، وفرت من ذلك البلد، وعكست كتاباتها الحياة اليومية الكئيبة في ظل نظام قمعي ومعاملة قاسية للرومانيين الألمان . كما شكل الفساد وعدم التسامح والاضطهاد أفكاراً رئيسية في كتاباتها .
منح “غوستاف لو كليزيو” جائزة نوبل للآداب في ،2008 كونه كان كاتباً ضد المألوف والسائد من النتاج الأدبي الفرنسي، وهو الذي خلق أجواء فريدة في قلب أعماله الروائية، التي انفتحت على سائر الأنواع الأدبية من شعر وقصة ومذكرات وحكمة . وجاء في افتتاحية صحيفة “لوموند” مؤخراً تعليقاً على فوز جان ماري جوستاف لوكليزيو بجائزة نوبل: “إن حياة وأدب لوكليزيو الباحث دوماً عن عالم خارج إطار المدينة الرأسمالية الأوروبية هو إدانة لهذه المدينة وإشارة واضحة إلى أن اختيار هذا الكاتب هو رسالة للنظام الغربي لأن “لوكليزيو” هو نقيض هذا النظام، وبمنح الجائزة إلى لوكليزيو، تكون الأكاديمية السويدية كرّمت واحداً من أكبر أسماء الأدب الفرنسي المعاصر وصاحب نتاج غزير اشتمل على القصص والروايات والأبحاث والترجمات “الميثولوجيا الهندية”، وكل هذه الأعمال إنما تشير إلى نقدها للغرب المادي مع التركيز بشكل خاص على الضعفاء والمهمشين” .
_________
* الخليج الثقافية