كادت حياة «الأعمى» أن تكون رواية


*حمود بن حمد الشكيلي

إن لفقدان حاسة النظر حالة لا يشعر بها إلا الأعمى ذاته، وأجزم أن الوصول إلى محاكاة تلك الحياة صعب، ويحتاج من الخبرة ما يحتاج، لقد ظل العمى كفقدان للحاسة موضوع اشتغال الأدب في لغات عديدة، لا يمكن إلا أن أذكر العمى لسراماجو كنص حاضر حول تلك الحياة تقريبا، كما لا يمكن إلا أن نتذكر نحن قراء العربية شاعر لغتها الأعمى الكبير أبا العلاء المعري.

في مطالعتي الدائمة لنصوص من الأدب في عمان وجدت الأعمى موضوعا حاضرا في كتابات عديدة لكتّاب عمانيين. تم استلهام حياة الأعمى شعرا ونثرا مع كتّاب أدب في محاولة لتمثل تلك الحياة، ولملامسة القليل القليل مما قد يعتمل في نفس الأعمى تجاه حياته، أو تجاه كيفية رؤية حياة ظلام دامس، كل سنواتها ليال ليلاء.
من هؤلاء أذكر هنا على سبيل المثال الشاعر سيف الرحبي في عمله نشيد الأعمى (حوارية)، والكاتب زهران القاسمي في عمله الشعري الذي حمل أيضا عنوان (الأعمى)، كما أن للقاص بدر الشيدي قصة بعنوان (الأعمى) في مجموعته الصادرة حديثا عن دار فضاءات الأردنية (الصورة مرة أخرى”)، لعل آخرين أيضا ذهبت أقلامهم ناحية حياة المبصرين بالصوت، أو بالعصا. هكذا ظل الأعمى بعصاه أو بدونها دائما موضوعا أثيرا يحرك قلم المبصرين في محاولة لملاحقة رؤيته للحياة.
في تكوينتي هذه أمرُّ على حياة الأعمى من خلال النص الأدبي الطويل الصادر حديثا عن دار سؤال للشاعر إبراهيم سعيد الذي حمل عنوان (الحَمْدِيّ الأعمى الشعري).
عديدة هي الأشياء التي استوقفتني في عمل إبراهيم سعيد الأخير، ورأيتني أحاول الكتابة في موضوعين، هما: أولا إعطاء القارئ فرصة للمشاركة في تجنيس نص (الحمدي الأعمى الشعري)، وثانيا مساءلة بعض الأحداث التي تشكلت منها إحدى شخصيات النص، أو أحداث أخرى تلتقي مع إحدى أشهر حكايات الأفعال التي بدأ بها نزول أول آية من القرآن الكريم، مرورا على الشكل البنائي الذي كوّن النص.
بداية أشير إلى أنه منذ الوهلة الأولى لا يمكن لقارئ غلاف إبراهيم سعيد أن يصنِّف كتابه هذا تحت خانة جنس أدبي، خاصة أن كاتبه، ومن بعده الناشر لم يضعا كلمة تشير إلى الجنس الأدبي، بها يمكن للقارئ ترويض شهية استعداده النفسي، لهكذا عمل قبل ولوج واشتهاء النفس لفعل القراءة.
ما يزيد هذا الإرباك عنوان العمل ذاته (الحمدي الأعمى الشعري)حيث منذ الوهلة الأولى يظهر فيه تمازج بين الصورة التي يولدها العنوان لذهن المتلقي، ففي الكلمة الأولى (الحمدي) إيحاء للشخصية، وهي أساس عناصر أي عمل سردي، وهو أيضا لقب شخصية (حمد) حسب ما في النص.
أما الكلمة الثانية (الأعمى) هي صفة للشخصية الرئيسية في النص (الحمدي)، حتى أوَّل كلمتين في العنوان ينتصر الكاتب للسرد، الغلبة للحكاية، هذا ما يمكن الوصول إليه من أول كلمتين، لكن تلك الغلبة، إعلاء شأن السرد يكسر بكلمة (الشعري).
كلمة الشعري قد تحيل ذهن قارئ ما إلى الشعر، كما لو أن للكلمة رغبة لتأكيد هوية النص، في وجودها مع الصفة ومن قبلها الموصوف سعي إلى أن هوية (الحمدي الأعمى الشعري) الأدبية عصية على التجنيس. يتعمد النص أن يربك قارئه ومتلقيه، وبهذا فإن ما فيه من تداخل بين الجنسين (شعرا ونثرا) يسمح للقارئ أيا كانت ثقافته ومستوى وعيه بجماليات النص الأدبي شعرا ونثرا أن ينحاز لتجنيس النص، حسب ما يرى، وهذا أوّل إرباك يقع فيه قارئ نص (الحمدي الأعمى الشعري) بعد أن يفرغ قارئ ما من قراءته قد تسأله نفسه ما جنس النص الذي أنهيته قبل قليل؟
