*ترجمة: ارنستو شحود
هل تضع برهانيّتي غودل اللاتماميّة حدًّا للذكاء الاصطناعي ؟
لقد تفحّصنا في ما سبق من هذا الكتاب بعض الآثار التي يُمكن أن تترتّب عن النتائج المستجدّة في الذكاء الاصطناعيّ على أسئلةٍ قديمةٍ في كل من فلسفة العلم وفلسفة المنطق. أعتقد أنّنا متفقون الآن على أنّ النتائج كانت صاعقة بعض الشيء. فقد دعمت تقدّمات التعلّم الآلي نظرة بيكون الاستقرائيّة للمنهج العلميّ في مواجهة بدائل أكثر حداثة. كما وفّر تطوّر PROLOG حججًا لصالح التصوّر الإمبيري للمنطق مقابل التصوّر القبليّ له، واقترحت البرمجة بالمنطق إطار عَملٍ جديد للمنطق سمح بإمكانية تطوير منطق استقرائيّ يشبه إلى حدٍ ما المنطق الإستنباطيّ. تستدعي هذه النتائج كلّها السؤال عن العديد من الأفكار المتعلقة بالمنطق والمنهج العلمي السائدة منذ ما يُـقارب الخمسين عاما.
لكنّ هذا التفاعل بين الذكاء الإصطناعيّ ودراسة المنطق والمنطق العلميّ لا يسير في إتجاه واحد. فمن الممكن ومن المحبّذ أيضًا دراسة ما يترتّب من آثار لنتائج المنطق والمنهج العلميّ على الذكاء الاصطناعيّ في حال توفّرها. لن أحاول في هذا الفصل القيام بدراسة شاملة لهذا الجانب من السؤال، وإنما سأركّز على مثلٍ واحدٍ كان محط نقاشًا أكثر من غيره. تعتبر برهانيّتا غودل (G?del) أللاتماميّة من أشهر نتائج المنطق (والرياضيات طبعًا) في القرن العشرين، وتم نـشر البراهين على هاتين البرهانيتين للمرة الأولى في العام 1931(انظر غودل 1931). لقد حاجج بعض المفكرين ومن بينهم لوكاس (Lucas)، بنروز (Penrose) وغودل نفسه بأنّ هاتين البرهانيتين المنطقيتين تُظهرا وجود حدود لما يُـمكن إنجازه في الذكاء الاصطناعيّ وأظهرا أيضًا أنّه بإمكان الذهن البشريّ، أقلّه في بعض النواحي، تخطي كل ما يمكن إنجازه بواسطة الحاسوب الرقميّ.
تتمثل إحدى ردّات الفعل على مزاعم لوكاس والآخرين هذه بالسؤال عمّا إذا كانوا حقًا على هذا القدر من الأهميّة. «قبل كل شيء»، يمكن الردّ بأنّه «حتى ولو كان هنالك نوع من الحدود النظريّ لما يُمكن أن يحقّقه الذكاء الاصطناعيّ، فمن الأرجح أنّه ما زلنا بعيدين عنه كلّ البعد. وبالتالي يمكن لأبحاث الذكاء الاصطناعي أن تستمرّ بكل هدوء.» إنّ هذا الجواب هو، من وجهة نظري، لطيف وغير رافض. فهو يهمل من الحسبان حقيقةً مهمةً تمثلت في الآراء المتضاربة التي إثارتها التقدّمات الصاعقة التي تمّ تحقيقها في الذكاء الاصطناعي والتي جئنا على وصف القليل منها في بداية هذا الكتاب . فمن جهة الأولى، لا يمكن لأحدهم إنكار أنّ بناء الحواسيب وتمكينها من تحقيق مآثر مثل اكتشاف قوانين علميّة جديدة هو إنجاز بشريّ مدهش. ومن الجهة الثانية فإنّ هذه النجاحات هي مقلقة وتطرح العديد من المخاوف . فهل من الممكن أنّ يكون الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعيّ قد قاموا بتقويض التفوّق البشريّ من غير أن يقصدوا ذلك؟ هل من المحتمل أن يأتي وقت تصبح فيه الحواسيب بالفعل متفوّقة فكريًّا على البشر فيمسي حينها الذكاء البشريّ شيئاً نافلاً؟ فإذا صدقت حُجَج لوكس، بنروز وغودل لن يكون هنالك أساس لهذه المخاوف كلّها. لذلك، نحن بحاجة لدراسة هذه الحجج بالتفصيل لكن، وقبل الشروع بذلك، سيكون من المفيد أن نتفحص عن كثب بعض هذه المخاوف التي نشأت بسبب تقدمات الحوسبة والذكاء الإصطناعي. ستكون هذه المهمة من اختصاص القسم التالي.
1ــ 6 مخاوف سببها تقدمات الذكاء الاصطناعي
لقد عبّر بنروز عن هذه المخاوف بشكل رائع، وبالتالي لن يمكنني القيام بأمر أفضل من الأستشهاد بما قاله :
«لقد حققت تكنولوجيا الحاسوب الإلكترونيّة إبّان العقود القليلة الماضية خطوات هائلة… هنالك شيء مخيف بعض الشيء في مسار هذا التقدّم. فقد أصبحت الحواسيب قادرة على أداء عدد من المهام التي لطالما كانت في السابق من ضمن النطاق الحصريّ للتفكير البشري، كما أنّها أصبحت قادرة على إنجازها بدقّةٍ وسرعةٍ تجاوزتا كلّ ما يكمن للبشر إنجازه بكثير. لقد إعتدنا منذ زمنٍ بعيد على تفوّق الالآت بسهولةٍ علينا في الأمور الجسدّية. لَم يسبّب هذا الآمر أيّ قلق بالنسبة الينا. لا بل على العكس، فإننا سعداء جدًّا لإمتلاكنا أجهزة تنقلنا بانتظامٍ وبسرعةٍ كبيرةٍ في كل أرجاء المعمورة فهي تنقلنا بسرعةٍ تفوق أسرع رياضي بشري بخمس مرّات على الأقل… كما أننا سنكون أكثر سعادة عندما نمتلك آلات تخولنا القيام بأعمال جسدية لم نكن قادرين على القيام بها من قبل، كآلات يمكنها أن ترفعنا في السماء وتضعنا على الجانب الأخر من المحيط في غضون ساعات. فمثل هذه الإنجازات لا تخدش كبرياءنا. بيد أنّ القدرة على التفكير لطالما كانت امتيازًا بشريًّا. قبل كل شيء، فقد مكّنتنا هذه القدرة عندما ترجمناها فيزيائيًا من تخطّي قيودنا الجسديّة، ما جعلنا أعلى مرتبةً من الكائنات الأخرى في تحقيق المآثر. فإذا تفوّقت الآلات يومًا ما علينا في هذه الميزة المهمّة التي مكّنتنا من الاعتقاد بأنّنا متفوقون، ألا نكون حينها قد سلّمنا هذا التفوّق الفريد إلى مخلوقاتنا ؟» (بنروز 1989: 3_4)
رغم أنّ ليس الجميع ينتابه مثل هذا الشعور حيال تقدّمات تقانة الحاسوب، لكنّ وجهة نظر بنروز هذه شائعة على نطاقٍ واسع ويتفّهمها الكثيرون. ومن المؤكّد أنّ فكرته حول بيان الذكاء الاصطناعي بمظهر المفتِّت للتفوّق الإنسانيّ الفريد هي فكرة مقبولة تاريخيًّا. أنظر إلى مناجاة هاملت عن الإنسان (الفصل II، المشهد ii ):” والإنسان ما أروع صنعه! ما أنبله في العقل! كم هو لامتناهٍ بقدراته! في الشكل والحركة ما ألبقه وما أروعه! في الحركة ما أشبهه بالملائكة! في الفهم ما أشبهه بالإله! إنه جمال الدنيا ولؤلؤة الحيوانات! ومع ذلك، ما هي خلاصة التراب هذه !» بدأ هاملت في تعداده لصفات الإنسان الأكثرأهمية من: «ما أنبله في العقل!» ينسجم هذا الأمر تمامًا مع التصوّر الأرسطيّ للإنسان في كونه حيوانًا ناطقًا. لا بل يذهب هاملت إلى أبعد من ذلك ليقول: في الفهم ما أشبهه بالإله !… لؤلؤة الحيوانات !» وبالتالي فإن العقل والإدراك (الفهم) يرفعان الكائنات البشريّة فوق كلّ الحيوانات الأخرى. لكن لنفترض الآن، أنّه أصبح بوسع الحواسيب التعقّل والفهم مثلها مثل الكائنات البشرية تمامًا إذا لم يكن أفضل منها. ألن تخسر البشرية آنذاك موقعها الرياديّ؟ ألن تصبح الكائنات البشريّة بالواقع خلاصة من التراب أو أقله خلاصة من العصبونات التي يمكن محاكاتها بالشرائح الإلكترونية؟ كلّ هذه الأمور تُوضّح الآثار الفلسفيّة العميقة المترتّبة عن الذكاء الاصطناعيّ التي بإمكانها أيضًا تقديم مفهومًا جديدًا لا يحبِّذه البعض عن الكائنات البشريّة وعلاقتها مع باقي الطبيعة.
لم يكن بنروز مخطئا في قوله: « فقد أصبحت الحواسيب قادرة على أداء عدد من المهام لطالما اعتُبرت في السابق من ضمن النطاق الحصريّ للتفكير البشري…» (1989:3). لقد سبق واستشهدت في بداية هذا الكتاب بقول الفيلسوف اليونانيّ القديم ديموقريطس عندما فضّل «اكتشاف علّة واحدة على اكتساب مملكة الفرس» (ديلز،شذرة 118 مأخوذة من فريمان 1947: 104). من الواضح أنّ ديموقرطس كان ينظر إلى النجاح في الإكتشاف العلميّ على أنّه إحدى الإنجازات البشريّة النبيلة إذا لم يكن أنبلها. أما الآن، فقد أصبح بوسع الحواسيب اكتشاف قوانين طبيعية لم تكن معروفة من قبل، كما بيّن لنا غوليم في المثل الذي قدّمناه في الفصل الثاني. صحيح أنّ القانون الذي اكتشفه غوليم لم يكن مثيرًا للإعجاب، لكنّ دراسة التعلّم الآلي لم تبدأ إلّا مؤخرًا جدًا. من يستطيع أن يتوقّع ما يُمكن إنجازه في هذا المجال خلال السنوات الخمسين القادمة على سبيل المثال؟
من النشاطات الأخرى التي سجّلت فيها الحواسيب نجاحًا كبيرًا هي لعبة الشطرنج. من الواضح أنّ هذه النجاحات هي ليست بأهميّة البحث العلمي عينها لكنّها ذات دلالة كبيرة. فقبل اختراع الحواسيب، ظلّ العالَم بأكمله طيلة قرون عدة ينظرالى المهارة في لعب الشطرنج بإعجاب تامّ كونها علامة ذكاء عظيم. لقد عبّر درايفوس بالواقع في كتابه المثير للجدل «ما لا يمكن للحواسيب أن تقوم به» الصادر سنة 1972، أي قبل أكثر من عشرين عامًا فقط، (تاريخ صدور الكتاب) عن شكوكٍ كبيرةٍ حول تمكن الحواسيب من لعب الشطرنج بمهارةٍ أبدًا.
يحاجج درايفوس في كتابه هذا ويقول ما يلي: « تقدّم إضافيّ دال كهذا … في الذكاء الاصطناعيّ هو أمرغير ممكن إلى أقصى الحدود» (1972: 197). يمكن للقارىء اليوم أن يحكم بنفسه على هذا التكهّن من خلال العودة إلى الأمثلة التي قدّمتها في هذا الكتاب والتي يرجع معظمها الى ما بعد العام 1972، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّني لم أتمكّن من تقديم إلّا عدد قليل من أمثلة عديدة في ميدان واسع. رغم ذلك، دعونا ننظر إلى واقع لعبة الشطرنج اليوم.
كانت مزاعم درايفوس في العام 1972 حول عدم تمكن الحواسيب من لعب الشطرنج على نحوٍ جيد لازعة جدًا. فهو رفض الأمر على اعتبار أنّه «خرافة علميّة» وقال في هذا الصدد :
« لقد شكلت سذاجة الجمهور إضافةً إلى حماسة سايمون لمزاعمه ومزاعم نيويل وشو حول برنامجهم الذي تشوبه الكثير من الأخطاء البرمجيّة سببًا كافيًا لإطلاق آلة الشطرنج في عالم الخرافة العلميّة. وفي العام 1959 رفع نوربرت فاينر من هذا الإدعاء بقوله أنّ البرنامج « كان جيداً بالافتتاحيّات» كما أخبر معهد الفلسفة في جامعة نيويورك بأن « آلات لعب الشطرنج الحاليّة ستردّ على خطوات لاعب محترف بخطواتٍ تُعتبر صحيحة وفقًا للكتب المدرسيّة حتّى الوصول إلى نقطة ما في منتصف اللعبة. وفي الندوة عينها، انتقل مايكل سكريفن من الإدّعاء الملتبس بأنّه «يمكن للحواسيب الحالية لعب الشطرنج» إلى التأكيد الإيجابيّ على أنه « بمقدور الآلات الحاليّة تقديم مباراة جيدة».
لقد حقق في الواقع برنامج نيويل، شو وسايمون مستوى ضعيف من العب لكن قانونيّ في مباراياته القليلة المسجّلة، ليخسر في مباراته الرسميّة الأخيرة (اكتوبر 1960) في الخطوة الخمس وثلاثين امام مبتدىء عمره 10 سنوات . إلّا أنّ هذا الأمر لَم يعُد مهمًّا.» (درايفوس 1972).
لقد خسر درايفوس في الشطرنج أمام الحاسوب وعبّر بقليلً من الاشمئزاز عن «الغبطة التي تمّ بها إبلاغ النتيجة إلى جماعة الحاسوب» (1972: المقدمة،223، رقم 45). لكنّ هذا الأمر لم يُقنعه بمستقبلٍ زاهرٍ لشطرنج الحاسوب. فكتب:
«بعدما أُحرجتُ العاملين في الذكاء الاصطناعي بعرضي للتفاوت القائم بين حماسهم ونتائجهم، أنتجوا أخيرًا برنامجًا ذات كفاءة مقبولة. لقد تغلّب بالواقع برنامج ر.غرينبلات المسمى ماكلهاك على الكاتب المصنف هاوٍ، كما تمكن من الاشتراك في دوراتٍ عديدةٍ ربح خلالها مبارايات قليلة… ومن ثمّ، تمّ تحسين هذا البرنامج تدريجيًّا لكنّه وصل إلى نقطة التشبّع كما يبدو. فقد خسر في السنتين الأخيرتين جميع مبارياته في الدورات التي اشترك بها ولم يحظ بأيّة دعايةٍ إضافيةٍ. سنرى قريبًا أنّ وضع القيود على الحواسيب الرقميّة هو كل ما يمكن للمرء أن يتوقّعه». (درايفوس 1972)
لكن، ما هو واقع فنّ شطرنج الحاسوب اليوم في العام 1995 أي بعد ثلاث وعشرين سنة من صدور كتاب درايفوس؟1 يوجد حاليًّا 100 استاذ كبير في عالم الشطرنج البشريّ، وتلعب أفضل برامج الشطرنج بمستوى الحد الأدنى تقريبًا للأستاذ الكبير. يُصنف لاعبو الشطرنج، على وجه الدقّة، وفقًا لمقياس يحصل فيه بطل العالم على 2.800 ، هنالك ما يُقارب الـ300 لاعب من الذين تم تقييمهم بـ2.500 أو أكثر. ووفقا لهذا المقياس، فقد حصل أفضل برنامج حاسوب على 2.555. وبالتالي يوجد في العالم الآن أقل من 300 بشريّ فقط ممن بوسعهم هزيمة أفضل حاسوب في لعبة الشطرنج على نحوٍ منتظم.
هذه هي الصورة العامة. إلّا أنّ برنامج بنتيوم جينيوس أثار بلبلةً كبيرةً عندما هزم بطل العالم في الشطرنج كاسباروف نهار الأربعاء الواقع في 31 اغسطس 1994 2. وفقًا لمقالٍ نشر في جريدة الجارديان حول هذا الحدث يوم الجمعة في 2 سبتمبر 1994، فقد سبق لكاسباروف وأن تباهى قائلًا: « في الحقيقة، أستطيع بكل بساطة هزيمة أي حاسوبٍ إذا ما ركّزت على أسلوب اللعب الذي يعتمده. يستطيع الكمبيوتر حساب مليارات الخطوات لكنّ ينقصه الحدّس»، لهذه الكلمات صدىً مألوفًا. إلى سيادة الاعتقاد باستحالة وجود إستقراء بيكونيّ أو ميكانيكيّ لأنّ صياغة القوانين العلميّة الجديدة تتطلّب حدْسًا بشريًّا خلّاقًا. أمّا الآن فقد أصبح بوسع الحاسوب إكتشاف قوانين طبيعيّة. لطالما اعتبر بيكون أنّ كلّ هذا الإطراء الذي تحظى به عجائب الحدس البشري هو أمر مضلل وله نتائج عكسية، فقد كتب: «إنّ أصل معظم الشرور في العلوم ووسببها هو التالي؛ ففي حين نمجّد ونُعجب زورًا بقوى الذهن البشريّ نهمل البحث عن قواه الحقيقيّة.» (بيكون 1620:260 ).
