رجاء عالم:”أكتب بحرية مثلما أطير في الحلم”


حوار: روت رايف/ ترجمة: سمير جريس

رجاء عالم، المنحدرة من مكة في شبه الجزيرة العربية، صوت بارز على الساحة الأدبية العربية. وتتميز رواياتها بوشائجها العديدة مع الموروثات الشفهية. في حوارها مع روت رايف، تقول رجاء عالم: “أكتب بحرية مثلما أطير في الحلم”.

أستاذة رجاء عالم، لقد كتبت نحو عشر روايات، إضافة إلى مسرحيات وقصص قصيرة ومقالات. وحصلت أعمالك على جوائز عديدة. لماذا لم يتعرف قراء اللغة الألمانية عليك إلا الآن عبر رواية “طوق الحمام”؟
لكل شيء وقت. لا بد أن يكون للناشرين ثقة في الكتب التي يقدمونها لجمهورهم من القراء. هناك أحكام مسبقة وكليشيهات ملتصقة بالأدب العربي. داخل هذه الصورة النمطية يشعر الناشرون بأنهم في أمان. لكنهم يتجنبون الكتب التي تخرج عن هذا الإطار. رواياتي تضرب بجذورها العميقة في مدينة مكة، مسقط رأسي، هذا العالم الذي لم يُستكشف بعد. إنني أنهل من أساطير المدينة ومن تاريخها وفلسفتها، وأفعل ذلك بلغة تفرض على القارئ أن يفك شفرتها وكأنها نصوص صوفية. هذه اللغة تكاد تستحيل ترجمتها. أنا في حاجة، إذن، إلى ناشر يحب المغامرة، ومترجم واسع الإطلاع يستطيع نقل عوالمي وأسلوبي إلى الجمهور الألماني.
مكة هي مدينة الإسلام المقدسة، المدينة التي يجب على كل مسلم أن يزورها مرة في حياته. عندما ينشأ المرء في مدينة كهذه، هل يشعر بهذه الطاقة الروحية؟ وهل تدفعه هذه الطاقة الروحية للكتابة؟
رجاء عالم:في مكة كنت أرى الناس يحجون من مكان مقدس إلى آخر. هذه الطاقة الروحية تطلق العنان لخيالي. إنني أكتب لأستكشفها، وأتعرف على حدودها القصوى، ولكي أسيل معها. رواياتي هي توسيع لذاتي، وعبرها أصل إلى عوالم عتيقة للغاية، ومستقبلية في الوقت نفسه. إنني أشعر ببهجة في التغلب على العوائق واجتياز الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الممكن والمستحيل، والحياة والموت. مع كل كتاب من كتبي أطوّر نفسي، وأمكّن القارئ أيضاً من أن يطور ذاته، مثلما حدث لي وأنا مراهقة خلال قراءتي لرواية “سيدارتا” لهرمان هيسه. آنذاك تأثرت بالتشابه بين نهره والنهر المذكور في قرآننا.

روايتك تمتد ما بين الحزن على اختفاء المعمار العتيق لمكة وما بين “صور لمكة في المستقبل” بناطحات السحاب الضخمة والكعبة المبنية من الصلب. هل هذا البورتريه لمكة صورة للمجتمع السعودي؟
حين بدأت الكتابة في “طوق الحمام” ألقيت نظرة إلى الوراء. وعندما انتهيت من الكتاب وجدت نفسي في طور فكري آخر. ليس السعوديون فحسب هم الذين يتحركون في اتجاه ما يمكن أن نسميه واقعاً افتراضياً، بل الناس في العالم كله. الحقيقة نفسها تفقد تأثيرها السابق، ولا نعود عندئذ مقيدين داخل طرق فكرنا وأنماط حياتنا، بل إننا نتحول إلى كائنات كونية افتراضية، وشيئاً فشيئاً تترسخ أقدامنا في المجال الافتراضي، حيث يُنظر إلى المنشأ والتراث الثقافي باعتبارهما مجالاً فنياً يتقاسمه الكل، ويتزين به الجميع – مثل متحف يستطيع المرء أن يتجول فيه بكل خفة، وليس كخنادق يتقاتل الناس من ورائها.
عندما يدور الحديث في الغرب عن الدول الإسلامية يقفز إلى الصدارة موضوع حقوق المرأة. في روايتك ترسمين شخصيات نسائية واثقات للغاية بأنفسهن وقويات…
الحرية لا توهب أبداً، بل على المرء أن يستحقها. كنت دائماً أحمل معي فكرة الكتابة عن جداتي وعماتي وخالاتي. إنهن مثلي الأعلى المعاصر اللائي لعبن دوراً بارزاً في تطور البلاد، نساء لهن مكانة عالية يعشن مع جاراتهن من النساء المقموعات؛ مثلما هو الوضع في كل مكان، حيث ينجح الرجال والنساء في التوصل إلى مساواة، أو حيثما تمنع القوانين المجتمعية ذلك. هذا الصراع هو الحياة. حيثما وجدت باباً مغلقاً فإنني أندفع ببساطة إلى الأمام. ودائماً أمارس ضغطاً.
يندرج في هذا الإطار أيضاً موضوع الحجاب. الباحثة في علم الثقافات كريستينه فون براون ترى أن تعرية الجسد الأنثوي الغربي في الفضاء العام ليس له علاقة بالتحرر. هل ننظر إلى صورة النساء في الغرب نظرة مثالية إلى الحد الذي لا يجعلنا نقبل صورة أخرى؟
عندما كنت مراهقة وقبل أن أقوم برحلات، كنت أرتدي العباءة في شوارع مكة، وكنت أغطي وجهي بالطرحة الشفافة المصنوعة من الحرير، حسبما تفرض العادات. الفتيات المهذبات لا يظهرن وجههن أبداً، ولا يكتفين بحجاب قد يظهر ملامح الوجه. كنت أرتدي أربعة أحجبة كما هو شائع في طبقة عائلتي الاجتماعية، وكنت فخورة بذلك. تحت هذه الأحجبة كان هناك رأس تصطرع فيه الأفكار الثورية: كانط وهيغل وهايدغر ونيتشه وسبينوزا وسارتر وأينشتاين وأرسطو ودستويفسكي وفيكتور هيغو و د. هـ. لورنس وتولستوي، وياسوناري كواباتا بعوالمه اليابانية. فماذا تعني العباءة في مثل هذا المحيط؟
بعد ذلك بسنوات قليلة لم أعد أغطي وجهي مطلقاً. لست مؤيدة أو معارضة للحجاب. كل ما أفعله هو طرح الأسئلة، وليس عدم الوقوف أمام ظواهر الأشياء، بل النفاذ إلى روح الأحداث وحقائقها، أي إلى الإنجازات الحقيقية لنساء بلادي اللاتي يعملن في مشروعات خيرية أو مؤسسات تعليمية أو يعملن كراعيات ومشجعات للفنون. ما هي الأهمية التي تكتسبها الملابس بالنسبة لسلوكنا وأفعالنا؟
كيف بدا المشهد الأدبي السعودية حين بدأت الكتابة؟ مَن كان قدوتك؟
رجاء عالم:النماذج التي كنت أرنو إليها كانت من الخارطة العالمية الكبيرة، من الفن والأدب. لقد تأثرت للغاية بالكتب العربية، مثلاً أعمال الصوفيين الكبار مثل النفري والرومي وابن عربي والسهراوردي، وكذلك الحلاج الذي أُعدم لتخطيه كافة الحدود. ولقد تشكل أسلوبي، من دون قصد، من خلال كتب مثل “كتاب الحيوان” للجاحظ أو موسوعة “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” لأبي عبد الله بن زكريا القزويني.
كان ذلك خيالا علمياً (ساينس فيكشن) قبل أن يوجد شيء كهذا في الغرب. الكتاب بالنسبة لي كينونة متخيلة يموج كالمحيط، وفيه يمكن أن أتوه وأفقد نفسي. الروايات في السعودية حقل بكر، فالجزيرة العربية كانت أمة من الشعراء. كان الشعر هو سجل تاريخنا. متأخراً جداً نشأ جيل أصبح مهووساً بكتابة الرواية. وهكذا تحول معظم الشعراء إلى روائيين.
إذا غضضنا البصر عن رواية رجاء الصانع “بنات الرياض” فلا نجد في المنطقة الألمانية إلا القليل من الأدب السعودي. في رأيك، أية أهمية تكتسب الأعمال الروائية السعودية المعاصرة في الأدب العربي؟
الكتب التي تصدر في دول مثل السعودية ودول الخليج الأخرى أو شمال إفريقيا تعتبر أدباً هامشياً في المنطقة العربية. الأدب المركزي، هكذا يعتقد الناس، يجيء من دول مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان. ولكن منذ التسعينيات ظهر كُتاب من الخليج وشمال إفريقيا تركوا بصمات واضحة على الأدب العربي. النقاد في العالم العربي يعتبرون كتاباتي شيئاً متفرداً.

هل هناك موضوعات تغلب على الأدب السعودي المعاصر؟
تتناول الروايات السعودية عموماً موضوع التعبير عن الفردية. الكتاب يرسمون شخصيات حرة تتحمل طواعية المسؤولية الكاملة عن أفعالها، وهي في تصرفاتها تمثل نفسها لا المجتمع. هذه الشخصيات تجتاز الحدود وتكون مستعدة لأن تدفع ثمن ذلك. في السنوات الأخيرة شهدت الساحة الأدبية بعض الهدوء، وبدأت تتكون ملامحها شيئاً فشيئاً. الأدباء يوقظون روح وطنهم، ويبثون الحياة في سكانه الرائعين.
كيف هو حال الرقابة في السعودية؟ إننا نسمع بين الحين والآخر عن اعتقال كتاب، ومن ناحية أخرى فقد أوضحت في أحد الحوارات أن المجتمع يعترف بك كمثقفة…
لم يتم استجوابي أبداً بسبب أعمالي الإبداعية، التي هي حقاً مثيرة للجدل والتي تضع كل شيء موضع تساؤل وتعبر عن مشاعر حسيّة عميقة. ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك رقابة. غير أن الحدود واسعة. بالطبع ليس مسموحاً للكاتب بأن يهين الدين أو قيم الناس. ولكنني لا أولي الرقابة اهتماماً حين أشرع في الكتابة.
لحظة الكتابة لحظة خاصة للغاية، لحظة مقدسة. إنني أكون عندئذ في مكان لا يهمني فيه ما هو مسموح وما هو ممنوع. في تلك اللحظة الإبداعية لا وجود للرقابة بالنسبة لي. إنني أكتب بحرية، مثلما أطير في الحلم.
هل ستترجَم روايات أخرى لك إلى الألمانية؟
رجاء عالم:هذا حلم بلا حدود. بعض أعمالي السابقة تُرجمت إلى لغات أخرى، وغيرتني ككاتبة وإنسانة. والآن سأرى كيف سيكون رد فعل قراء اللغة الألمانية تجاه روايتي، وكيف سيقومون باكتشاف عوالمي. لدي آمال عريضة. ورُبَّ كتاب واحد يكفي، بل جملة واحدة تكفي، لإنشاء أعمق الروابط.
_________
*D.W

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *