ربيع المكتبة وخريفها


*إبراهيم صموئيل

ليس غياب الكاتب فقط ما يخلف الحزن لدى أسرته وأحبائه، وإنما أيضا مآل كتبه الكثيرة التي تشغل غرفة من البيت والعديد من زواياه وأركانه، فضلا عن الصحف والمجلات والنشرات والوثائق والرسائل، بحيث يجد أفراد الأسرة أنفسَهم في حيرة وارتباك إزاء سؤال يواجههم: ما عسانا نفعل بذلك كله؟!

كثرة أعداد الكتب، والمساحات التي تشغلها, والتخصص في موضوعاتها، تجعلها ضيفا ثقيل الظل، عبئا لا طاقة لأفراد الأسرة على تحمله، خصوصا عندما لا يكونون من محبي القراءة والشغوفين بها.
وحتى لو كان لدى أحدهم بعض الميل، فإن ميله هذا لا يكفي لأن يحتفظ بعددها الهائل الذي تراكم وتزاحم على نحو أربك الكاتب نفسه يوما، وأثار ضيقه بها، وجعله ينوي, في العديد من المرات, القيام بـ “تقليمها” وفرز غثها من سمينها، والتخفيف من تضخمها ككرة الثلج!
لكنه يرحل دون أن يقدم على ذلك! وهو لا يفعل لأن كل ما في مكتبته عزيز عليه. كتبه رأس ثروته وتاجها. دفء روحه في ساعات خلوته. صومعته حين يضيق بالناس، والعلاقات العامة، ويضيق بنفسه أيضا. معتكفه الذي تتجمع فيه مفردات حقله، وفضاءات عوالمه، وحواراته مع النصوص المتباينة والمتنوعة.
لم تجتمع للكاتب كل هذه النصوص مما اقتناه من مكتبات بلده فحسب، بينها أعمال لأصدقاء حميمين حمّلوا صفحاتها الأولى كلمات إهداءاتهم المعبرة، والمرمزة أحيانا! فيها ما خطته صديقات، أو حبيبات, بُحن يوما بأعمق ما لديهن وأكثره دفئا إزاء الكاتب.
فيها، ربما، إهداء من أبيه يعتذر له على توبيخه إياه ذات يوم حين كان فتى يافعا مهملا لواجباته المدرسية لصالح قراءة الأدب، بل بينها ما بذل الكاتب الكثير من الجهد والمراسلات والاتصالات للحصول على نسخة من بلدان أخرى، ثم حرص عليها حرصه على أعز ما يملك.
أأضيف إلى ما سبق تعليقاته الساخنة، والصريحة، التي كتبها على هوامش ما قرأ من أعمال، وإشارات الاستفهام والتعجب التي أضافها إلى النصوص المتعددة، والخطوط التي سطرها تحت الجمل وحول الفقرات للتأكيد على إعجابه بها أو نفوره منها, على حدّ سواء؟ أأقول بأن تعليقات الكاتب وهوامشه على أعمال الآخرين هي مؤلَفه الأثير والمترجِم الأفصح عن رأيه ورؤيته، وإن يكن من دون طباعة وتوزيع؟
لنا أن نتخيل المرات العديدة التي استاء خلالها الكاتب وغضب جراء فقدانه كتابا من مكتبته، أو أوراقا قديمة ومسودات يحتفظ بها، أو مجلة أو صحيفة, فكان يعاود تحذيراته المشددة لأفراد أسرته في ألا يلمس أحد كتبه دون إعلامه واستئذانه على نحو مسبق، حتى أننا نرى بعض الكتاب يخصصون دفترا لتسجيل الكتب المعارة ضمانا لعودتها إلى مطارحها الدافئة على رفوف مكتبته.
وإذا كانت المكتبة ومحتوياتها تشكل ظل المبدع الملازم له خلال رحلته الأدبية والفنية والفكرية، فإن الحال هذه لا تنتقل بالضرورة إلى زوجته وأبنائه. سينشأ موقف آخر لدى الأسرة من المكتبة وملحقاتها الكثيرة، إذ غالبا ما سيُنظر إليها باعتبارها شيئا من جملة أشيائه، غرضا خاصا به مثل ثيابه وحاجاته التي لا بد من إيجاد حل لوجودها وقد بات عبئا ثقيلا!
العديد من التحقيقات الصحفية التي تناولت ظاهرة “بسطات الكتب المستعملة” على أرصفة المدن، أكدت أن بعضها لكتّاب معروفين، سواء من أسمائهم المدوّنة، أو الإهداءات الموجهة إليهم. تكون الكتب ثمينة أحيانا، وبعضها يكون نادرا، أو مخطوطا باليد، وصفحات بعضها مرممة بشريط لاصق أو مستكملة الكلمات التي غيّبها التلف مما يدل على اهتمام صاحبها بها.
رغم ذلك، قد لا يكون من غضاضة في الأمر، إذ لا بد لمن يشتريها أن يكون قارئا مهتما (من يشتري كتبا في أيامنا غير المهتمين؟!) وبذا تنتقل من قارئ إلى قارئ، فما الضير من بيع مكتبة الكاتب؟
لا ضير، وإن يكن البعض -كما جاء في استطلاعات للرأي- يفضل أن توهب إلى مكتبة مركزية عامة، أو توزع على أصدقاء الراحل من الكتّاب والفنانين، بدلا من أن يتم بيعها ومن ثم عرضها على أرصفة الشوارع.
أيا كان، فشاغل المقال هنا ليس الإجابة العملية عن الجهة الأفضل لترحيل مكتبة الكاتب إليها، وإنما وقفة تأملية في مآل العديد من مكتبات الفنانين والكتّاب والموسيقيين، وكذا في مآل مسوداتهم التي حرصوا على العناية والاحتفاظ بها ليوم يقوم فيه دارسون بالعودة إليها، وتحليلها، واستخلاص عوالم المبدع وحيثيات مسيرته، وثقافته، واهتماماته، مما لم يظهر في أعماله المطبوعة.
وقفة تتساءل عما إذا ما أفاد الدارسون حقا من مكتبات المبدعين العرب الكبار بعد رحيلهم، ومن تعليقاتهم المتنوعة على هوامش الكتب المقروءة, ومن مسوّدات أعمالهم التي احتفظوا بها؟ وأيضا عما إذا تكرست في حياتنا الثقافية العربية تقاليد من هذا النوع؟ أم أن ذلك كله مجرد أحلام وآمال تراود المبدعين خلال حيواتهم وعطائهم, في حين يأتي الواقع النقدي العملي مخيبا لها, ومقصرا في القيام بها؟
_____
*قاص وكاتب سوري/الجزيرة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *