تفاحة الفسيفساء


*لينا أبو بكر

في البدء كانت الأمكنة .

فكل مكان أرخ لبشره وزمنه، لثقافته لأساطيره وحكايته، لأنبيائه وفرسانه، لتكوينه لنهاياته ومآلات فنائه أو بعثه .
وفي البدء، كانت الأمكنة .
والأمكنة آلهة الأرض، فالعمارة الإغريقية القديمة استلهمت طرازها المعماري من أساطير الآلهة، فكانت نقوشها التراثية جداريات مقدسة، وإرثاً دينياً محفوراً على لحم الصخر بعناية ودقة ومهارة، يؤرخ لتاريخ عقائدي ومنظومة تراثية لها روحها الممزوجة بروح سماءاتها .
المعمار الديني عبر العصور اتخذ طابعاً روحياً أضفى على البناء هالة فلسفية سمت بتقنية الحجر، وارتقت بصنعة النقش، ولأن الروحانية هي البعد الأساسي الذي تشكلت عبره تلك الرؤية، كان الاعتماد على المعنى هو الذي يحدد معالم وهيئة وأسلوب المبنى، فالنوافذ في معابد الإغريقيين لم تكن موجودة، لأن الشمس هي النافذة العظمى التي تخترق الأعمدة وتبث أشعتها في كل رواق وكل زاوية، أما ليلاً فكانت الشموع والقناديل والنيران النيئة، وبين الضوء البكر والحجر الطازج وشيج من التصاهر بين المادي والمعنوي، ليعكس تجليات القداسة بالطراز من خلال الإيمان بالمضمون والجوهر .
العمارة إذن فلسفة، تخضع لمنطق ديني بسبل دنيوية، وهو ما ارتكز عليه النهج الإبراهيمي في بناء البيت الحرام، فمنذ حادثة الطواف، إلى حادثة الرجم، إلى الأضحية، كان المكان مغمساً بماء الحكاية منذ كانت هاجر تسعى بين جبلين لتبحث عن ماء يتشقق من رحم الصخور تحت قدمي طفلها، في رحلة سعي استجلبت الخلائق من الطيور والبشر إلى ماء الحجر .
وكذلك الأمر بالنسبة لرحلة الطواف ومرمى الجمر حيث كان إبليس يحاول رد النبي عن أمر ربه، وهو ما يؤكد أن لكل بؤرة مكانية، جذراً أولوهياً، ففي البدء كانت الأمكنة .
هوية العمارة الإسلامية هي التي أثرت بهوية بنائها ومعمارها، وقد امتدت عبر جغرافيات بمناخات مختلفة ومتوزاية، لكنها كانت من المرونة بحيث حافظت على صفاتها في ظل كل تلك المناخات المتناوعة، وربما عكسها الفتح الإسلامي الذي رسخها وساعدت على امتداده، وحين توقف ظلت هي تمضي بالزحف في مناح عدة، وتضاريس زمنية حادة في حركة دورانية عادت بها من تركيا وبعض أنحاء من آسيا بِنَفَسٍ معماري معاصر حافظ على روح التراث، ولكنه أبهر الدنيا والعالم بعصريته، وهو ما يعيد إلى الحضارة الإسلامية رونقها، ويبعثها من جديد ليثبت مقدرتها على معاصرة الحضارة الغربية بكامل حفاظها على هويتها، في الإمارات العربية المتحدة وتحديداً الشارقة، حيث يتجلى النقش على جدارية المكان بطابع إسلامي مطعم بنكهة الماضي وعبق التراث، ولكنه جديد وعابق بالحيوية، متناغم مع المدنية الحديثة، موشوم بالشمس والظل، في لعبة الضوء مع المكانات، ومشاغبة الظلال مع المواقيت الرائقة .
إن التطور المعماري في الشارقة “غرناطة الخليج”، هو تطور أخلاقي، تمسك بكرامة النهج المعماري، لأنه لم يجنح إلى استنساخ عولمي مجرد، بل إنه نشوء حضاري لتجربة بشرية تستلهم بذورها من تاريخها، ولكنها قادرة على تحدي الزمنية بقطبيها: الراهن وكل ما سبقه، بالتالي فإن النشوء مرتبط بالكرامة التي تضيف وتبتكر وتخض دماء المكان إذ تبث في عروقه حيوات مكتشفة . . الكرامة التي تعني الإبداع، ورفض الانصهار أو الذوبان في بنى ثقافية مغايرة . حين يكتشف المكان ذاته، من خلال الأقطاب الزمنية المختلفة، يضيف إلى أجندة الاكتشاف حقائق معرفية جديدة وتجارب إنسانية خلاقة، وبنية ثقافية مؤثرة وفاعلة .
الشارقة عاصمة للثقافة الإسلامية، لأنها المدينة التي تكتشف ذاتها باستيعاب كل الأزمنة والتجارب البشرية التي استطاعت احتواءها بلوحات فسيفسائية لها طابعها الشارقي الخاص بها، الذي ميزته طابوقية التكعيب، وموزاييكية المسامير التي حفرت عميقاً على أديم الجداريات، وتركت بصمة الصناعيين والمهرة على لوحات معمارية تنتمي لحضارتها، وتجعل من الشارقة مدينة جديرة بعاصمة الثقافة الإسلامية لمدى الحياة .
لا شك أن هناك مدناً يتم تكريمها كعاصمة للثقافة الإسلامية كل عام، وهو بروتوكول متبع وعرف ثقافي سنوي، ولكن لابد من الاعتراف بمدينة واحدة تختلف عن كل مدن العالم بخصوصيتها وجدارتها بحمل أمانة الثقافة متجاوزة الأطر الزمنية والعرف البروتوكولي، لأنها تنمو ضمن فلسفة منطقية ومدروسة، تتخلص من حواشي النبت الضار في حقول الرخام، وتزخرف جداريات الهواء والسماء بتراتيل الصحراء .
في البدء كانت الشارقة .
الشارقة .
بيوت كقلاع من السبائك، ومتاحف من طحين الفخار الطازج، وبحر من عقيق الّلازَوْرد، أوتاد خزفية وهندسية، فسيفساء فاكهية، تكعيب زخرفي، وخطوط وزوايا لونية، تلبس الأفق قلادة الشمس السحرية التي تتوهج حيناً وحيناً تشف ولا تصف، تبدل عباءة الأفق منذ الغسق وحتى الشفق، فما أن تنضج تفاحة المغيب، يكتحل القمر بعين البحيرة، وتكتمل ملامح الزمن في بورتريه غاو ولكنه محتشم، صبي يلهو برمالات الفخار النيئة، ولكنه شيخ حكيم طاعن بالزمن، حنون كأم، حاد كقبطان، وادع كزهرة، وشائك كسياج، أنثوي كشجرة تفاح، وذكوري كأب متخف بسيف الملائكة .
في الشارقة، المكان يستجلب العصور إليه، في الوقت ذاته الذي يستطيع به أن يذهب إلى عصور لم تحن بعد، فالشارقة هي المكان الرحالة، والزمن المتجدد، الشارقة ربة المشارق كلها، المدينة البيت، والمدينة اللوحة، والمدينة الجنة، تفاحة الفسيفساء المحرمة على الأبالسة، المصونة بتعويذة الآلهة من وساويس الخراب .
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *