حرب الأنوثة ( قصة قصيرة )


آمال مختار *

( ثقافات )




وضعت حقيبتي اليدويّة على المقعد الذي أشارت إليه المضيفة وجلست.
كأنّني وضعت كل أحمالي.
تنفست بعمق وانتظرت أن تقلع الطائرة وتحلّق عاليا لتأخذنني بعيدا عن أرض أوجاعي،هناك حيث النقاء.
لأوّل مرّة أسافر وحيدة بدون زملاء العمل.ولأوّل مرة يشتد بيّ الخوف من وضعيتي وأنا معلقة في الفضاء بين الأرض والسماء.سأظل أفكّر طوال الرّحلة في إمكانية سقوطها حتى تسقط ،ربّما…!
سأحاول أن أشغل نفسي أثناء الرّحلة بمراجعة بحثي الذي سألقيه غدا في الجامعة الفرنسية بأحد دوائر باريس العاصمة.أو لعلني سأتّبع نصيحة الطبيب وألتجئ إلى بلع نصف قرص يسحبني إلى سبات عميق أغيب خلاله عن وسواس السقوط.
– سيّدتي هل تسمحين؟
انتبهت وغادرت هواجسي لأرى رجلا يقف في الممرّ الضيّق عند المقعد المجاور لي.كان قد نزع جاكيتته ووضع حقيبته في الخزانة التي تعلو مقاعدنا.
لعلّه لاحظ عدم تركيزي وتشتّتي فمدّ لي ببطاقة ركوبه مؤكدا أنّه صاحب المقعد رقم (4 ب).
سحبت حقيبتي وقلت في إهمال:تفضل ،،،تفضل.
جلس.لفحتني رائحة عرقه غير أنّني لم أتقزز.
حشوت يديّ ونظراتي داخل حقيبتي اليدوية الضّخمة والمزدحمة بشتى الأغراض،ورحت أبحث عن علبة الأقراص المنوّمة وقد قرّرت أن أهرب من خوفي إلى النوم.
وصلني صوته ثانية لانتبه وأغادر نفسي مرّة أخرى:
_ عفوا… هل تسمحين سيدتي،ألست أنت جليلة القروي؟
تسّاقطت أحرف اسمي فوق رأسي كالطرقات المتتاليات . من يعرف باحثة في علم الجينات مثلي لا تكاد تغادر مخابر الكلية والمنزل؟
رفعت نظري إليه ودقّقت.
وجه طويل بسمرة غامقة ولامعة.أنف طويل شبه منحن في منقاره بينما تبدو فتحتاه كفتحتي أنف جواد عربي أصيل.شفتان مكتنزتان بنفسجيتان. ونظراته آبقة ومنكسرة في ذات الوقت ربّما بسبب حياء اللّحظة.
لم أتعرّف إلى هذا الوجه الذي يبدو مألوفا عادة في تونس،غير أنّ نظراته تلك طرقت أبواب ذاكرتي فانفتحت وراحت تفتّش عن أدقّ التفاصيل التي ستكشف عن هويّة صاحبها.
في لحظات جالت مجسات الذاكرة أزمنة وأحقاب وتعقّبت صوّرا ووجوها،غير أنّ البحث لم يأت بأية معلومات مفيدة.
بدت الحيرة على وجهي بالتأكيد وأنا أتفحّص ملامحه وأسعف أدوات بحثي بمزيد التدقيق.لم يكن أنيقا بقميصه المخطط بلونيه الأزرق الداكن والنبيذي، والمكوي في إهمال وعجالة. أمّا سرواله الزرق الدّاكن فقد بدا لامعا من فرط الاستعمال، في حين هدم حذاؤه ذو الأنف المعقوف إلى فوق كل أثر لما قد يمكن اعتباره أناقة.
بدا ريفيّا من طبقة متوسطة.لعلّه يشتغل موظفا في وزارة أو مؤسّسة ما.لعلّه حدس ما كان يجول بخاطري إذ سحب قدميه إلى الوراء في محاولة لإخفاء حذائه الذي كان واضحا أنّه ليس من عاداته تلميعه.
قال في ارتباك وقد تعرّق جبينه وأصبح لونه بنفسجيا غامقا:
_ أظنّ أنّنا كنا ندرس سوية في الثانوي،أعتقد أنّي تغيّرت بعض الشيء،سمنت ربّما…؟ ثمّ نظر إلى بطنه التي كانت مكوّرة داخل قميصه كامرأة تحاول أن تخفي حملها.
لم يشدّني شيء فيه سوى تلك النظرات اللامعة والتي تخفي تحت انكسارها شيئا ما ،،!كنت متأكدة من أنّني أعرف ذلك الشيء ،غير أنّني لم أعثر في ذاكرتي على صورته ولا حتى اسمه.
عندها حسم الأمر قائلا وهو يمسح عرق الارتباك عن وجهه بكّفيه فبدا كأنّه يلطم:
_ أنا الشاعر… الحبيب الشاعر، كذلك كانوا ينادونني في المعهد لأنّني أقول الشعر.هل نسيتي الأمر وقد طال عليك العهد…
انتفض قلبي كعصفور سُكب عليه ماءا باردا.ورأيته في ذاكرتي واضحا وكأنّ ما قاله كان مفتاحا لباب الذاكرة، رايته يمدّ يدا نحيلة سمراء ومرتعشة بكراس،تباطأت في تسلّمه عندما دخلت يد الأستاذ المشهد لتلتقطه مسرعة بينما ارتفع صوته صائحا:
_ ما هذا؟؟ ماذا يحدث هنا؟
ردّ هو بصوت مخنوق:
_ كراسي سيّدي، إنّه كراسي احتاجته جليلة …احتاجته لتنقل منه …لتنق..
ولم يقدر على مواصلة الكلام.صرخ أستاذ التاريخ:
_ ماذا ستنقل منه جليلة …قل انطق… هذا كراس العربية وهي ماذا ستنقل..
ثمّ موجها السؤال لي:
_ هل تغيبت على دروس العربيّة؟
هززت رأسي بعلامة الرّفض وقد تيبّس الريق في حلقي وقد بتّ عاجزة على الكلام.وكنت أعلم أن بين طيات الكراس ورقة كتب عليها قصيدا من قصائده التي تعوّد على تمريرها لي متغزّلا بي وباثّا لواعج حبّه.توقعت أن يعثر الأستاذ على الورقة…ثمّ سمعته يقرأ القصيد.اعترتني سخونة وبلّلني العرق ثمّ سمعته يعلّق :”الله الله…هذا قيس الشاعر وهذه ليلى…”
وانفجرت ضحكة الزملاء في القسم كأنّها القنبلة وسريعا انتشرت شظاياها في المدينة التي يعرف أهلها بعضهم البعض.ثم تدخّل والدي.
كان أبي يشتغل رئيسا لمركز الشرطة في المدينة،فكان عقابي نقلي إلى معهد آخر.أما الشاعر وهو تلميذ من ريف المدينة مقيم في المعهد حسب النّظام الدّاخلي فقد وقع طرده لمدّة أسبوع وبقي في نفس معهده.
لم أره بعد ذلك قطّ.
كم مرّت من السنوات على تلك الحادثة ؟؟؟
نطقت في فرح مهزوم متسائلة:
_ وهل ما زلت تكتب الشعر…؟
مسح على وجهه ببعض اللّطمات وهمس بصوت محشرج خجلا:
_ مازلت أكتب لك القصائد كلّ القصائد وألقي بها في البحر…
ضحكت.رفعت خصلة من شعري الأسود الطويل تغنّجا،وأطلقت بصري عبر النافذة الضيّقة المدوّرة أرنو إلى الأفق.
انطلقت الرّحلة ومرّ الزّمن خلالها في خفّة مشاعرنا التي استعادت نضارة الشباب وحماسته.لم أشعر بوقعها بل لعّلني نسيت أثناء ذلك أنّني كنت في طائرة بل أكاد أجزم أنني أنا التي كنت طائرة بجناحي السعادة الواهية.
لقد أصبح الشاعر شاعرا وها هو يجوب المدن والعواصم ليلقي شعره على جمهور قال أنّه ظلّ يحمل دوما ملامحي وصورتي مهما تبدل المكان.
لم أصدّق.لكنّني انتشيت لذلك.
أخبرته أنّني أسافر مدعوّة من الجامعة الفرنسيّة لأقدّم بحثا جديدا في علم الجينات.لك أنّني أتممت دراستي العلمية وتحصلت على دكتوراه في هذا الاختصاص.
كان يهزّ رأسه ويلطم وجهه ماسحا عرقا ظل يتصبب عليه وأنا أحدّثه عن فترة دراستي في الجامعة ثم سنوات الاختصاص التي قضيتها بين جامعتي تونس والسوربون في باريس حيث كان أستاذي الذي أشرف على رسالتي.
أضفت بعد فترة صمت :
_وأنت كيف كانت دراستك ؟وماذا تعمل الآن؟
عادت حبيبات العرق تغطي جبينه و قال :
_ لم أتمم دراستي بالرغم من حصولي على شهادة الباكالوريا اختصاص علمي كما تعرفين، لقد اضطّرتني ظروفي الاجتماعية إلى العمل،فأصبحت مدرّسا أو معلّما للأطفال الصغار في المرحلة الابتدائي …”ثمّ أضاف مزهوا وكأن ما سيقوله هو هويّته الحقيقية: أما أنا…فأنا شاعر…ألّفت عديد المجموعات والدّواوين الشعرية ونلت الجوائز…”
صمت قليلا كأنّه تذكّر شيئا نسيّه ونظر في عينيّ وسألني:
_ألا تقرئين الصحف؟ ألا تشاهدين التلفزيون؟
ابتسمت.هززت رأسي ألاّ.ثمّ أضفت وقد انتبهت إلى صوتي قد انخفض وحماستي قد انطفأت:
_ لا …لا… الحقيقة ليس لديّ الوقت الكافي لذلك،أنا منغمسة كثيرا في بحوثي وعملي الذي أجد فيه متعة كبيرة حتى أنّي لا أكاد أعثر على بعض الوقت لأهتمّ بشؤوني الخاصة…يا الله …ليس مهما …الحياة تمضي دوما نحو الأمام…
سارع بالقول:
_ هل أفهم من كلامك أنّك لم تتزوّجي بعد ؟
تلاشى سؤاله وضاعت الكلمات مع أزيز الطاّئرة وهي تخفّض في سرعتها وتستعد للنزول ، ثمّ حطّت على أرض مطار اورلي.
كان قد قرّر النزول في نفس الفندق الذي اختارته لي الجامعة التي دعتني.قلت مازحة ونحن نستعد لركوب السيارة التي كانت في انتظاري بعد أن اجتزنا إجراءات الخروج من المطار:
_ هل تستطيع أن تدفع،إنّه فندق فخم وأسعاره باهظة.
عاد يلطم بنفس تلك الحركات التي يأتيها دون وعي ماسحا على وجهه كلّما ارتبك أو وقع في مأزق ما،قال:
_ الجهة التي دعتني للأمسية الشعرية غدا منحتني تكاليف الإقامة وحريّة اختيار مكانها.
قلت ملطّفة الجوّ و قد تكهرب :
_ يبدو أن الأجواء في مجال الشعر أكثر حرّية من أجواء الجامعة .
تسلمنا غرفتينا واتفقنا على اللقاء في بهو الفندق لشرب شيء ما قبل العشاء.
أخذت حمّاما سريعا وتأنّقت أكثر بقليل من عادتي المتحفّظة بعض الشيء وقد تيقّظت الأنثى فيّ وراحت تحرّضني على قطف مشاعر قديمة خنقتها ظروف المجتمع القاسية.
وأنا أنزل المدرج رأيته عند آخرها ينتظرني،وقد تحرّرت نظرته من ذلك الانكسار وتفتّحت بكل ألقها الذي أشعّ بنزق كان متخف تحت حياء مزيف.
فوجئت به. وفوجئت بأنّه لم يغير ملابسه .بدت الدّهشة على وجهي،قرأها وأجاب قبل أن أسأل:
_ لم أقدر على الانتظار.وضعت حقيبتي ونزلت مسرعا.
جلسنا بأحد صالونات البهو.وقف النادل أمامنا سائلا ماذا نشرب.
وإذا به يعود إلى لطم وجهه،فأدركت أنّه يودّ احتساء المشروبات الروحيّة غير أنّه تردّد في حضوري غير ضامن لموقفي من ذلك.نظرت إليه بإشفاق.إنّه لم يتخلّص بعد من عقده الريفيّة والتونسية والعربية وهو في عقده الخامس.
طلبت من النادل كأسين من الفودكا مع عصير البرتقال.توسّعت دهشته حتى قال مندفعا:
– بنت سي عباس رئيس المركز تسكر…!؟
ضحكت في استرخاء وقلت:
_ وما الغرابة؟وما علاقة سي عباس بما أقوم به وأنا في هذه السن؟ لقد توقت المشروبات الروحيّة أثناء سفراتي مع زملائي وزميلاتي وراق لي الأمر،ما دمت لا أتعامل معها على الطريقة المتهوّرة التونسية والعربية.
رنّ هاتفه الجوال في هذه اللّحظة بالذات.نظر إلى شاشة الهاتف ثمّ عاد يلطم وجهه أكثر من ذي قبل بيد بينما ظلّت يده الأخرى تهمّ بالضغط على زر الردّ.لم يقدر على اتخاذ قراره حتى انقطع الرّنين.رأيته يسترق النظر إليّ وقد تحوّل لونه إلى بنفسجي غامق يشعّ بحمرة،بينما تكوّرت حبّات العرق على جبينه كأنّها زخّات المطر.
شممت رائحة امرأة في الأفق.
سألت متقنّعة بالامبالاة:
_ هل تشعر بضيق ما؟
رد بتلعثم:
_ لا…لا… لكنّني …
_ لكنّك في ورطة .قلت.
رفع حاجبيه مندهشا كيف قرأت أفكاره وحاول الإجابة متعلّلا:
_ في الحقيقة…في الحقيقة …لم …لم…أكن أعلم أنّ القدر سيجمعنا …في مثل هذه الصدفة…وو…
قاطعته مشفقة على حاله التي ما فتئت تتدهور:
_ قل لها أن تأتي .أين المشكل؟
أضيء سواد وجهه فجأة وأشع بنور النجاة.اقترب منّي وأمسك يدي وهمس:
– صحيح …هل أقول لها أن تأتي؟ ألن يزعجك الأمر؟؟ قولي حقيقة ألن تنزعجي…؟
– أبدا ولما الانزعاج؟نحن لم نخطّط للقائنا ،أمّا أنتما فقد فعلتما.وأعتقد أنّه من العيب أن تخذلها.
رنّ هاتفه مرّة أخرى.نظر إلى شاشة الجهاز وقال:
– هيّ …جاكلين…
التقط الهاتف وحدّثها بفرنسيته ذات اللّكنة المدوّرة لحرف الرّاء ودلّها على عنوان الفندق، وضع التلفون بعناية على الطاولة كأنّه يخاف أن يكسر شيئا ما.التقط كأسه وشرب نصف ما فيها جرعة واحدة.تنفّس بعدئذ بعمق وقد استعاد بعض هدوئه،ثمّ قال:
_ إنها في القطار قادمة من نيس ،تكاد تصل بين الفينة والأخرى،ستلحق بنا بعد قليل،هيّا قولي إنّك لن تنزعجي من حضورها…قولي.
ضحكت وزممت شفتي في لامبالاة وهززت رأسي مؤكدة أنّني مرتاحة حقا.
فجأة انطفأ وعاد إلى سواده ولطم وجهه.بل إنّه نهض من كرسيّه وراح يغدو ويجيء ويمسح وجهه بكفّيه في حركته تلك التي ألفتها والتي تبدو كأنها اللّطم لخسارة فادحة.كان مثل امرأة وقد اشتد ّبها المخاض.
أشرت له بإصبعي أن يقترب ففعل مهرولا.قرّب رأسه من أذني وهمس وكأنّه قد حدس تساؤلي:
_ يجب أن نحجز لها غرفة…و…
تلعثم وعاد يبلع ريقه بصعوبة دون أن يتمّ ما كان ينوي قوله.
– قد تستغرب الأمر؟ هذا ما أردت قوله؟
زاغ بصره بعيدا عنّي وقال:
– لقد كانت في المرّات السابقات كانت تقيم …تقيم معي …في …في غرفتي…
– ذلك طبيعي بما أنّها صديقتك,قم بنفس الشيء الآن،ما الذي تغيّر ليمنعك؟
رددت في هدوء أزعجه.قطّب جبينه متعجّبا وعقد حاجبيه الجميلين في دهشة وقال:
_ أتريدينها حقا أن تنام في غرفتي؟كيف ذلك؟
ثمّ نظر إليّ في عمق عيني حتى شعرت بنظراته الحارقة قد غاصت في أحشائي وأضاف:
– ونحن…؟
ابتسمت ورددت:
– نحن مجرد معرفة قديمة …جمعتنا الصدفة نعم غير أنّ ذلك لا يعني شيئا. كذلك هي الحياة دوما تمضي قدما نحو الأمام ولا تنتظر أحدا…
لم يصدّق ما كنت أقول لأنّ ما كانت تبوح به ملامح وجهي ونظراتي كان عكسه تماما.
نهضنا وجهتنا المطعم للعشاء.مررنا بالاستقبال فقلت بصرامة الأمر:
– اذهب وأحجز لها غرفة.
التفت نحوي يتملى وجهي ويستجلي حقيقة أعماقي غير مصدّق لما كنت أقول.ثمّ توجّه نحو عامل الاستقبال بينما دخلت أنا إلى المطعم حيث اخترت طاولة وجلست أنتظر بشغف ما سيأتي.
بعد لحظات رأيته يدخل المطعم،ولأوّل مرّة أدقّق في جسده كاملا.لقد تغيّر فعلا.أصبح بدينا بعض الشيء ،أمّا بطنه فهي نشاز واضح مع قوامه الذي ما يزال محتفظا ببعض الامتداد الذي ينتهي مع انحناء طفيف،إلاّ أنّ هيأته الريفيّة تلك لم تتغيّر.لعلّني لم أكن لأنتبه إليها جيّدا ونحن في سنّ الشباب، لكنّني أراها الآن جليّة في مشيته،في لباسه المنكسر الأطراف،في حركات يديه،في انحناءاته الطفيفة في الظهر والأكتاف والأنف والحذاء الذي دمّر المشهد كلّه.
بلعت ريقي متلمّظة بعض المرارة، غاصة ببعض التردّد بين ما ألقته نفسي من أناقة وجمالية في أدقّ التفاصيل وبين ما تحرّضني عليه الأنثى في أعماقي،الأنثى التي لا تنسى ولا تغفر مهما طال الزمن بل تودّ الانتقام لمشاعرها ـ حتى لو كانت واهية ـ من الزمن ومن المجتمع.
كان قد جذب الكرسي وجلس قبالتي. ولما انتبهت سمعته يقول:
– ماذا سنفعل إذن …؟
قلت في استدراك:
-في ماذا ؟
_ في شأنها ألم أبلغك أنّ عامل الاستقبال أكد لي أنّه لم تعد هناك غرفا شاغرة.تصوّري، ما هذا النحس…كيف سنتصرّف إذن؟
عدت إلى برودي أتقنّع به،قلت وأنا أقطع الجزر في السلطة:
_ لا شيء أترك الأمر على حاله,ربّما استقبلها ضيفة في غرفتي!؟
كعادته الغريبة تلك التي لم أر مثلها قطّ في حياتي عاد يلطم ويمسح عرق ارتباكه دون أن يقدر على التثبّت من حقيقة مشاعري التي ظللت أتلاعب بها.
وضع النادل الصحن أمامه لما رنّ هاتفه من جديد.جذبه من جيب سترته المعلّقة على ظهر الكرسي,نظر إلى شاشة التلفون ونظر إليّ وقال في شبه همس:
_ هي
ابتسمت وهززت رأسي مشجّعة إياه على الردّ ،ضغط على الزرّ وقال: نعم نعم…ها أنا ذا قادم…
أرجع هاتفه إلى مكانه,ووقف.نظر في عينيّ نظرة عجيبة ممزوجة بالتوسّل والحبّ والشّهوة والخوف.ثمّ قال في استسلام:
– إنّها في البهو.