بهذا لي أن أقول إن معرفة بعض القراء بالنصوص وبتجنيسها (تقريبية) الكلمة الأخيرة لجورج ماي. أظن أن القرّاء، أو بعضهم على أقل تقدير لهم حق في أن يصف الكاتب نصه الأدبي ويجنسه، وهذا ما لا يوفره هذا العمل.
علما أن محتوى النص، كما في فهرس الورقة الأخيرة، يُظْهِرُ تقسيم النص إلى أربعة عناوين تميل إلى غلبة فن السرد على فن الشعر في النص، وإذا ما دقق أحدنا في النص لعله يلاحظ اشتغالا على القديم العربي أحيانا، مثل ما هو الحال في فن المقامة مثلا. أما عن خاتمة النص فإن الشيخ الذي يروي حكاية هذا الأعمى يختم النص بجملة (قال شيخنا..).
إن سند الحكاية هذا لم يظهر إلا في أول النص ومع نهايته، أحسبه جاء هكذا، ليس إلا محاولة لإثبات أنه إيهام بوجود حكاية أعمى منقولة عبر سند متوال حتى وصول المتن في صورته الأخيرة التي قرأنا هذا النص فيها. بينما ليس أمامنا إلا أن نقرأ النص ونقبله على أنه متشكل من راو هو أقرب إلى الكاتب، لكن سلسلة الرواة المنتهية في النص بالشيخ الأعمى الحاكي عن أعمى آخر ليست إلا محاولة في أن يثبت النص وجوده وقيمته، مع أشياء أخرى، لعلي أمر على بعضها.
هكذا إذن تتوالى حكاية الأعمى، مرويّة بالسند من شيخ أعمى، عن أعمى آخر سماه الكاتب الحمدي الأعمى الذي يتلمس حياته المبصرون من القراء.
بهذا نحن أمام سند منقول عبر سلسلة يفترض أنها متوالية، تنتهي بالمتن، وهو النص المروي (للشبيبة). هكذا يجد القارئ نفسه في هذا النص محاصرا بين شخوص هم، شيخ أعمى يروي عن الحمدي، ليصير الأعمى هنا راويا حياته أحيانا، وشبيبة لا يظهرون في أول النص، بينما في نهاية النص، خاتمته تعلمنا أنهم هم قراء هذا النص (بينما الراوي هنا يظهر لنا في سند الحكاية معلنا أن حكايته تدوين سيظل فيها محتفظا بالخطوط العريضة لأصل الحكاية كما تتكرر في الألفيات، محاولا إكمال التفاصيل الصغيرة والفراغات كما كنت تخيلتها عند سماع الحكاية).
أخيرا أفيد حسب رؤيتي أنه كان يمكن لهذا النص أن يكون رواية لأسباب سيعلمها قارئه، لكن كاتبه انتصر للتداخل بين جنسين أدبيين، هما النثر والشعر، رغم أن الرواية قادرة على احتمال النثر والشعر، وحتى المقالة والبحث إن تمت إعادة صياغتها سرديا، أو جاءت كما هي، على أن يكون سياقها في النص فنيا، لي أن أقرب قليلا قائلا لعلي أصيب برأي هذا أن منذ (بدأ يحاور مشاعره ص99) انتصر النص في آخر خمس وستين ورقة من هذا الكتاب للشعر عبر لغة تراهن على المجاز من خلال بروز لغة الاستعارة في إعلائها للتأملات الوجدانية، خاصة بعد أن انتهت حياة الأعمى في (شارع النور) هكذا أراد الكاتب لنصه الممزوج بالسرد في توالد الحكايات، وفي تراتيبيتها، تلك التي جاءت كما لو أنها خيط من الحكاية منثورة في خط مستقيم، كل حكاية تأخذ للأخرى، عبر استبدال الشخصيات المبصرة، تلك التي اختار الكاتب أسماءها بعناية منتصرا في رمزيتها للبصر نورا وشمسا وبدرا وضياء، وضوءا، وهذا ما سآتي عليه في الأسبوع القادم.
________
*صحيفة عُمان

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *