*حوار: عناية جابر
الشاعرة اللبنانية لوركا سبيتي تحلم بوطن ساسته شعراء، يعتنون بالحدائق والأرصفة والعصافير. مع لوركا، وعن علاقتها بالشعر والكتابة للأطفال والإعلام، كان هذا الحوار:
*كيف تصفين علاقتك بالشعر؟
^ تضيق الأمكنة ولو اتسعت على من لا يجد مشهداً يركن فيه خياله. أن اكتب يعني ان اوجد، ان أوجد يعني ان أشعر، ان اشعر يعني ان ابوح. تلك هي المعادلة وإن كانت اللعبة «قمار». الكتابة بالنسبة إلي مسألة هوية، بصمتي، ضحكتي، خطوتي، وكل ما أجيد. في وطن يصعب فيه على الفرد أن يجد نفسه خارج القطيع وإن وجدها ان يثق بها ويشعر معها بالأمان، فالمشهد عبارة عن جماعات غفيرة صابرة على ما لا جلد لها عليه، وجاهلة ما تعرفه، ومكررة أخطاء الماضي، وتابعة لزعيم القبيلة. في وطن يماهينا بتفاصيله وأوجاعه وحروبه، الشعر هو الحل، يطرّي قسوة هذا العالم الجاف، ويحنو عليه وعلينا.
*هل للشاعر مصطفى سبيتي، والدك، بصمة في شعرك؟ هل هو سبب في شعريتك؟
^ طبعاً، لم يكن من السهل ألاّ أكون شاعرة، وكان صعباً ان أكون، وفي الحالتين صرت. أبي الذي كان يصدر حضوره الكثير من الصخب، فتروح وتجيء الكلمات كهواء يملأ الغرفة، كقرقعة صحون منظمة، كفكرة تمرّ ولا نعي مرورها، او كماء نحتاج إليه ولا يقلقنا احتياجنا إليه، ينطق أحرفا كيفما تصادمت تبني بيت شعر، بأصوات مهما تعالت أو انخفضت فهي حتماً قصيدة ما، لشاعر ما، أو له.
الحب يموت
* تميلين إلى الغنائية، وتقولين المسائل كما تشعرين بها، هل هذا نتيجة مزاج شعري، ما الذي يكتّبك؟
^ ربما هذه غنائية القصيدة العمودية التي تربى عليها سمعي، وربما لأن اللغة العربية المتبرّجة والمزينة كعروس، طنّانة ورنّانة بذاتها. ولكن على مساحة النص الذي أكتبه ينجدل الوعي باللاوعي، والمتوقع بالحقيقي ليولّد الفكرة الآتية من الكائنات التي تسكن سقف الغرفة، من العظام التي هي تراب آخر، من الأسماك التي لا تصلح أحوال البحر، والحذاء الذي لم يصنع للخطوات العابرة، فكرة لا تؤمن بالحدود الفاصلة بين الخير والشر، بين البرّية والحديقة، فالألوان جميعها موجودة في اللون الواحد.
حين لا استطيع إكمال كتاب أقرأه ليس لأنني مللت بل لأن دهشة متواصلة اصابتني، حين أخفض صوت التلفاز حتى الصفر، أرفع رأسي نحو السقف وأبتسم كأني أمام مرآة، حين تنكسر المزهرية الزجاجية التي اعتدت ان اراها من على الكنبة ولا آبه، حين يسلّيني فتات الخبز، تفل القهوة، مائدة البارحة، حين يخدّرني الحزن فلا أدمع أمام مشاهد القتل، حين القبلة لا تعود طازجة، ايقن انه حان وقت الكتابة.
في وصفك للحب وللآخر تبدين شديدة القسوة، لماذا؟
^ أقول في الحب: «يموت الحب كما تموت كل الأشياء البخيلة وكل الأشياء الفارغة، ولكن الفرق انه لا يصير جيفة برائحة بشعة بل سماداً يتكئ عليه حب سيأتي بعد حين». الحياة هي بداية الموت، وهو امتداد لها. وكل شيء يموت ليولد من جديد مثل الخلايا في جسدنا، فالعلاقات والخطوات والصداقات وما نؤمن به أوهام اخترعناها كي لا نشعر بأننا وحيدون.