كنت أتعامل مع هذه المرأة الغريبة التي جاءت بها الصدفة إلى فضائي الخاص كفكرة عبثية قابلة لكثير من الاحتمالات،غير أنه لما قال:”إنّها في البهو”أحسست أن ما اعتقدته شيئا هلاميا تجسّد يقينا على عين المكان! إنّها هنا،من تكون؟
امرأة فرنسية قادمة من نيس إلى باريس،ما هي ظروفها الخاصة؟ كيف اخترقت كل ما أحاط بها من مشاغل يوميّة حياتية؟ وهذه الرحلة الطويلة عبر القطار وكل هذا الوقت الذي أنفقته وستنفقه،من أجل ماذا؟ لا بد أن دافعها أقوى ممّا قد أتصور!أو لا بد أن ما عايشته سابقا مع الشاعر حرّضها على العودة.ولا بد لها أن تكون امرأة صاحبة قرار لها من قوّة الشخصية ما يساعدها على اتخاذ ما تريد من قرارات للخروج من محيطها والسفر من أجل لقاء لليلة واحدة.
امرأة فرنسيّة قادمة من نيس إلى باريس!!
انتبهت على صوته يقول:
_ السيدة جليلة دكتورة في العلم الجيني،زميلة دراسة…
ضحكتْ وعلقت مازحة قبل أن يواصل تقديمها لي:
– دكتورة في العلم الجيني وزميلة دراسة كيف ذلك وأنت شاعر من المفروض أنّك درست الآداب…!
شملتها بنظرة فاحصة و سريعة .بدت من خلال ملاحظتها أنّها امرأة ذكيّة.كما بدت في الخمسينات من العمر ذات بشرة بيضاء منمّشة خاصة على مستوى الخدّين،شعرها أحمر وعيناها فاتحتان تميلان إلى اللّون الرّمادي.
هيأتها العامة توحي للناظر بأنّها متصابية. يبدو ذلك جليا من خلال لباسها الفضفاض والذي استهلك بالتأكيد أمتارا من الأقمشة.ابتداء من شالها الكبير ذي الورود الصفراء إلى قميصها البنيّ الواسع وسروالها الجينز ذو الجيوب الجانبية الكبيرة.لباس شبه رياضي ترتديه عادة المراهقات.غير أنّها بدت فيه معقولة المظهر خاصة وأنّها نحيفة وذات قوام جميل.
مسح سي الحبيب على وجهه كعادته وقال:
– تلك قصة أخرى سنرويها لك فيما بعد .أمّا هذه ـ موجها الكلام لي مشيرا لها ـ فهي جاكلين وهي …
أصابته الحالة مرّة أخرى ولم يستطع مواصلة التقديم .
هززت رأسي مشيرة بالترحاب وقلت :
– تشرّفت.
رفعت شالها الكبير من على ظهرها ووضعته على الكرسي وراءها وجلست.فتحت حقيبتها اليدوية الكبيرة والتي بدا أنّها استغلتها لتضع فيها كل ما ستحتاجه لليلة واحدة،بحثت لبعض الوقت وأخرجت علبة سجائرها.ابتسمت وهي تسترق النظر إليّ محاولة التدقيق في هيأتي وملابسي الأنيقة ومكياجي .استقرت في جلستها وحافظت على تلك الابتسامة البلهاء على وجهها الذي ظهرت عليه مظاهر الإرهاق.فتحت علبتها ومدّت يدا مضيفة لمشاركتها التدخين.نظرت إلى عمق عينيها فأدركت فورا أنها ليست بالمرأة السهلة.أبدا أنّها امرأة قوية وصاحبة شخصية.
– لا شكرا أنا لا أدخن.قلت.
قطبت جبينها مبدية استغرابها وهي تنظر إلى كاس النبيذ أمامي.حولت العلبة إلى الحبيب فأخذ سيجارة وهو منكس الرأس متفاديا النظر إلى كلتين.انتظرها حتى أخذت سيجارتها وقدح الولاعة التي كمشها في كفّه فبدت النار وكأنّها انبثقت من بين أصابعه .
على مهل انطلقت سهرتنا.كنا ثلاثتنا كمّن يمشي على البيض نتحدث بحذر أمّا الثقة فقد غابت تماما عن طاولة عشائنا.
تحدثنا حول مواضيع كثيرة.وتركّز الحديث بيني وبينها بالخصوص وقد انسحب الشاعر إلى صمته وكأسه وربما حيرته في هذا الانسجام الذي جمعني بصديقته .
وفهمت منها أنّها أستاذة تعليم تدرّس اللّغة الفرنسية وأنّها هي أيضا شاعرة.كما باحت لي بأنّها مطلقة وتعيش مع ابنيها المراهقين في نيس.
وأكدت لي أن انشغالها بتربية ابنيها بمفردها لن يقف حائلا دونها ودون الشعر الذي وجدت فيه ملاذها من متاعب الحياة.
أكبرت صلابتها ووضوحها مع نفسها ووجدتني ميّالة إليها إلى الاستماع إليها وقد أبرزت أنّها مثقّفة ومحيطة بما يدور في العالم.
دار بنا الكلام مع الكؤوس بين الأدب والشعر بالخصوص وبين السياسة كيف كانت وكيف أصبحت وتذكرنا ثورة الشباب الفرنسي في ماي 1968 تلك الثورة التي نادى فيه الشباب بالحرية والتي ساهمت في تغيير تاريخ فرنسا وظلّت نقطة ضوء أخرى في سياقه.وقارنا ذلك مع شباب اليوم الذي لم نعد نقدر على التفريق بين ذكره وأنثاه وهما يرتديان تقريبا نفس السراويل المتدليّة وكبيرة المقاس عمدا حتى تكون فضفاضة أكثر ما يمكن على جسد لابسها.أمّا المراويل فهي قصيرة بما يسمح للبطن أن تبرز،في حين تكون الأكمام طويلة أكثر من اللازم فتكمشها الأصابع.ما ها الجيل الذي يجهل الأفكار الإنسانية الكبرى التي تركت بصمتها على حياة البشرية…قالت:
_ إنّ ما أصاب شبابنا في أي مكان على الكرة الأرضية هو بسبب هذه العولمة التي زحفت فأكلت الثقافات والهويات.
– بل إنّ هذه العولمة هي ما يمكن أن نسميه الاستعمار في شكله الحديث واللطيف،إنّه الغول الذي لا شكل له أما ما يدمّره من هويات الشعوب وخصوصياتها فهو الكارثة بحق.قلت.
نفث الحبيب دخان سيجارته ووضع كأسه التي تجاوزت العدّ دون أن يبدو عليه أنه يشرب منذ ساعات ثمّ قال في سخرية من جديّة كلامنا:
– لم تطرحوا بعد القضيّة الفلسطينية ؟!
ضحكنا.وقالت هي مدافعة عن فكرة تقسيم الأرض بالعدل بين الشعبين:
_ أعتقد أنه لا حل سوى ذلك.
وسألتها لأستفزّها:
_ هل تقبلين أنت كفرنسية فكرة أن تقسم الأرض الفرنسية بالعدل بين الفرنسيين وبين المسلمين الذين اجتاحوا فرنسا منذ سنوات.
ردّت بانفعال فيه من الغضب الكثير:
– لماذا تقارنين ما لا يقارن؟
ورددت في هدوء:
– كيف لك ؟ المقارنة تجوز ما دمت ترين أن الحل الأنسب للقضيّة الفلسطينية يتمثل في اقتسام الأرض العربية الفلسطينية بالعدل مع الصهاينة الذين تجمّعوا من كل حدب وصوب لإنشاء دولة من وهم ومن عدم،فإن الأمر ذاته يمكن له أن يكون معكم وقد تجمّع المسلمون على أرضكم من من شتى أنحاء العالم.
قال الحبيب مازحا وقاطعا الحوار بيننا:
_ هل تنويان حقا تحويل هذه الطاولة إلى طاولة مفاوضات ؟انعد إلى شويهاتنا ،لنعد إلى الشعر والفن.
قالت جاكلين موجهة الكلام إلى الحبيب:
_ قل لنا بعض شعرك المترجم إلى الفرنسية ،اقرأ قصيدة ” أحبك” إنّها جميلة.
نظرت إليها في عينيها وقد بدا لي أن لونها قد تحوّل إلى رمادي غامق مثل لون البحر ليلا وقلت:
– هل هذه القصيدة مهداة إليك؟
كأن بعض الاحمرار غطى وجهها وهي تجيب :
– لست أدري…
قال الحبيب:
_غدا سنقرأ الشعر أما الآن فلنحكي بعض النكت ولنضحك.إن الدراسات العلميّة تأكد انّ الضحك يحسن من الصحّة ويطيل في الأعمار.
وأنطلق يروي النكتة تلو الأخرى وراحت الذاكرة تتفتّح على مخزونها وتغرقنا ضحكا ،ثم تحوّلت النكت من العادية الاجتماعية إلى السياسية إلى النكتة الجنسية أو الخضراء كما يحلو للبعض تسميتها.
في ذروة اللّحظة الضاحكة شعرت بنا كأنّنا انصهرنا ثلاثتنا فأصبحنا كتلة إنسانية واحدة بلا أجساد وبلا عقول وبلا مسافات بيننا، نحن واحد يضحك ويضحك فقط، وفي أحيان كثيرة كنا نضحك لمجرد الضحك فحسب ،حتى حركاتنا أو تلعثم الواحد منا وهو بصدد رواية نكتة بات يضحكنا أكثر من النكتة في حدّ ذاتها.
غادرنا قوقعتنا الانسانية عندما جاء النادل يعتذر عن مواصلة خدمتنا فقد تأخر الوقت وحان موعد إنهاء عمله، ناصحا إيانا بالذهاب إلى الحانة التي تعمل على مدار الساعة.
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ليلا عندما وقفنا في البهو وقد استرجع كل واحد منّا ذاته وهواجسه،ورحنا نفكّر في كيفيّة مواصلة السهرة مع أن كل واحد منّا كان قد اكتفى من السهر بل إن كل واحدة كانت تودّ الاختلاء بالشاعر ومواصلة السهر معه،لكن كيف ذلك؟
قلت أنا:
_ عليّ الذهاب إلى غرفتي ,لابد أن أنام حتى لا أكون متعبة وأنا أقدم بحثي.
قالت هي مؤكدة:
_ صحيح ، يجب أن تكوني في حالة جيّدة حتى تتمكنين من إبراز قيمة بحثك الذي حدثتنا عنه…
نظرتُ إليه مبتسمة وسألته:
_ ما رأيك؟ كلامها صحيح…أليس كذلك؟
قال وهو يمشي فاردا يديه على كتفينا وقد تخلّص تماما من خجله الريفيّ :
_ أقترح أن نواصل هذه السّهرة الجميلة بأحد الغرف ،ما رأيكما؟
ثم قال لي باللهجة التونسية:
_ مابنّها ريح البارفان امتاعك خطفتلي روحي .اسمع انا جيبت دبوزة ادجين هيا انكملو ومولاها ربي.
ابتسمت حتى ضحكت وقلت بالفرنسية:
– تنويان إفساد برنامج عملي ودعوتي ،لا عليكما سوف أستدعي الاحتياط من جيوش الدفاع.
ضحكنا كلّنا .وأضفت:
_ إذن لنواصل في غرفة الحبيب.
نظر إليّ الاثنان باستغراب.ابتسمتُ وصعدنا المدارج.
في الطابق الأول من الفندق الكلاسيكي القديم تجاورت الغرفتان.
قالت جاكلين
_ بعد إذنكما أود أن أذهب إلى غرفتي لأغيّر ملابسي.
وانفجرت أنا والحبيب ضحكا بل ضحكا هستيريا بينما ظلت هي مندهشة لا تفقه سبب ضحكنا ولا تدري ما تقول.تواصل ضحكنا ولم نعد نقدر على السيطرة على أنفسنا، بعد لحظات حاولت أن أسيطر على نفسي لانقطع عن هذا الضحك الذي كاد يمزّق أحشائي.مسح هو عن وجهه بنفس طريقته تلك وقد انقطع عنها طوال السهرة في المطعم ،ثمّ قال لي بالعربية:
– كيف سنخبرها بأنه ليس لها غرفة خاصة بها.
اقتربت منها وقلت لها:
_عزيزتي جاكلين ،هل تصدّقين أنّي أحسّ وكأنّني أعرفك منذ زمن بعيد .شيء غريب .نادرا ما يعتريني هذا الإحساس بالألفة، عزيزتي لقد أصبحتِ الآن صديقتي و لذلك أعتقد أنك ستتفهمين ضحكنا السخيف لأننا كنا سنخبرك بأنه ليس لك غرفة خاصة .كل الغرف محجوزة للأسف ،لكن لا تنزعجي حبيبتي تفضلي هذا مفتاح غرفتي تصرّفي كأنّها غرفتك.
نظر إليّ بوجه مشرق ونظرت إليّ هي بوجه حزين منطفئ وقد غادرته كل تلك البهجة التي كانت تغطيه.
لم تأخذ مني مفتاح الغرفة.وبقيت يدي ممدودة،مشت خطوات أمامنا ثم التفتت إلى الحبيب سائلة ما هو رقم غرفته.
سرت مادة الادرينالين في جسدي من أخمص قدميّ حتى كادت الحرارة أن تفجّر رأسي. التقت نظراتي الملتهبة بنظراته المرتبكة وهو يتهيأ لفتح باب غرفته. دلفت هي إلى الداخل وقد أعاد لها الشعور بالانتصار الاشراق على وجهها بل إنّ صوتها وصلنا من الداخل وهي تنادي الحبيب.الحبيب فقط.كظمت غيضي وقال هو بالعربية:
ما هذه الليلة الليلاء ؟كيف سنتصرف وأنا مشتاق إليك منذ دهر.وعندما يتكرّم بك القدر يضع أمامي هذه العاهرة الفرنسية كحجر العثرة في الطريق.
تكرّر نداؤها ,وقلت:
_ لا بأس لنشرب كأسا أخرى على نخبها.
دخلنا .كانت قد بدلت ثيابها ولبست قميص نوم قطني لا يخلو من لمسات الأنوثة.رفع الحبيب سماعة التلفون طالبا من غرفة الخدمات كؤوسا وثلجا وعصير برتقال.ثم فتح حقيبته وسحب كيسا بلاستيكيا أحمر وأخرج منه قنينة الجين .نظرت هي باستغراب وقالت:
– أمازلتما مصرّان على السّهر.لقد شربتما بما فيه الكفاية.أنا شخصيا بدأ الصداع ينخر رأسي من الآن .
نزعت حذائي ورميت به في تحد وقلت ضاحكة:
_ املأ الكأس أيّها الحبيب ، لنشرب نخب لقائنا.
جلستُ على أحد السرير ونظرت إلى جاكلين ثمّ همست لها وهي متكئة على السرير المقابل:
_ هل شربتما نخب لقائكما؟
لم ترد بل حدجتني بنظرة كأنّها الخنجر،فتأكدت عندئذ أن حرب الأنوثة قد انطلقت.منذ قليل كنّا لُحمة إنسانية سعيدة.كنّا بعيدينا عن المصالح وكانت غريزة الأنانية نائمة.الآن اختلف الأمر،اختلف تماما.
عاد حبيب إلى لطم وجهه وقد انتبه إلى بوق الحرب الذي نعق منذ حين وراح يمد الكؤوس بعد أن انهمك زمنا في إعدادها معتقدا ربما أنّها فرصة للهرب، لكن أين المفرّ.وكلّ أنثى منّا صمّمت بينها وبين نفسها أن تفوز بذكرها.
لم يعد الأمر يخصّ الشهوة بقدر ما أصبح مسألة موت أو حياة.
تساقطت عنا كل مظاهر الثقافة والحضارة وعدنا أنا وهي إلى غاب الإنسانية أنثتين عاريتين من كل شيء إلاّ من الغريزة الحيوانية.
رشفت من كأسي ببطء وحدّقت في عينيها وقلت :
_ تمدّدي حتى أنهي كأسي وأغادر إلى غرفتي,لا بد انّك متعبة من سفرة القطار،ولا بد أن الصداع قد اشتد برأسك…
شعّ وجهها ببريق الأمل وقالت:
_ لا لا… ها قد استعدت بعض النشاط لأشارككما هذا النخب.
أسرع الحبيب إلى الكأس التي رفضتها من حين وقدّمها لها وهو يتفادى النظر إليها،وإليّ.
كم تمنيت في تلك اللحظات الثقيلة والموجعة أن يتخذ هو الموقف الحاسم ،أن يحدّثها بصراحة عن علاقتنا القديمة الجديدة ،عن مشاعرنا التي شتّتها الزمن وقسوة المجتمع.لماذا يهرب بنظراته إلى اللاشيء؟لماذا يلهب نار الحرب بيننا بسلبيته تلك؟ أكره الرجل السلبي،أكره الرجل الذي لا يدرك ماذا يريد.
طال الصمت وثقل. نهضتُ في ثبات وثقة ،اتكأتُ على حافة طاولة الزينة إلى جانبه حيث كان يجلس على الكرسي القصير لطاولة الزينة.ألقيت يدي على كتفه ورحت أمرّرها على ظهره بحنان ودلال ثمّ تركت لأصابعي حرية الصعود إلى رقبته ثمّ شعره,لما بلغت يدي وجهه كان العرق قد بلّله.مددت عنقي وانحنيت برأسي لأطلّ عليه فتلتقي شفتيّ بشفتيه في عناق بعنف اللّحظة الحاسمة وشوق سنوات الغياب.
أفقنا من فتنة اللّحظة فاصطدمنا بعينيها جاحظتين تكادان تخرجان من مقلتيهما.وقف هو كالهارب من كارثة بينما لبست أنا حذائي .أخذت حقيبتي اليدوية وقلت له:
_أدعوك الليلة إلي غرفتي.لا بد لنا أن نحسن استقبال عزيزتنا جاكلين لذلك أرى أن تترك لها غرفتك حتى تستريح من عناء النهار بحرية،أليس كذلك يا جاكلين؟
لم أُنه كلامي بعد لما سحب حقيبته وغادر كالهارب دون أن ينبس بكلمة واحدة.ظلّت هي على السرير متوثبة ،مندهشة ممّا حدث أمامها في سرعة البرق ودون أن تكون لديها فرصة التحرك أو القرار.
قلت لها وقد احتقن وجهها:
_ تصبحين على خير عزيزتي أرجو أن تنامي جيدا،لقد سعدت حقا بالتعرّف إليك،أراك صباحا عند الفطور.
لم أنتظر ردّها وغادرت.
وجدته ينتظرني مع حقيبته القديمة أمام باب غرفتي،رماني بنظرة إعجاب وهمس في أذني وأنا أفتح الباب فلفحتني رائحته ساخنة:
_ أنت قويّة حقا ،لقد سحقتها وانتصرت بالضربة القاضية.
لم أعلّق على كلامه وقد بدا لي باردا مثله تماما.أقفلت باب الغرفة من الداخل ثمّ سحبت المفتاح ووضعته في حقيبتي اليدوية.
دخلت الحمام .فتحت الماء الدافئ في الحوض.مسحت مكياجي في الأثناء. لما أطليت برأسي على الغرفة كان قد نزع ثيابه وتمدد تحت اللحاف .ابتسمت وقلت له سآخذ حماما هلاّ انتظرتني؟
ابتسم وقال :”لا تتأخري عزيزتي فأنا أنتظرك منذ دهر على نار…”
ضحكت في غنج كي لا أكشف نيّتي في قضاء ما تبقى من الليل في الحمام وقلت :”طبعا طبعا لن أتأخر …”
أغلقت باب غرفة الاستحمام من الداخل وغطست في الحوض.

* روائية وإعلامية من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *