*قيس قاسم
مرة أخرى، تتعزز الثقة بأهمية مهرجان تسالونيكي الوثائقي، وبقدرته على وضع برنامج غني ومتماسك يستوعب أهم الأفلام الوثائقية المنتجة خلال العام، وحرصه الواضح على استحداث ثيمات جديدة والظهور بمستوى جيد، مستوعباً كما يبدو تقاليد مهرجان تسالونيكي العام، وخبراته المتراكمة عبر أكثر من نصف قرن، بالرغم من أنه لم يظهر كرديف له إلا قبل خمسة عشر عاماً، تمكن خلالها من تقليص الهوة الزمنية والسير على نفس الخطى الواثقة من إمكانية إقامة مهرجان سينمائي يحظى باحترام الوسط المختص والجمهور على سواء، ويحظى باعتراف عالمي كواحد من أهم المهرجانات المختصة لصرامة اختياراته وجودة سوقه التجاري.
برنامج الدورة التي بدأت أعمالها في الرابع عشر من آذار/مارس وستنتهي في الثالث والعشرين منه، ضم عدداً جيداً من الأفلام الوثائقية العربية التي ستعطي للمشاهد اليوناني صورة معقولة عما يجري فيها من نشاط سينمائي يعكس بالضرورة مستوى المنتج الوثائقي، إلى جانب أفلام أخرى اتخذت من الشأن العربي موضوعاً كفيلم “كل يوم تمرد” للمخرجين آراش رياحي وآرمان رياحي الذي أدرج ضمن قسم “مَشاهد من العالم” إلى جانب “أغنية يوسف” لليوناني كوستاس بلياكوس الذي يأخذنا معه في رحلة ممتعة إلى عالم مطرب الراب الليبي يوسف الذي أخذ مكانه في الثورة أولاً ثم كسب شهرة أوسع في بقية المنطقة العربية، في ما بعد. يلخص كوستاس فكرة فيلمه بالكلمات التالية: من خلال نظرة يوسف يمكن تلخيص نظرة الكثير من الشباب الليبي إلى المستقبل، بعد نهاية مرحلة حكم القذافي. كاميرا الفيلم لاحقت يوسف في الكثير من الأمكنة التي كان يذهب إليها، وحرصت على تسجيل قسم من أحاديثه عن الحياة اليومية والظروف الاجتماعية والسياسية، التي يجسد تصوراته عنها بمزيج موسيقي مفرداته: الكلمة المعبرة والإيقاع الممتع. كما سيعرض في الخانة نفسها الفيلم الهندي “شموع في الرياح” لكافيتا باهل وناندان ساكسينا، ويحضر معه فيلم المخرج الروسي ألكسندر جنتيليف “ألعاب بوتين” المثير للاهتمام لتزامن موضوعه مع انعقاد دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي وكيف استمر الرئيس بوتين موارد الدولة من أجل تسجيل منجز كبير باسمه الشخصي، وليظهر كرئيس طموح يريد إقران الحدث الرياضي بتاريخه السياسي. أما فيلم “كيسمت” فيتناول ظاهرة المسلسلات التلفزيونية التركية ومقدار تأثيرها على المنطقة وعلى المجتمعات العربية بخاصة المرأة التي وجدت فيها نافذة اطلعت عبرها على عوالم قريبة منها ثقافياً، وفيها تتمتع المرأة بحريات نسبية تطمح هي نفسها لأن تتمتع بها. الفيلم من إخراج نينا ماريا باسكليدو وهو من إنتاج يوناني قبرصي مشترك. أما الفرنسية كلير سيمون فترسم “جغرافية بشرية” من خلال رصدها للحياة اليومية للمسافرين المتواجدين في “محطة الشمال” الباريسية، وتشرك معها صديقها الجزائري سيمون الذي سبق وأن أجرت معه لقاءً قبل ثلاثين عاماً كان وقتها لا يملك أي جواز سفر، لا جزائري ولا فرنسي، لأنه امتنع خلال عودته من باريس إلى الجزائر من أداء الخدمة العسكرية فعاد إلى اغترابه الفرنسي، بعد أن شعر باغتراب حقيقي في بلاده. الفيلم يرصد حيوات بشرية ترسم بذاتها جغرافية إنسانية متنوعة اجتمعت كلها في لحظات عابرة في محطة قطار. الخانة تشمل أربعة عشر فيلماً اختيرت بعناية لتعطي تصوراً واسعاً لحركة العالم وقضاياه ومن هنا جاءت تسميتها “مَشاهد من العالم”.
في خانة “قصص لتروى” هناك أكثر من أربعين فيلماً، تأسست ثيماتها على حكايات وتجارب شخصية بسيطة، وعبرها تمكن صانعوها من سبر غور أعقد المشكلات في عالمنا ومن منطلقها الأسلوبي المبتعد عن تناول القضايا الكبيرة مباشرة واستبدالها بأخرى أصغر توفر لصانع الوثائقي حرية وقدرة على التحكم بمشروعه بما يتوافق مع إمكاناته الإنتاجية. من بين هذه المجموعة فيلم المخرج الكردي السوري مانو خليل “طعم العسل” الذي سبق وأن عرض في دبي، وسيعرض فيلم المخرج الفرنسي أكسيل سالفاتوري ـ سينز “شباب مخيم اليرموك” الذي يرصد حياة مجموعة من فلسطينيّي المخيم في مقتبل أعمارهم، وظل ملازماً لهم خلال عامين (2009 ـ 2011) سجل خلالها بكامرته أدق مشاعرهم وتصوراتهم عن واقعهم اليومي ورغبتهم في عيش حياة أفضل في المستقبل. الثورة الفلسطينية والحرب الأهلية السورية لا تظهر مباشرة، لكنها تأتي عرضاً عبر أحاديثهم التي تتوزع وفق رؤى شخصية متباينة عليها سيعتمد كل واحد منهم في خياراته الحياتية. أما المخرج فريدون نجفي فإنه مضى في تتابع حكاية “الهجرة الأخيرة” للفلاح الإيراني مثلما ظلت السويدية كارين ايكبري تلاحق حكاية السيدة المطلقة بعد زواج دام أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً. فيلم “أن تنفصل” يغور عميقاً في فعل الطلاق وما يتركه من آثاره واضحة على حياة المنفصلين.
اللبناني فيليب عرقتنجي صاحب “بوسطة” و”تحت القصف” يمزج في فيلمه الجديد “ميراث” الروائي بالوثائقي ليسرد جزءًا من سيرته الذاتية والتصاقها بتاريخ عائلته ووطنه لبنان، في حين يرجعنا “رجلنا في طهران” للكندي لاري وينشتين إلى أزمة الرهائن الأمريكان في طهران إبان الثورة الإيرانية واختفائهم في السفارة الكندية التي رتبت بالتعاون مع المخابرات الأمريكية عملية تهريبهم سراً خارج إيران. الوثائقي الإسرائيلي “سجين مدى الحياة” لنوريت كادار ويارون شاني فيحكي سيرة الفلسطيني فوزي نمر وابنه: الأول اعتبره البعض رمزا وطنياً ،أما الثاني فظل طفلاً موزع الهوية. الأب دخل السجون الإسرائيلية وحينما خرج أصبح سجين منظمة التحرير الفلسطينية وسجين جسده المريض، أيضا. إنها بحق حكاية “سجين مدى الحياة” كما يرويها وثائقي مثير للجدل، لا يقل عنه إثارة الفيلم الفرنسي “دوي الرعد في بغداد” للفرنسي جون ـ بيير كريف، كونه سجل لمدة أربع سنوات متلاحقة يوميات الاحتلال الأمريكي لمدينة بغداد. الفيلم وصف بالملحمي لرصده تفاصيل الغزو الأمريكي وتقديمه صورة واضحة عن التدخل وآثاره السلبية الواضحة على العراقيين، فيما ظلت دوافع الحرب التي بنيت على معلومات كاذبة موضع ملاحقة الوثائقي الأمريكي “المجهول معروف” لصاحب الأوسكار المخرج ايرول موريس. في فيلمه الذي سيعرض في تسالونيكي بعد فينيسيا، ثمة سؤال يحاول الوصول إلى جواب شاف عنه: هل كان وزير الدفاع رامسفيلد حقاً مصدقاً ما كان يقوله ويردده من أن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل، أم انه كذاب محترف صَدَق كذبته؟ في فيلمه المبني على ساعات طويلة من التسجيلات والمقابلات الشخصية إضافة إلى مراجعته لكثير من الوثائق ويوميات الوزير يتقرب كثيراً من رسم صورة لسياسي وضع مصالحه فوق مصالح ملايين من الأبرياء وساهم في شن حرب مبنية على الأكاذيب.
قسم البيئة محتشد كالعادة بأفلام ذات صلة بعالمنا الذي نعيش فيه والمشكلات البيئية التي تهدده من بين ما سيعرض فيها “إفراغ السموات” للمخرج الأمريكي دوغلاس كاس الذي سبق وأن عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان أبوظبي السينمائي، وتناول ظاهرة الصيد غير الشرعي للطيور المهاجرة في جزيرة قبرص ومحاولة الناشطين المستميتة من أجل إيقافها.
في قسم “حقوق الإنسان” سيعرض الفيلم السوري “العودة إلى حمص” لطلال ديركي والحائز جائزة لجنة التحكيم في دورة مهرجان صاندانس الأخيرة، إضافة إلى “أوكراينا ليست مبغى” لكيتي غرين و”تحت التعذيب” للمكسيكية كريستينا خواريز زبيدا و”اللّعب بالنار” لليونانية أنيتا باباثاناسيو، التي قابلت بعض الممثلات المسرحيات الأفغانيات وسجلت تفاصيل عملهن في مجال إبداعي يتعرضن بسببه إلى خطر الموت والعيش تحت التهديد الدائم. فإن تكون الأفغانية امرأة أمر صعب أما أن تكون ممثلة مسرحية فهذا أصعب بمرات. فيلم أنيتا يدرج بين أفلام يونانية كثيرة خصصت الدورة لها حيزاً خاصاً كما خصصت برنامجاً احتفالياً بمخرجين بارزين في عالم السينما الوثائقية: الأول الكندي بيتر بينتونيك، بمناسبة رحيله العام الماضي عن عالمنا تاركاً وراءه قرابة 100 فيلم، وتخليداً لمنجزه استحدث المهرجان جائزة باسمه ستمنح لأفضل فيلم أجنبي مشارك. أما المحتفى به الثاني فهو المخرج الفرنسي نيكولاس فيلبر الذي يعد واحداً من أميز المخرجين السينمائيين لاتخاذه أسلوب عمل اختص به. ستقدم الدورة لهما مجموعة أفلام تغطي جزءًا من منجزهما الوثائقي.
______
*المدى