أصدق بأن فكرة وجود الآخر هي من اختراعنا، انكسار الضوء على العين، وانعكاس حدقة العين على المرآة، امتداداً حتى زجاج القلب، ومع كل نبضة تحدث الانكسارات، فتتشظى صور الآخرين وتنتشر فينا، في الدم ومنه إلى كل الأعضاء.. فهذه يده، وتلك قدمها، وهذا بطنه وتلك كفها.. وهذا قلبه وتلك عيناها.. نحن الآخرون بكامل حللهم.. نحن هم معدّلون لحكمة في الخلق.. صور مكسورة تعود لتتشكل من جديد مع نبضة أخرى صوراً أخرى.. فكرة الآخرين هذه تساعدنا على قطع الطريق بأمان، وعلى تسديد ديوننا بالتقسيط، وعلى أخذ دوائنا بجرعات. وكذا الله نقتله فينا حين نمارس شرنا ثم نعود ونحييه من جديد حين نكون خيرين، ومن دون ان نتقبل هذه الحقيقة لن نستسيغ طعم الحياة.
«السفير» في عيدها الأربعين، ما حلمك للشعر بعد أربعين عاماً؟
^ وطن ساسته شعراء، يعتنون بالحدائق والأرصفة والعصافير، وبكفوفهم الكادحة المرهقة يكنّسون الطرقات، ويرمون الزبالة ويلونون الحيطان، يعرقون تعباً يأكلون فتاتاً. يعانقون الشحّاذين، يلعبون مع الأطفال، ولا ينطقون إلا الحب، والغني هو الأكثر شاعرية. وطن دستوره يبدأ بكلمة «حب» وينتهي بكلمة «حرية».
أنسنة الأشياء
*لماذا انتقلت إلى قصص الأطفال؟
^ كتابتي لقصص الأطفال (آدم رسام الغابة، آدم والنعامة، اسمي جنين) أتى نتيجة غياب ابني «آدم» عني، او بالأحرى تغييبه، وقد كتبت حينها الكثير من النصوص والقصائد لأخفف من قسوة التجربة، ولأن البوح لم يعد يكفي، ولأن شعوراً بالذنب سكنني، جاء إهداء هذه القصص الى آدم، بطلها، ومنه الى كل أطفال العالم الذين يعيشون بعيدين عن أمهاتهم. كتابة قصص الأطفال تشبه كتابة الشعر كثيرا، ففي العالمين تؤنسن الأشياء، والكل يشعر ويتكلم، الطاولة والحائط والوردة والنعامة والأسد والأظافر.
بعد «ليس سوى الأرق» مجموعتك الشعرية الأخيرة، هل تحضّرين لمجموعة شعرية جديدة؟
^ كتبت الكثير من القصائد بعد المجموعة الأخيرة، وأهدرتها، ذبحتها ولم أكترث لدمي المتدفق منها، هو الشعور باللاجدوى الذي ينتابني من حين لآخر، لاجدوى الكتابة والضحك والتذكر والاستيقاظ والإنجاب والانتظار وحتى العيش، أمام هول القتل المجاني الذي يحيطنا، كأن القتلى لا أسماء لهم ولا أحباء ينتظرونهم ولا بيت له سقف وسرير وموقد، كأن الموت أصبح لعبة ممتعة، ستنقضّ على من يبادلها النظرات، كأن البشر اكتشفوا السرّ فتساوى عندهم الوجود بالغياب. لكن يظل الشعر ضرورياً ليوثق المشاهد والزمن والمشاعر. مجموعتي الشعرية الرابعة جاهزة للطبع، لكني أتريث قليلا وأتأمل وأراقب وبعدها سأقرر وقت الإصدار.
*تعدّين وتقدمين برنامج «صوت الشعب» عبر إذاعة صوت الشعب، أخبرينا عنه، ولماذا لا تحولينه إلى برنامج تلفزيوني ليتابعه عدد أكبر من الناس؟
^ هو برنامج حواري إنساني وجداني حرّ، حاورت عبره شخصيات مرموقة في مجالها ومن ميادين متعددة،، ألقي الضوء على سيرة الضيف الذاتية وعلى تجربته الممتدة منذ الطفولة حتى اللحظة، وعلى مفاهيمه الوجودية والحياتية، مرورا بكل التفاصيل التي عاشها، الانتصارات والانكسارات والإدمانات والخيانات. وقد حاولت تجسيد الفكرة تلفزيونياً ولكن كل الأسف على زمن صار العري والسخف والهزء والتعصب واللامعنى والشكل دون المضمون تتحكم بقرار السلطة الإعلامية لنيل أعلى نسبة مشاهدة، وبذلك تكون اللعبة التجارية هي المتحكمة بما يقررون بأنه المهم والجيد والضروري. كنت آمل تحسين الذائقة العامة ومساعدتها على تعميق الوعي والمعرفة وإقناعها بأن الحلم ضروري لكنه لا يتحقق خارج كتاب، أو فكرة جميلة او شعور حقيقي.
_______
*السفير