*أحلام مستغانمي
ألقيتُ هذه الكلمة في مدينة باتنة ‘عروس الأوراس′ حيث دُعيت إلى جامعتها في أول تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، المصادف لذكرى انطلاق الثورة الجزائرية، التي الأوراس معقلها وقلعة ثوارها.
ليست هذه محاضرة، بل قُبلةعلى جبين باتنة الحبيبة، وردّجميل لأناسٍ همُ الأكثر صدقاً وكرماً، تغادرهم ثريّا بهدايا القلب لا بهدايا الجيب، فهم لا يرضون بأقلّ من قلبهم هديّة لضيفهم، ولا يقولون باللسان ‘أحبك’، بل بالبارود الذي يستقبلك فرسانهم بطلقاته.
أنشرها هنا لأقول أيضاً لأحبّائي الشاويّة، والأوراس ينتفض لكرامته ‘ياسادة الأنفة والحِلم عند الغضب، لا يُضاهي تطرّفكم إلاّصفاء قلوبكم.دمتم جامعين، مسامحين، مترفّعين كما جبالكم. فوّتوا على أعداء الجزائر فخاخ مكرهم، فالجزائر تحبكم’.
أحبتي ها أنا ذي.. لا تقولوا تأخرت كثيراً. ريثما أصلكم عمر من الأمنيات مرّ. هل من قدر أجمل من أن أزور باتنة في أول نوفمبر؟
واش راكم يا أبناء الأوراس الأغر؟ ما أخباركم يامن طال ما صنعتم الخبر؟
توحشتكم .. سلاماً لكلّ من حضر منكم ، من مدنٍ خرائطها القلب ، وحدودها الشوق.
سلاماً لباتنة اللّبَة التي أنجبت للجزائر الأسود. عروس الأوراس الولود، التي لا تحبل بالأطفال بل بالبنادق، والتي كلّما جاءها الطلق، زغرد البارود.
باتنة الفحلة متاعنا، التي لا تعقد قرانها على الرجال، بل على الجبال. السبّاقة حين الفداء، التي أعطت للجزائر من أكبادها دون حساب ولا ادعاء. كلّ صباح بينما كان غيرها يبعث بأبنائه إلى المدارس ، كانت تُوصي أبناءها أن يعودوا إليها خريجيّ التاريخ … برتبة شهداء.
عندما استشهدوا فقط، أهدتهم روضة. إنها ‘روضة الشهداء’ التي تتوسط ساحة باتنة، فهنا في كل موضع قدم مقبرة.
أحبتي … إن استقبالكم لي جاء على قياس كرمكم، لا على قياس مقامي، فأنا صغيرة في حضرة التاريخ، لقد كتبتُ بالحبر ما كتبتموه بالدم، لذا عندما سألوني عن الفندق الذي أفضّله عنوانا لإقامتي، أجبت ‘افرشوا لي على الأرض فلا أعرف مكانا أغلى في باتنة من ترابها’.
لقلبي مربط خيل هنا. إنه الشوق المستبد، للأرض الأقرب للسماء، الأكثر شموخاً، والأعلى كبرياء، التي وهبتكم طباعاً شاهقة العنفوان، فكيف لا أختار منكم أبطالا لرواياتي.
أغبطكم أيها الشاوية على جينات أنفَتكم، على ترفُّعكم، على تعفُّفكم، على جُودكم على جُنونكم، على منطق ‘التاغنانت’ و’معزة ولو طارت’.
جميلين في تطرفكم، فلفرط حماسكم استحوذتم على نصف تعداد الشهداء. كما لو كان الموت غنيمتكم في قسمة الوطن.
لفرط حبي لكم، صاهرتكم، كي حين يسألوني ‘منين كنتك؟’ أجيب: ‘من بلاد مصطفى بن بولعيد واليامين زروال’.
لفرط حبي لكم، جئتكم كعروس أُزفّ للأوراس في زيّ شاوي، طُرّز وصُمّم خصيصاً لي بأيدٍ باتنيّة. إنه ثوب قلبي، فعندما نحبُ ثوباً يُحبنا، ونبدو فيه جميلين، أرأيتم كم ‘الملحفة’ تليق بي؟.
يا للحدث الجلَل. أيها التاريخ سجّل، ذات أول نوفمبر الأوراس يطلب يدي، يدي التي كتبَتْه. إني أُزف بشاهدة الأدب إلى الجبل الذي منذ الأزل أكتبه ويكتبني. فأين أبي ليباركني، أبي الذي رحل كما اليوم ذات أول نوفمبر.
، أيها الأوراس، ما تسلقتُ القمم إلاّ لترضى بي حبيبة.
يا سيّد التطرّف العاطفي. أيها الشاوي من قمّتك إلى أخمص قدميك، سلاماً لكل شجرة فيك، فلقد تعلّمنا البقاء واقفين من أشجارك.
سلامًا للصقور التي في زمن الدواجن، تحلّق فوق قممك.
إلى الدم الذي يأبى أن ينسى، إلى التراب الذي ترفض حبّاته أن تجف.
سلاماً إلى الرجال النسور، الذين ما حطّوا يوما مع العصافير لالتقاط فتات الموائد.
إلى الكبار الذين لهم بريق الصمت ولغيرهم نياشين الكلام.
جئتُ عند أقدامك أقدّم لفحولتك واجب الامتنان. حملني إليك هودج الأشواق، فمثلك يقول بالبارود ‘أحبك’.. ومثلي قسنطينيّة يهزمها بوح الجبال حين تعشق.
لست محرجة و أنا أمدح الأوراس، فما مدحته إلا بخصاله، ولست شاوية ليقال أنني أمدح قومي، أنا جزائرية أينما حللّت ،وولائي للجزائر أولاً، حتى آخر حبة تراب تطوّق حدودها، فحيث يصل علم الجزائر لقلبي وقلمي راية.
لقد سبق يوم زرت الجنوب الجزائري، أن قلت في أهله الأخيار ما سيذكره الأدب. لذا من حقي اليوم أن أعلن أنني البنت الشرعية للشاوية، وأنني سليلة الكاهنة.
عندما كتب مفدي زكريا ‘من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للإستقلال’ كان يعني هذا الجبل. فمنذ الأزل الأوراس زوالي وفحل. منذ الأزل ما يقبلش الذل، ومازال إلى اليوم حارس نوم الشهداء.
ذلك أن للجبال عيون، لا جيوب. إنها ترى من علوّها ما لا يراه إلاّ المترفّعون.
الجبال أيها السادة زاهدة. . سوى في كرامتها.
لعلها فرصة لأقول أن الأوراس كان مدخلي وبوابتي إلى الجزائر. كنت طفلة عندما عدت من تونس بعد الاستقلال براً، عن طريق عين البيضة وام البواقي، يوم كان اسمها ‘كاروبير’. فقد توقّف أبي في كل بلدة ليسلّم على أحبابه ويطمئن على رفاقه.
في ذلك الزمن البعيد، سمعت لأول مرة الزغاريد، ورأيت الدموع، وافترشت المطرح والحصير، وشربت اللبن من الشكوة، والماء من القربة المطليّة بالقطران، وأكلت الكسرة الطازجة بالزبدة، وحمّلتني العجائز رائحتهن تلك، وطبعن على قلبي وشمهُن إلى الأبد.
كم من التفاصيل الأولى كانت لي مع الأوراس، حتى غدا هو الجزائر في ذاكرتي الطفولية.
في السبعينات، أيام الراحل الكبير بومدين، عدت إلى تلك القرى، مع أفواج الطلبة المتطوّعين آنذاك في الثورة الزراعية. لم يفارقني حلم أبي فقد كان غداة الاستقلال أحد المسؤولين عن توزيع الأراضي الفلاحية التي تركتها فرنسا، وكرجال جيله كان يحلم برفع الغبن عن الفلاحين الزوالية.
أحاسيسي تجاه هؤلاء القرويين الطيّبين الصبورين، الذين غيّروا قدر الجزائر وما تغيّرت أقدارهم، وثقتها في ‘عابر سرير’ عندما يزور المصور دشرة و ليلتقط صوراً لمذبحة إرتكبها الإرهابيون. فلقد دفع هؤلاء البؤساء فوق ضريبة الاستقلال ضريبة الإرهاب، وما يزالون المنسيّين في كل فرحة، وفي كلّ قسمة.
أردت أن أقول، أن الكاتب لا ينسى شيئا، وأن الأوراس الذي عبرْتُه طفلة، اكتشفتُ اليوم أنه أقام في أعماقي وفي كتبي إلى الأبد. فحتى عندما أردتُ في روايتي الأخيرة أن أجد بطلة شامخة العنفوان، عثَرتْ عليها ذاكرتي، في مدينة بمعقل الأوراس الأشم .فبعض المدن خُلقت لتُكتب، مكانها في الكتب أكبر من مكانها على الخرائط، هكذا شاء لها الأدب.
مروانة كانت مدينة جاهزة لتكون البطلة الحقيقية للرواية، لها اسم أنثويٌّ كدندنة، تخاله أغنية، هي صغيرة وغير مرئيّة، كنوتة موسيقيّة، لا توجد على خرائط المدن الجزائريّة، بل على خريطة الصولفيج. لفرط تغزلي بها، مذ صدور
‘الأسود يليق بك’ والناس يسألونني، هل وُجدت هذه المدينة حقا، حتى أن البعض اعتقد أنها كمدينة ‘ماكوندو’ لم توجد إلاّ في خيال ماركيز.
كما يصنع العشّاق أساطير حبيباتهم، يصنعُ الكُتّاب من مدينة أو قرية أسطورتهم، فيخلقون لدى القارئ ذلك الفضول الآسر لاقتفاء آثارهم خارج الكِتاب، والمشي بخطى الحنين في مُدن تقيم على مرافئ الحبر. فتأثير المدن لا يكون بمساحتها، وإنما يقاس بقيمها.
إنها القيم التي دافعت عنها من خلال أبطالي على مدى عمر من الكتابة. لاعتقادي أن الكاتب لا يساوي اللغات التي تُرجم إليها، ولا الجوائز التي حصل عليها، بل القضايا التي دافع عنها. أما سلطته فيأخذها من قرّائه، ومن سطوة الاسم النظيف. فالكاتب لا يوقِّع بقلمه بل بأصله. ولا يتحمّل مسؤولية خطئه فحسب، بل ما ترتب عن كتاباته من أخطاء. لذا عليه أن يواظب على محاسبة نفسه في حضرة التاريخ.فالأدب أن يستحي الكاتب أولاً من نفسه.
إنه شرط من شروط الإبداع، فالكاتب الذي يملك جسارة دبابة وغرورها،
لا يمكنه اكتساح القلوب، و لا أن يترك بصماته على الأدب، بل آثار وحل عجلاته حيث مرّ. ذلك أن المبدع إنسان هشّ، لا يزيده النجاح إلاّ ذعراً. إنه إنسان مرعوب بحكم إحساسه الدائم بأنه عابر، وبأن لا شيء سيبقى منه سوى كتاباته. لذا في كلّ كلمة يخطها هو يجازف بتاريخه الأدبي، ويعي أنه سيحاسَب على كلّ جملة كما لو أنه لم يكتب سواها .
عندما تصبح أعمال كاتب، ضمن المناهج الدراسية في أكثر من بلاد، تتولى الأجيال، تناقل أفكاره وتخليدها. لكن، ليس الخلود هاجسي، بقدر ما يعنيني خلود الأفكار التي دافعت عنها طويلا. الأقوال التي كنت أحتاج عمرا من الخيبات لبلوغ حكمتها، الجمل التي أعدت كتابتها أكثر من مرة، الحياة التي قضيتها واقفة، رافضة الجلوس على المبادئ، حياءً من حكم التاريخ ، ذلك أني لا أخاف بعد الله إلا التاريخ. ولا أستحي من الأحياء، بل من أبي. ولذا أشقى بقسوتي على نفسي، فضميري أقسى عليّ من أعدائي.
أيضاً، كي تكون كاتباً برتبة عاشق، تحتاج إلى أوهام كبيرة، وإلى تصديق خرافة أوهامك العشقية تصديقاً أعمى. أنت تعمل على وهم الأحاسيس، تصف شيئا لم يلمسه أحد، يوجد في مكان غير مرئيّ من الجسد. مهمّتك جعل القارئ يمتلك وهم الإمساك بما لا يُرى. إلقاء القبض على دمعة أو حفنة من التنهدات، أن تحوّله إلى صائد فراشات في بساتين الروح.
أقول مع جبران ‘إن تكريم الكاتب ليس في أن تعطيه ما يستحق بل في أن تأخذ منه ما يعطي’.
حمدا لله الذي أكرمني بمحبتكم، وأسكنني قلوبكم، فما أنا سوى امرأة عزلاء، لا أملك من الزاد سوى ورقة وقلم، وسرب من الكلمات.
يا سادة الكرم… شكراً على سخاء تكريمكم، الذي يليق بخصالكم. لقد غدا لقائي بكم منذ اللّحظة في عصمة التاريخ.
ذات يوم ستذكر أجيال تمرّ بهذه الجامعة، أنني يوماً عبرتُ وتركتُ قلبي هنا، وأنني من فرط سخائكم بكيت.
إني أحبكم … كم أحبكم.
‘ اديبة جزائرية/ القدس العربي