وبالعودة إلى شطرنج الحاسوب، فإذا استمرّت بالتقدّم على هذه الوتيرة التي اعتمدتها إبّان السنوات العشرين الماضية، لن يكون مستبعدًا أبدًا أن توجد في العقود القليلة المقبلة برامج حاسوب تلعب الشطرنج دون أن يتمكن أي بشريّ من هزيمتها. عندها، وأقله في هذا المجال، سيكون البشر قد سلّموا تفوّقهم إلى مخلوقاتهم؛ وبما أنّه أمر ممكن في ميدانٍ معيّنٍ فلما لا يكون ممكنًا في ميادين أخرى؟ يبدو أنّ قلق بنروز فيما يخص هذه المسألة مسوَّغ بما فيه الكفاية.
لقد ناقشت حتّى الآن وجهات نظر أولئك الذين انتابهم شعور غير مستقر حيال تقدّمات الحوسبة والذكاء الاصطناعي. لكنّ القصّة لا تنتهي عند هذا الحد. فقد سمح في الواقع تنوّع الآراء البشريّة بوجود عددٍ غير قليلٍ من الأشخاص الذين يسرهم الاعتقاد بالفرضية التي ترجح أفضلية قدرات حاسوبٍ كبير على القوى الفكريّة البشرية، التي يمكن أن تكون أسواء منها. كان ألن تيورينج من أشهر مؤيّدي وجهة النظر هذه، وعبّر عنها بكل وضوحا في مقالته «آلية الحوسبة والذكاء» الصادرة عام 1950.
يتخيّل تيورينج الحالة التالية التي يسمّيها لعبة الإحتزاء. يقف المحقّق أمام بابين مُقفلَين. يوجد خلف إحداها حاسوب في حين يوجد وراء الثاني إنسان. يمكن للمحقّق أن يتواصل مع كلٍ منهما بواسطة طابعة عن بُعد بحيث تمكنّه/ها طباعة السؤال، ليحصل أو تحصل بعد برهةٍ من الوقت على جوابٍ مطبوع. وقد طُلب من الإنسان الإجابة بالطريقة عينها بغية مساعدة المحقّق. يلحظ تيورينج أنّ الإستراتيجيّة الأمثل لإنجازهذا الأمر تتمثل في تقديم الإنسان إجابات صادقة عن كلّ الأسئلة التي تُطرح عليه. وفي المقابل، يُبرمج الحاسوب بطريقةٍ تخوّله الاحتزاء بالإنسان مع الأخذ بعين الاعتبار هذه الغاية إبّان بناء أجوبته بغضّ النظر عن صدقها. ففي حال طلب المحقّق من الحاسوب تنفيذ عمليّة قسمة طويلة على سبيل المثال، سيتعمّد الحاسوب التأخير في تنفيذها رغم قدرته على الإجابة مباشرةً، كما يمكن أيضًا أن يضمنها بعض الأخطاء بهدف محاكاة الإنسان. وإذا سئل سؤالًا من هذا القبيل: «هل تحبّ الفراولة والمثلجات؟» فمن المحتمل أن يجاوب الحاسوب كالتالي: «نعم، أحبها كثيرًا. لطالما أتناولها في الصيف مع حلوى البودينغ»، رغم أنّه لم يتذوّقها أبدًا. تكمن مشكلة المحقق في تحديد أي غرفة يوجد فيها الحاسوب وأيها يوجد فيها الإنسان بالاستناد إلى الأجوبة التي يتلقّاها. وفي حال لم يتمكن المحقّق بعد سلسلة من المحاولات التمييز بين الحاسوب والإنسان على أكثر من مستوى، يمكننا القول حينها أن الحاسوب فاز في لعبة الإحتزاء. وهذا ما أصبح يُعرف باختبار تيورينج في معرفة ما إذا كان بوسع الحاسوب التفكير بأسلوبٍ بشريٍّ أم لا.
كتب تيورينج في العام 1950 التوقّع التالي: «أعتقد أنّه خلال الخمسين السنة المقبلة، سيصبح بإمكاننا برمجة حواسيب بقدرة تخزينٍ تعادل109 تمكنّها من لعب لعبة الإحتزاء بشكلٍ جيّد، بحيث لن تتخطى فرصة المحقّق العادي في التحديد الصحيح أكثر من 70 بالمائة بعد خمس دقائق من بدء الاستجواب» (1950:13). لقد شارفت مهلة الخمسين عام التي وضعها تيورينج على الإنتهاء وأصبح بمقدورنا اليوم تقييم مدى النجاح الذي حققه توقّعه. من المؤكّد أنّه أصبح من السهل تحقيقُ قدرةَ تخزينٍ بـ109، لقد تخطت التقدّمات، بشكل عام، في هذا الإتجاه كل توقعات تيورينج. أما بالنسبة إلى لعبة الإحتزاء، فتقام اليوم مسابقات سنويّة لأكثر البرامج نجاحًا في أداء هذه اللعبة لكنّه تمّ إدخال بعض القيود المهمّة إليها مثل التصريح عن الموضوع الذي ستُطرح حوله الأسئلة. لقد إشتمل توقّع تيورينج مثله مثل العديد من توقّعات الذكاء الإصطناعيّ، على قدرٍ كبيرٍ من المبالغة الذي، رغم ذلك، يبدو وكأنّه يسير في الإتجاه القويم.
يشير تيورينج إلى أنّ الحواسيب الرقميّة التي يتخيّلها تلعب لعبة الإحتزاء هي عبارة عن آلات حالاتٍ منفصلةٍ. يشرح تيورينج هذا المفهوم على النحو التالي :
« يمكن تصنيف الحواسيب الرقميّة في خانة «آلات الحالة المنفصلة». تنتقل هذه الآلات من حالة معيّنة إلى حالةٍ أخرى بواسطة قفزات مفاجئة ونقرات. تختلف هذه الحالات بعضهاعن بعض بالقدر الكافي الذي يؤمن تفادي احتمال الخلط في ما بينها. لا يوجود في الحقيقة مثل هذه الآلات. فكلّ شيء يتحرّك في الواقع بشكلٍ متّصلٍ. لكنّه يوجد عدة أنواعٍ من الآلات التي يمكن تخيّلها بشكلٍ مفيدٍ على أنّها آلاتّ حالةٍ منفصلةٍ. لننظر إلى مفاتيح الضوء على سبيل المثال، فإنّها تشكل مثلا ملائما، بحيث يتعين على كل مفتاح إمّا أن يكون مضاءً وإما أن يكون مطفاءً. لكنه لا بدّ من وجود حالاتٍ تتوسّط هاتين الحالتين، لكن بإمكاننا تناسيها وذلك لعدة أسبابٍ مختلفة.» (تيورينج 1950: 10-11).
يمكننا محاكاة أيّة آلة حالةٍ منفصلةٍ بواسطة الحاسوب النظريّ الذي كان تيورينج أولّ من تكلّم عنه في بحثه الصادر بين عامي 1936-37، والذي بات يُعرف باسم آلة تيورينج. تُمثّل آلة تيورينج أبسط حاسوبٍ يُمكننا تخيّله. فهي ذات شريط واحد مُقسَّم إلى مربعاتٍ التي يُمكن طباعة رمز واحد من أبجديّةٍ متناهيةٍ على كلّ منها. تستطيع الآلة مَسْحُ مربّع واحد في كل مرّةٍ، كما يمكنها أداء عمليّة واحدة فقط من بين عددٍ محدّدٍ من العمليّات. وبوسعها أيضًا ترك المربع على حاله أو محو الرمز المطبوع وطباعة رمزٍ جديدٍ. تسطيع الآلة بعد ذلك إما الإنتقال إلى مربعٍ واحدٍ إلى اليسار أو مربعٍ واحد إلى اليمين أو البقاء في مكانها أو التوقّف. إن حالة الآلة الداخليّة بالإضافة إلى الرمز الذي تمسحه يحددان كل عمليةٍ تقوم بها. بعد الإنتهاء من أداء عمليتها، تصبح الآلة مُجبرة على الانتقال إلى حالةٍ داخليّةٍ جديدة محدّدة. إنّ عدد الحالات الداخلية هو متناه. أما إمكانيّة أن يكون الشريط بطولٍ لامتناه فهي مَثْلنة مهمّة للآلة. تتجلى النتيجة المذهلة التي أظهرها تيورينج في كون هذه الآلة البسيطة قادرة على إنجاز أيّة عمليّة حوسبةٍ يُمكن تحقيقها بواسطة أيّ حاسوب حالةٍ منفصلةٍ مهما بلغ مدى تعقيد بنيتها ومهما كان أسلوب عملها.
بسبب هذه النتيجة العامّة، تُصاغ في بعض الأحيان الأطروحة الآلية كما لو أنّها تزعم بأنّ الذهن البشريّ هو آلة تيورينج. لكنه من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ تيورينج لم يأتِ على إستخدام هذه الصيغة. وكل ما تضمنته أطروحته هو إمكانية برمجة حاسوب قويّ بما فيه الكفاية ليتمكن من أداء لعبة الإحتزاء بنجاحٍ وبالتالي، يستطيع محاكاة التفكير البشريّ. فالنقطة هنا هي أنّه بإمكان للدماغ البشريّ أيضًا أن يعمل بشكلٍ متّصلٍ، وبالتالي فهو ليس آلة حالةٍ منفصلةٍ. بالطبع أنّ تيورينج يعتبر بشكل صريح أنّ هذا الإحتمال هو الاعتراض السابع على أطروحته. يكتب تيورينج في هذا الصدد: «من المؤكّد أنّ الجهاز العصبيّ ليس آلة حالةٍ منفصلة. فأيّ خطىء صغير في معلومةٍ بحجم نبضةٍ عصبيةٍ سيكون له تأثير في العصبون، ويمكن أن يسبّب فارق كبير في حجم النبض الخارج. لذلك يمكن أن يعترض البعض بالقول أنّه ليس باستطاعة أحد أن يتوقّع إحتزاء سلوك الجهاز العصبيّ بواسطة نسق الحالة المنفصلة» (تيوريج 1950: 22). يرفض تيورينج هذا الإعتراض ويردّ عليه بالتالي: «صحيح أنّ آلة الحالة المنفصلة هي مختلفة عن الآلة المتّصلة. لكن في حال التزمنا بشروط لعبة الاحتزاء، لن يكون بوسع المحقّق الاستفادة من هذا الاختلاف.» تيورينج (1950:22). بمعنى آخر يبدو تيورينج وكأنّه يفكّر أنّه بمقدور آلته محاكاة مخرجات الدماغ بشكل تام رغم إحتمال أن يكون الدماغ مختلفًا عنها. وهنا تفترق وجهات نظر بنروز عن وجهات نظر تيورينج. يتّفق بنروز مع تيورينج على أنّ الدماغ ليس آلة تيورينج، لكنّه يعتقد بإمكانية أن يقود هذا الفارق إلى آثارٍ ملحوظة،و يمكنه على وجه الخصوص، أن يسمح للدماغ بالتفوّق على الآت تيورينج كلّها. إزاء وجهات النظر هذه، اعتقد غودل أنّ الدماغ هو بالتأكيد آلة تيورينج، لكن لا يجبّ علينا مماهاته مع الذهن البشريّ الذي اعتقد غودل بتفوّقه على آلات تيورينج كلّها، بما فيها الدماغ. كما سنرى، يوجد هنا سلسلة من المواقف المهمّة التي سيتعين علينا تفحص بعضًا منها بالتفصيل في الأقسام التالية.
يبدو واضحًا من النبرة التي استخدمها تيورينج في مقالته الصادرة عام 1950 أنّه لم يكن قلقًا من فكرة تكافؤ الحواسيب مع الآداء الفكريّ للبشر ولا حتّى من فكرة تخطيه. لا بل على عكس ذلك، يبدو تيورنغ وكأنّه ينظر إلى هذا الأفق بسرورٍ ورضى. وبالطبع، فقد كان مدركًا تمامًا للمشاعرالمغايرة التي تنتاب الآخرين، لكنه وصفها ساخرًا بأنها اعتراض «الرؤوس في الرمل» على حد تعبيره (تيورينج 1950:15). ويصيغ هذا الإعتراض على النحو التالي:
« يمكن أن تكون عواقب التفكير الآلي مروّعة للغاية. لنأمل ونؤمن أنّها لن تستطيع القيام بذلك.»
قلّما يُعبَّر عن هذه الحجّة بهذه الصراحة متجليّة في الصورة أعلاه. فمجرّد التفكير فيها يترك أثرًا في معظمنا، كوننا نحبّذ الإعتقاد بتفوق الإنسان على سائر المخلوقات بطريقة حذقة ما. وأفضل ما يمكننا القيام به هو إظهاره متفوّقًا بالضرورة، عندها لن يكون هنالك أيّ خطرٍ يهدّده بخسارة موقعه الرياديّ… من الأرحج أنّ سبب الشعبية القويّة التي تكتسبها هذه الحجة بين المثقفين يعود إلى كونهم يثمّنون القوى المفكرة أكثر من غيرهم و يميلون أكثر من غيرهم أيضًا إلى تأسيس اعتقاداتهم عن تفوّق الإنسان على هذه القوى.
لا يأخذ تيورينج هذه الحجة على محمل الجد أبدًا ويرفضها بالكلمات الساخرة التالية : «لا أعتقد أن هذه الحجة جوهريّة بما فيه الكفاية لاستدعاء الدحض. لعل المواساة هي الأكثر ملائمة: ولربما يجب البحث عن هذا الأمر في تقمّص الأرواح» (تيورينج 1950:15).
لكنّ أولئك الذين كان لهم نظرة معاكسة لنظرة تيورينج لم يدعوه يفلت بسهولةٍ بحجته هذه. لا بل على العكس، فقد استخدموا الذين درسوا أفكار تيورينج عن كثب أمثال لوكاس، غودل وبنروز برهانيّتا غودل الّلاتماميّة للمحاججة بأنّ الذهن البشريّ يختلف في بعض جوانبه الأساسيّة عن آلة تيورينج. فمن الواضح هنا أنّ بعض الإلمام ببرهنيّتا غودل الّلاتماميّة هو أمر ضروريّ لفهم حججهم، لذلك سأقوم في القسم التالي بتقديم عرضًا لاصوريًّا موجزًا لغير المطلّعين على هذه البرهانيّات. أما بالنسبة للمطّلعين عليها فيمكنهم أن يهملوا هذا القسم، في حين يمكن لغير المطّلعين من الذين يريدون النظر إليها بالتفصيل مراجعة بَحْثَ غودل الأصليّ الصادر سنة 1931 أو العرض الأحدث الذي قام به كلّ من بل وماكوفر (1977:316-60) أوعرض مندلسون (1964:102-58).
2-6 عرض لاصوري لبرهانيّات غودل اللّاتماميّة
تُعنى برهانيّتا غودل اللّاتماميّة بالأنساق الصوريّة للأرثماطيقا. لذا، سأبدأ بالتعليق على هذه المصطلحات بالترتيب المعكوس. بالطبع أنّ الأرثماطيقا هي علم مألوف لدى الجميع منذ العصور الأولى. بيد أنّ المعنى الذي استُخدمت فيه بصلتها مع برهانيّتا اللّاتماميّة يختلف قليلاً عن المعنى الذي تُستخدم فيه بالحياة اليوميّة. تُعنى الأرثماطيقا في كلا المعنيين بإضافات مثل 5+7= 12، وعمليّات ضرب مثل 6×9 = 54. إلّا أنّ الأرثماطيقا في حياتنا اليوميّة تحتوي على كسور مثل 4/3، كما تحتوي أحيانًا على أرقام سالبة. يمكن لرصيدٍ بنكي بقيمة -3 أن يساوي سحبا زائدا بقيمة 3 باوند. لكننا سنشير بمصطلح الأرثماطيقا فيما يلي إلى ما يُعرف بالأرقام الطبيعيّة فقط مثل، 0،1،2،3،…. وبالتالي ستُستبعد الكسور والأرقام السالبة. كما سيتوسّع معنى الأرثماطيقا ليشمل الأحكام العامّة حول الأرقام الطبيعيّة وليس الإضافات وعمليّات الضرب البسيطة فقط. إليك بمَثل عن هذه الأحكام العامة : لكلّ عدد طبيعيّ ن مُعطى، يوجد عدد طبيعيّ م حيث كون م أكبر من ن (م > ن)، و يكون م عددا أوّليا. يكون العدد الطبيعيّ عدد أوّلي إذا كان لا يقبل القسمة إلّا على العددين الطبيعيّين التاليين فقط: 1 وعلى عينه. سنستخدم من الآن وصاعدًا كلمة عدد للدلالة الحصريّة على الأعداد الطبيعيّة بمعنى أنّ الأعداد ستقتصر على 0،1،2،3،…. يمكن اعتبار الأرثماطيقا بالمعنى الذي سنستخدمها فيه أنّها نظريّة العدد.
لقد ظهرت الأرثماطيقا بهذا المعنى في بدايات تاريخ الرياضيّات مع أعمال المدرسة الفيثاغوريّة في اليونان القديمة. ومع ذلك، فقد عالج اليونانيّون القدماء ومن خلَفهم وصولاً إلى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر الأرثماطيقا وعلم الهندسة بطريقتين مختلفتين جدًّا. فقد أكسم إقليدس علم الهندسة في زمن اليونان القديم وبقيت تُقدّم على أنها نسق أكسيومي استنباطيّ. رغم ذلك، لم يحاول اليونانيّون وخلفاؤهم طيلة هذه القرون العديدة أن يقدّموا الأرثماطيقا كنسق أكسيوميّ. فقد تَمّ تقديم الأعداد بأسلوب لاصوريّ، وتَم البرهنة على مسائلها المعقّدة، إلّا أنّه لم يحاول أحد أن يشتقّ جملة نتائج من مجموعة أكسيومات مفردة إلّا مؤخرًا في ثمانينيّات القرن التاسع عشر. لقد طُوّرت أولى الأنساق الأكسيوميّة للأرثماطيقا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بواسطة جهود فريغه، دديكيند وبيانو (لمزيد من التفاصيل انظر غيليز 1982).
قَدّمَ ديديكند نسقه الأكسيومي بشكل لاصوريّ تمامًا كما فعل إقليدس. بينما سعى كل من فريغه وبينو لخلق نسق أكسيوميّ للأرثماطيقا مُصَوْرَن بالكامل. يُعبّر في مثل هذه الأنساق الصوريّة عن الأكسيومات بلغة رمزيّة تكون أدق من اللغة العاديّة، ويجب أن تكون كل خطوة في البرهانيّة مسوّغة من خلال الاحتكام إلى عدد صغير من قواعد الاستدلال المقررة بدقة.
استمرت أعمال فريغه وبيانو فيما بعد من خلال أعمال وايتهد وراسل اللذان أنتجا في ثلاثة مجلدات ضخمة نشرت بين عامي 1910 و 1913 نسقًا صوريًّا مشهورًا يُعرف باسم مبادىء الرياضيّات Principia Mathematica أوM P على سبيل الاختصار3. كان هذا النسق بغاية الأهميّة للأسباب التالية : فقد زعما أنّ أكسيومات هذا النسق هي حقائقَ منطقيّة، واعتقدا أيضًا أنّه يمكن البرهنة على أيّة برهانيّة رياضيّة في نسق مبادىء الرياضيّات هذا. ولو صدقا بذلك لتبيّن آنذاك أنّ ما عِلْم الرياضيات إلّا امتداد للمنطق. يُعرف هذا الزعم بالفلسفة المنطقانيّة للرياضيّات. بالطبع أنّه لم يكن بمقدور وايتهد وراسل البرهنة على كل مسائل علم الرياضيّات الموجودة آنذاك، ناهيك ذلك عن كل مسائل علوم الرياضيّات المستقبلية. لكنهما استطاعا في مجلّداتهما الثلاثة الضخمة البرهنة على عدد كبير من المسائل الرياضيّة بحيث تبدو في نهاية المجلد الثالث إمكانيّة البرهنة على أيّة مسألة رياضيّة إضافيّة أخرى في نسقهم الصوري هي أمر معقول. لكن غودل استطاع بناء حُكم أرثماطيقيّ صادق لا يمكن البرهنة عليه في نسق مبادىء الرياضيّات (مع الأخذ بعين الاعتبار بأنْ نسق مبادئ الرياضيّات لبّى بعض الشروط). وهكذا بيّن غودل عدم صحّة فلسفة الرياضيّات المنطقانيّة التي وضعها راسل و وايتهد.
لقد تمت الإشارة بوضوح إلى العلاقة بين برهانيّتا غودل اللّاتماميّة وفلسفة راسل و وايتهد المنطقانيّة في الرياضيات في عنوان بحث غودل الصادر سنة 1932 والذي تمحور «حول القضايا غير القابلة للبت صوريًّا في مبادىء الرياضيّات والأنساق ذات الصلة». لكنه، وكما يظهر من العنوان أيضًا فإنّ نتائج البحث لا تنطبق على نسق مبادىء الرياضياّت فحسب، بل على كل نَسَق صوريّ آخر يشبهه. وإنّني الآن على وشك ذكر أولى برهانيّتا غول اللّاتماميّة، أو بالأحرى النسخة اللّاحقة لها التي برهنها روسر عام 1936 والتي باتت تُعرف في بعض الأحيان باسم برهانيّة غودل-روسر4. لا تُعنى هذه البرهانيّة بنسق مبادىء الرياضيّات وحسب، لكنها تخص كل نسق صوريّ اعتباطيّ ن يُلبّي بعض الشروط المُحددة.
برهانية غودل اللّاتماميّة الأولى. إذا كان ثمّة نَسق صوري ن بحيث أنّ(1) ن هو متماسك و(2) يمكن في ن اشتقاق عدد كبير بما يكفي من الأرثماطيقا، عندئذ يمكن إيجاد في ن قضيّة ق غير قابلة للبت وبقول آخر، قضيّة ق بحيث لا يمكن البرهنة على ق في ن، ولا على سلب ق (ليس – ق) في ن. لكن يمكن بواسطة حجّة لاصوريّة إظهار أنّ ق هي حكم أرثماطيقيّ صادق خارج ن.
إليك ببعض التعليقات عليها تباعًا: إنّ الشرط الأوّل، أي ضرورة أن يكون ن متماسكاً، يعني أنّه لا يمكننا اشتقاق تناقض على صورة ق & ليس ق في ن. وبما أنّنا أخذنا بأنّ المنطق الضمنيّ لـ ن هو المنطق الكلاسيكيّ العاديّ، فإذا كان ن نسق لامتماسكًا يمكننا إذًا إظهار أنّ البرهنة في ن على أيّة قضيّة ما هي أمر ممكن وبالتالي، وفقًا للمنطق الكلاسيكي، فإنّ أيّ شيء يُستتبع من تناقض. ممّا يعني أنّ الأنساق اللامتماسكة هي عديمة الفائدة عمليًّا في المنطق الكلاسيكيّ. وينصّ الشرط الثاني على إمكانية اشتقاق كمية كبيرة بما فيه الكفاية من الأرثماطيقا في ن. يمكن تحديد معنى «كمية كبيرة بما فيه الكفاية» على وجه الدقّة في النسخة التقنيّة الكاملة للبرهانيّة.
كيف نبرهن الآن على مثل هذه البرهانيّة المميّزة؟ لقد قال غودل أنّ فكرة البرهان وثيقة الصلة بمفارقة الكذّاب (غودل 1931: 149). فلنتبع إذًا هذا الخيط . فإذا ما نظرنا إلى الصورة التالية نلاحظ أنّ صورة واحدة فقط تنشأ عن مفارقة الكذّاب :
هذه الجملة كاذبة.
سيقتنع القارئ بعد تأمّل بسيط بأنّ الجملة أعلاه هي صادقة إذا كانت كاذبة وكاذبة إذا كانت صادقة وهذا تناقض. ولكن في حال أردنا الحصول على لغة متماسكة سيتوجب علينا صياغة قواعد تمنع تشكّل مثل هذه المُفاراقات.
لقد أراد غودل في الواقع بناء جملة شبيهة بتلك الموجودة في نسخة مفارقة الكذّاب التي قدمناها للتو دون أن تخلص إلى تناقض وإنما تنتهي إلى إرساء صيغة غير قابلة للبتّ في ن. إنّ الجملة المنشودة هي تقريبًا كالتالي:
هذه الصيغة غير قابلة للبرهنة في ن.
لنسَمّي هذه الجملة ق. فإذا كانت ق قابلة للبرهنة في ن يمكننا إذًا اشتقاق تناقض لأنّ ق تقول أنّها غير قابلة للبرهنة في ن. ولكننا سبق وأخذنا بأنّ ن متماسكة، وبالتالي فإنّ ق غير قابلة للبرهنة في ن. إنّ هذه الحجة شظفة ولاصوريّة لكن يمكننا صورنتها في برهان تقنيّ كامل لبرهانيّة غودل. نستطيع الآن ان نستنتج عرضَاً أنه يجب على ق أن تكون صادقة لأنّ ق تصرّح بأنّها غير قابلة للبرهنة في ن، وهذا هو الحال بالتأكيد.
لإتمام برهان برهانيّة اللاتماميّة الأولى يجب علينا أيضًا أن نظهر أنّ سلب ق (ليس- ق) هو أيضًا غير قابل للبرهنة في ن. يبدو أنّ هذا البرهان هو أصعب بقليل وبالتالي لن أقوم بشرحه بشكل لاصوريّ. لكي يتمكن غودل من إظهار أنّ ليس- ق غير قابلة للبرهنة في ن كان عليه الأخذ بأنّ ن هو ليس نسق متماسك فقط وإنما هو ما يسميه بـ ?-متماسك. فـ ?-التماسك هي شرط أقوى من التماسك، بمعنى أنّه إذا كان النسق ?-متماسك فهو متماسكًا ولكن العكس ليس بالضرورة صحيح . استطاع روسر في العام 1936إظهار إمكانية البرهنة على البرهانيّة الأصليّة آخذين بالتماسك فقط وتكمن من القيام بذلك من خلال تغيير صورة الجملة غير القابلة للبتّ من ق إلى شيءٍ أكثر تعقيدًا. لقد شرح مندلسون في كتابه الصادرعام 1964 (ص 142-7) بكل وضوح الفرق بين برهانيّة غودل الأصليّة وبرهانيّة غودل – روسر. كما يشرح مندلسون أيضًا الفرق بين التفسيرات الحدسيّة لجملة غودل الأصليّة غير القابلة للبت وجملة روسر الغير قابلة للبت.
يجب أن أعترف هنا أنّني أقترح القيام بعمليّة غشٍّ صغيرةٍ بغية تبسيط هذا العرض اللاصوريّ. سأنظر إلى الجملة الغير قابلة للبتّ في صورتها الأصليّة التي قدّمها غودل أي إنّ هذه الصيغة غير قابلة للبرهنة في ن، بدل من النظر إلى جملة روسر غير القابلة للبتّ الأكثر تعقيدًا. وفي الوقت عينه، سآخذ برهانية اللاتمامية الأولى بصورة غودل- روسر الأقوى لتفادي مشكلة النظر إلى شرط ?-التماسك الاكثر تعقيدًا من شرط التماسك الذي هو أبسط منه. وسرعان ما سيتراءى للقارىء أنّ هذا الإجراء هو ليس صحيحًا بشكل حاسم ألا أنّه لن يقودنا إلى أيّة تصورات خاطئة.
لقد أظهرنا حتى الآن أنّه في حال تمكنّا من إنتاج حكم يؤكّد لاقابليته للبرهنة في ن سنتمكن آنذاك من إرساء البرهانيّة. كيف يُمكننا إنتاج مثل هذا الحُكم ؟ يجب أن نتذكر أنّ ن هو نسق صوريّ لاشتقاق أحكام أرثماطيقيّة، أي أحكام في العدد. كيف يمكن لمثل هذا الحُكم أن يصرح بأنّه غير قابل للبرهنة في ن؟ لإنجاز مثل هذا الأمر، علينا اللجوء إلى فكرة ثانية مبدعة ابتكرها غودل. لقد أدخل غودل نوعًا من الكودة التي تربط عددًا بكل حكم من أحكام ن. هنالك قاعدة تخوّلنا اشتقاق الحكُم من العدد وقاعدة أخرى تخوّلنا الحصول على العدد من الحُكم. تُعرف الآن عملية إسناد الأرقام إلى الأحكام باسم تعداد غودل. لنرى كيف يعمل هذا الإجراء في مثل بسيط مأخوذ من اللغة العاديّة وليس من نسقٍ صوريّ.
أنظر الى التالي:
القطة على بساط
لنربط الأعداد بالحروف وفقاً للأسكيمة التالية :
ق ط ع ل ى ب س ا ة
1 2 3 4 5 6 7 8 9
لنرمز بالعدد 0 إلى الفراغ بين الكلمات. وبالتالي سنتمكن من ربط جملتنا المألوفة بالأرقام التالية :
21760543092148
أمّا إذا أردنا الحصول على الجملة الأصليّة من الأعداد الواردة أعلاه سيتوجب علينا أولًا النظر إلى الأصفار ما سيتحطّم الرقم إلى أرقام تتناسب مع الكلمات. ومن ثمّ نستخدم التضايف بين الأرقام وأحرف الأبجدية للكشف عن الكلمات.
من السهل توسيع هذا الإجراء ليشمل أكثر من جملةٍ مفردة أي جملتين، ثلاث جمل وأكثر. لنفترض، على سبيل المثال، أنّه لدينا الجملتان التاليتان :
القطّ على بساط. سقط القطّ
(من أجل تفادي أية تعقيدات، لقد إعتمدت اصطلاح إي. إي. كامنز في إهمال الحروف الكبيرة لكي نتمكّن من تكويد هاتين الجملتين في عددٍ واحدٍ. كما سنشترط بأنّ يرمز الصفران المتتاليين إلى نقطة. وبالتالي سيصبح عدد الجملتين ببساطة كالتالي :
214802170021760543092148
إنّ تبيان الجمل الأصليّة من العدد هو أمر بغاية السهولة. فما علينا أولاً إلّا النظر إلى العدد وانتقاء الصفرين (00). الأمر الذي سيُحطّم العدد إلى أعدادٍ تتناسب والجمل. ومن ثم ننظر إلى الأصفار في كل عدد- جملة، وهذا ما سيُحطّمها الى أعداد- كلمة. وأخيرًا، نستخدم التضايف بين الأعداد والأحرف بغية الكشف عن الكلمات الأصليّة.
يُمكن أن يعترض البعض على المنهج الذي قدّمته كونه لا ينطبق إلاّ على الجمل المؤلّفة من الأحرف التسعة المعطاة سابقًا. وهذا إعتراض بمحله، لكنّه من السهل أيضًا توسيع هذا المنهج ليشمل الأبجدية كلّها بالإضافة إلى الحروف الكبيرة إذا أردنا ذلك. لكننا عادة ما نكتب الأعداد على أساس الـ10، وبناءً على ذلك نستخدم 10أرقام فقط وهي 0, 1, 2, …،9. بيد أنّه يمكن التعبير عن الأعداد وفقًا لأيّ أساس نريد. تتألف الأبجديّة (اللاتينيّة) من 26 حرفاً. وفي حال احتسبنا الأحرف الكبيرة أيضًا سيصبح لدينا 52 حرفًا. كما يمكن أن نرغب أيضّا بإضافة علامات التنقيط مثل علامتا الاقتباس (رمزان لكل علامة)، الفاصلة، الفاصلتين، علامة الوقف وعلامة الإستفهام، ليصبح لدينا بعد ذلك 60 رمزًّا أساسيًّا. وبالتالي، إذا عبّرنا عن أعدادنا على أساس الـ61 سيكون لدينا رقم واحد لكل رمز أساسيّ، ما سيخولنا استخدام المنهج الذي أشرنا إليه أعلاه لكتابة عدد يقابل أية سلسلة جمل في اللغة الإنجليزية. ويمكننا على سبيل المثال كتابة عدد يُقابل رواية ميدل مارش لجورج إليوت. ولربما حبّذ أحد المتصوّفين ربط الخصائص الرياضيّة لهذا العدد بالخصائص الأدبيّة للرواية، وهنا تجدر الإشارة إلى إمكانية التكويد (أي الترقيم الخاص بغودل) بطرق عديدة مختلفة،وقد قدمت هنا مثل واحد بسيط .
وبالعودة إلى نسقنا الصوري ن، فبمجرد إنجاز الترقيم الخاص بغودل لكل العبارات والصيغ ومتواليات الصيغ نصبح في وضعيّة تسمح لنا بترجمة أحكام على النسق الصوري ن إلى أحكام أرثماطيقا. لنرى الآن كيف يمكن القيام بذلك تقريبًا من خلال مثلٍ بسيط. إنظر الآن إلى الحكم التالي: أ هي برهانيّة من ن. سيكون لـ أ عدد غودليّ سميه غ. ومن ثم يُصبح الحكم كالتالي: يوجد عدد ع حيث أنّ ع هو عدد غودل لبرهان في ن من الصيغة ذات العدد الغودلي غ. لكي نتحقّق مما إذا كان العدد المحدّد ع هو عدد غودل لبرهان في ن من الصيغة غ، يتوجب علينا أوّلاً التحقّق مما إذا كان العدد ع ينكسر إلى سلسلةٍ من الأعداد تكون مقابلة للصيغ. كما يجب أن يكون العدد غ آخر هذه الأعداد. ويجب أيضًا على كلّ عددٍ يسبقه في السلسلة إمّا أن يكون عدد لأكسيومة ما او عدد لصيغة ما تُستتبع من صيغ سابقة لها في السلسلة بواسطة إحدى قواعد الاستدلال. وبما أنّ قواعد الاستدلال هي أيضًا مرقّمة، يقتصر التحقق مما إذا كان هذا الاحتمال الأخير قادر على الصمود مجدّدًا، على التحقّق مما إذا كان يوجد أعداد محدّدة مرتبطة فيما بينها بأسلوبٍ محدّد. وبهذه الطريقة تتم ترجمة الحكم « أ هي برهانية من ن « إلى حكم في الأعداد يمكننا التحقّق منه بتقنيّات الأرثماطيقا. لكننا نأخذ الآن بإمكانية إشتقاق في ن كميّة كبيرة بما فيه الكفاية من الأرثماطيقا. وبالتالي سيكون بوسعنا التعبير عن الحكم الأرثماطيقيّ المقابل لـ» أ برهانيّة من ن» كصيغة لـ ن بحدّ ذاته. ويكون الإجراء العام هنا كالتالي: نبدأ من حكْم في ن، ومن ثمّ نستخدم التعداد الخاصّ بغودل لترجمته إلى حكْم في الأرثماطيقا، ومن ثم نصرّح عن هذا الحكْم الأرثماطيقيّ بصيغةٍ في ن. سيتراءى للقارئ الآن أنّه كل ما يتوجب علينا فعله للحصول على صيغة غير قابلة للبت في ن هو تطبيق هذا الإجراء العامّ على الحكْم ق، أي أنّ هذه الصيغة غير قابلة للبرهان في ن. سأظهر الآن بالتفصيل كيفيّة القيام بهذا الأمر.
يتوجب علينا عند هذه النقطة استخدام مفهوم تقليدي للمنطق سبق لنا أن ناقشناه في الفصل الثاني،ألا وهو تصوّر المحمول الأحاديّ. إنّ هذه الفكرة موجودة في المنطق الأرسطيّ وبإمكاننا توضيحها بالمثل المألوف التالي: «سقراط فان». تنقسم هذه الجملة الى موضوع: سقراط، ومحمول: ‘… فانٍ‘. من المتوافق عليه كتابة المحمولات بمتغيّرات مثل : سـ ، صـ ، عـ ، …، وبالتالي يصبح هذا المثل كالتالي: «سـ فان». بالطبع أنّه يمكننا استخدام مثل هذه المحمولات للأعداد تمامًا كما نستخدمها للكائنات البشرية، مثال على ذلك: سـ هو عدد صحيح، سـ هو عدد أوّلي وما الى ذلك. يُمكننا أيضًاً، إدخال محمولات بمتغيّرَين حتى وإن لم يسبق وأن فعلوا ذلك في العالم القديم. ليصبح لدينا: «سقراط أكبر من أفلاطون» في مقابل «سـ أكبر من صـ»، ويصبح لدينا: «5 أكبر من 3 » مقابل « سـ أكبر من صـ » وما إلى ذلك. وإذا كان للمحمول متغيّر واحد يُسمى محمول أحاديّ الحدود؛ وإذا كان له متغيّران يُسمّى محمول ثنائيّ الحدود. كما يمكننا بواسطة أسلوب مشابه إدخال محمولات بثلاثة، أربعة أو حتّى بأي عدد نريد من الحدود. لكننا لن نكون بحاجةٍ إلى أكثر من محمولاتٍ أحاديّة الحدود لنتمكن من النظر إلى برهانيّة غودل .
يمكن كتابة محمول أحادي مثل ‘سـ فانٍ‘ بـ ‘سـ هو حا‘، لكنّه سيكون أكثر ملائمة استخدام التدوين التالي: حا(سـ). سيكون الآن لـنسقنا الصوري ن العديد من المحمولات الأحادية الحدود للأعداد. وستكون أمثلتنا السابقة «سـ صحيح» و«سـ أوّلي» موجودة في ن بالإضافة إلى الكثيرغيرها من المحمولات الأحاديّة. كما سيكون لهذه المحمولات الاحاديّة أعداد غودل. فإذا كان عـ هو عدد غودل لمحمول ما، يمكننا تدوينه كالتالي: حاعـ (سـ).ليُصبح بوسعنا بعد ذلك، إدخال محمول أحاديّ الحدود للأعداد بواسطة هذا التدوين أي: حاسـ (سـ). ويَكون هذا صادقًا للعدد عـ إذا كان عـ هو عدد غودل للمحمول الأحاديّ الحدود حاعـ (سـ)، وإذا كانت حاعـ (عـ) صادقة؛ وإلاّ كان المحمول كاذبًا للعدد. أمّا لناحية حاسـ (سـ)، فيمكننا أيضًاً تحديد محمول أحاديّ الحدود آخر ما(سـ) على سبيل المثال كالتالي:
ما(سـ) = لكلّ الأعداد عـ، عـ ليس عدد غودل لبرهان في ن على حاسـ(سـ)
إنّ ما(سـ) محمول أحاديّ الحدود للأعداد. وإذا أمكن إشتقاق في ن كميّة من الأرثماطيقا كبيرة بما فيه الكفاية، فسيحتوي ن على ما(سـ) كإحدى محمولاته للأعداد. لكلّ واحد من هذه المحمولات عدد غودل. فليكن عدد غودل لـ ما(سـ) هو غـ. فإذاً ما(سـ) = حاغـ(سـ). و بالتالي لدينا :
حاغـ(سـ) = لكلّ الأعداد عـ، عـ ليس عدد غودل لبرهان في ن على حاسـ(سـ)
و(سـ) هنا هو متغيّر يمتدّ على الأعداد كلّها. وبالتالي يمكننا إبدال غـ بـ سـ لنحصل على :
حاغـ(غـ) لكلّ الأعداد عـ، عـ ليس عدد غودل لبرهان في ن لـ حاغـ(غـ)
وهكذا نكون قد انتهينا الآن. إنّ حاغـ(غـ) هي جملة أرثماطيقيّة من ن يمكن تفسيرها بواسطة القسم الأيمن من المعادلة أعلاه، على أنّها تقول أنّها غير قابلة للبتّ في ن. هكذا، ومن خلال الحجّة الموضّحة سابقاً، تكون حاغـ(غـ) قضيّة غير قابلة للبت وبذلك نكون قد برهنّا على برهانيّة غودل اللاتماميّة الأولى.
قبل متابعة النظر إلى برهانيّة غودل اللاتماميّة الثانية ، أودّ القيام بتعليقين إضافيّين على البرهان الذى عرضته للتوّ. أوّلاً، من المحتمل أنّ يكون الشك مازال يثاور بعض القرّاء حيال اعتبار صيغة ما في ن تقول بأنّها غير قابلة للبرهان في ن. لقد قارن غودل هذا الأمر بمفارقة الكذّاب، ومن المؤّكد أنّه توجد أشبهيّة ما؛ لكن، ألا يعني هذا الأمر أنّ جملة غودل بذاتها غير مسوّغة ومفارِقة مثلها مثل جملة مفارقة الكذّاب؟ ويكون الجواب عن هذا الاعتراض بأن جملة حاغـ(غـ) الغير قابلة للبتّ هي جملة عن الأعداد معقّدة فحسب. ويمكننا تفسير حاغـ(غـ) بأنّها غير قابلة للبت في ن فقط إذا أدخلنا تكويدًا معينًّا مُستخدمين أعداد غودل. ففي تكويد مختلف لن تصرح حاغـ(غـ) أنّها غير قابلة للبتّ في ن، وسيكون هنالك جملة أخرى ذات صلة بهذا التكويد الجديد غير قابلة للبتّ. تُظهر هذه الاعتبارات أنّه لا يوجد شيء في جملة حاغـ(غـ) بذاتها يمكن أن يؤدي إلى نشؤ مفارقات.
تعليقي الثاني هو عبارة عن نقطة نوعيّة حول الطابع العامّ للبرهان. إنّ هدف البرهان، بدءًا من نسق صوري ن يمكن الاشتقاق منه كميّة من الأرثماطيقا كبيرة بما فيه الكفاية، هو إنتاج قضيّة عن الأعداد تكون صادقة وغير قابلة للبتّ داخل ن. فعلى سبيل الاستعارة، لقد حقّقنا هذا الهدف كما لو كنّا واقفين خارج ن وناظرين إلى ن ككلّ. الأمر الذي خوّلنا رؤية شيء صادق لا يمكن بتّه من داخل ن. تظهر هذه السمة بـ«النظر من الخارج إلى ن ككلّ» في تعريف الجملة غير القابلة للبتّ. ويعني هذا الأمر أنّ لكلّ الأعداد عـ، عـ ليست عدد غودل لبرهان في ن على حاغـ (غـ)، ووبالتالي تشير ضمنيًّا إلى البراهين كلّها في ن. هذه الإشارة إلى البراهين كلّها في ن تحمل بدورها اشتراط النظر إلى ن من الخارج. لقد جئت على ذكر هذا الجانب من البرهان لأنّه سيكون ذات أهميّة عندما سننظر إلى كيف يمكن أن تُطبّق مبرهنات غودل اللاتماميّة على مشكلة الأذهان والآلات.
سأختم الآن هذا القسم برسمٍ تخطيطيٍّ مختصر لبرهانية غودل اللاتماميّة الثانية. يجب ألاّ ننسى أيضًا أن برهانيّة غودل اللاتماميّة الأولى دحضت فلسفة الرياضيّات المنطقانيّة التي وضعاها راسل و وايتهد. وأنّ برهانيته الثانية دحضت فلسفة رياضيّات كبرى أخرى أيضًا. ألا وهي النظرة الصورانيّة التي كان يذود عنها عالم الرياضيّات الألماني دايفيد هيلبرت وأتباعه في غوتنغن. لقد اعتقد راسل ووايتهد أنّه يمكن صياغة أيّة مسألة رياضيّة والبرهنة عليها داخل نسق صوريّ واحد كبير تكون أكسيوماته أكسيومات منطقيّة فقط. وقد أملا بهذه الطريقة أن يختزلا كل الرياضيّات بالمنطق. كما اعتقد هلبرت أيضًا بوجوب صَوْرنة الرياضيّات، إلّأ أنّه كان مستعدًّا للسماح بعّدة أنساق صوريّة عوضًا عن نسقٍ واحدٍ فقط. بالتأكيد أنه يوجد أنساق صوريّة مختلفة لكل فرع من فروع الرياضيّات مثل الأرثماطيقا، الهندسة، نظريّة المجموعات وما الى ذلك. أضف إلى ذلك أنّ أكسيومات هذه الأنساق الصوريّة لن تكون أكسيومات منطق، وإنّما أكسيومات تتلاءم والموضوع الذي نريد معالجته، كأكسيومات الأرثماطيقا على سبيل المثال. لتفادي نشوء أي تناقضات في الرياضيّات، اعتقد هيلبرت أنّه من الأهميّة بمكان ما البرهنة على تماسك هذه الأنساق الصورية المتعدّدة. كما أنّه اشترط على مثل براهين التماسك هذه، أن تستخدم مناهج الآرثماطيقا الآوليّة دون غيرها. وبما أنّ الأرثماطيقا الأوليّة جليّة التماسك، يمكن لهذا الإجراء أن يؤمّن أساسًا صلبًا للرياضيّات. تُعرف محاولة إنتاج مثل براهين التماسك هذه باسم برنامج هيلبرت، ففي اوائل الثلاثينيّات وعندما كان هيلبرت يعمل مع أتباعه على هذا البرنامج، أظهرت برهانيّة غودل اللاتماميّة الثانية أنّ إنجاز مثل هذا البرنامج هو أمر مستحيل. فإذا جعلنا، كما في السابق، من (ن) نسقًا صوريًّا يمكن الإشتقاق منه كميّة من الأرثماطيقا كبيرة بما فيه الكفاية، نستطيع حينها كتابة البرهانيًة على النحو التالي:
برهانية غودل اللاتمامية الثانية. إذا كان ن متماسك، فلا يمكن البرهنة على تماسك ن داخل ن نفسه.
من السهل إذا ملاحظة كيف أنّ هذه البرهانيّة تبين استحالة تحقيق برنامج هيلبرت. ليكن ن نسقًا صوريًّا معقدًّا ما لإحدى فروع الرياضيّات مثل نظريّة المجموعات. من المؤكّد انّنا سنكون قادرين على صياغة أرثماطيقا أوليّة داخل ن، ولكنّه لن يكون بوسعنا البرهنة على تماسك ن بواسطة مناهج الأرثماطيقا الأوّليّة فقط، كما كان يتمنّى هيلبرت.
سأرسم الآن تخطيطًا توضيحيًّا لبرهانية غودل اللاتماميّة الثانية. انظر إلى الحكم التالي: ن هو نسق متماسك. يوازي هذا الأمر القول بأنّه لا توجد في ن أعداد عـ و غـ، حيث يكون عـ هوعدد غودل لبرهان ما على الصيغة أ من ن، في حين يكون غـ عدد غودل لبرهان ما على سلب أ (ليس أ). يمكننا الآن ترجمة ذلك بواسطة المناهج التي وظّفناها في البرهنة على برهانيّة غودل اللاتماميّة الأولى إلى حكم أرثماطيقيّ يمكن التعبير عنه بجملة من ن. لتكن هذه الجملة تماس(ن). لتكن ق بعد ذلك، هي الجملة الغير قابلة للبتّ في ن والتي تقع في برهان برهانيّة اللاتماميّة الأولى أي (حاغـ(غـ)). يستتبع من برهانيّة اللاتماميّة الأولى أنّه إذا كان ن متماسكًا تكون (ق) غير قابلة للبرهنة في (ن). لكن
ق = ق ليست قابلة للبرهنة في ن
وبالتالي يمكننا ترجمة: « إذا كان ن متماسكًا فإنّ ق غير قابلة للبرهان في ن» إلى حكم التالي من ن: «إذا كان متماسـ(ن)، فإذًا ق». لا بل أكثر من ذلك، ومن خلال العودة إلى البرهان الصوري الكامل لبرهانيّة اللاتماميّة الأولى وترجمته إلى ن، وهو أمر مُستطاع لاشتمال البرهان على تصوّرات أرثماطيقية فقط، سنحصل على برهان في ن على الحكم : « إذا متماسـ(ن)، ف ق). لنفترض الآن أنّه بإستطاعتنا البرهنة على تماسك ن من داخل ن. يمكننا آنذاك الحصول على برهان على متماسـ(ن) في ن، لكننا نملك سلفًا، برهانًا في ن على « إذا متماسـ(ن)، ف ق «. وبالتالي فقد حصلنا على برهان ق في ن. بيد أنّه وفقًا لبرهانيّة اللاتماميّة الأولى، إذا كان ن متماسكًا، لا يمكننا البرهنة على ق في ن.
لقد رأينا أن برهانيّتا غودل اللاتماميّة دحضتا فلسفتين رياضيتين كبرتين. فهل تدحضا أيضًا الأطروحة الآليّة القائلة بأنّ الذهن البشريّ ليس أفضل من حاسوب قويّ؟ هذا هو السؤال الذي سننظر إليه الآن.
6.3 حجّة لوكاس
حاول لوكاس في مقال شهير صدرله عام 1960إظهار أنّ المذهب الآلي هو مذهب خاطىء مستندًا إلى برهانيّة غودل اللاتماميّة الأولى (التي يشير إليها بكل بساطة ببرهانيّة غودل) . يذكر بوضوح في المقطع الأوّل من مقاله هذا أهدافه على النحو التالي :
«بيدو لي أن برهانيّة غودل تبرهن على أنّ المذهب الآلي هو مذهب خاطىء، أي أنّه لا يمكن شرح الأذهان على أنّها آلات. والأمر عينه تبدّى لأشخاصٍ كثيرين: لقد عبّر معظم علماء المنطق الرياضيّ الذين ناقشت معهم هذه المسألة عن أفكار مشابهة، لكنهم لم يرغبوا بإلزام أنفسهم كليًّا بها إلى أن يتمكنوا من رؤية الحجة منجزة بالكامل بالإضافة إلى كل الاعتراضات عليها والردود على هذه الإعتراضات. وهذا ما سأحاول فعله.» (لوكاس 1961: 43 )
يقدّم لوكاس صيغ متعدّدة لهذه الحجة، إليك بواحدة :
« مهما بلغت درجة تعقيد الآلة التي بنيناها، وإذا كانت آلة، فسيقابلها نسق صوريّ يكون بدوره عرضة لإجراء غودل لإيجاد صيغة غير قابلة للبرهان داخل هذا النسق. ولن يكون بمقدور الآلة إنتاج هذه الصيغة على أنها صادقة في حين يكون الذهن قادرا على إدراك صدقيتها. وبالتالي ستبقى الآلة نموذجًا لا يطابق الذهن. فنحن نحاول إنتاج نموذجٍ ميكانيكيّ عن الذهن «ميت» جوهرياً وبما أنّ الذهن هو «حيّ» في الواقع، فبإمكانه دائمًا القيام بخطوةٍ أفضل من أيّ خطوةٍ يمكن أن يقوم بها أيّ نسق صوريّ، متحجّر، ميت. وبفضل برهانيّة غودل، ستبقى دومًا كلمة الفصل للذهن». (لوكاس 1961:48)
سأسمّي هذه الحجّة، أو أيّة حجة تشبهها بما فيه الكفاية بحجة لوكاس5. طَرَحَت حجّة لوكاس عددًا هائلاً من النقاشات التي سأحاول عرض بعض خيوطها الأساسيّة في هذا القسم بالإضافة إلى القسميين التاليين. دعوني أبدأ الآن من نقطةٍ أوليّة. تجدر الإشارة إلى أن لوكاس يأخذ بإمكانيّة تمثيل أيّة آلة بواسطة نسق صوريّ (وبآلة هو يقصد آلة الحالة المنفصلة). يقول لوكاس: «سيقابلها، وفي حال كانت آلة، نسق صوريّ…»(لوكاس 1961:48). سأقترح تسمية هذا الأمر بمأخوذة قابليّة التمثّل، التي سأطرح عليها بعض الأسئلة في القسم 6.5. أما في هذا القسم والقسم التالي فسأعتبرها مسألة غير إشكاليّة، الأمر الذي سيوافقني الرأي عليه معظم الذين كتبوا في هذا الموضوع.
لقد شدّد لوكاس أحيانًا على أنّ التعبير الأصلح عن هذه الحجّة يتمثّل بصورة حوار. لربّما أن صورة الحجة هذه هي الأوضح، وتتمتع بحسنةٍ إضافيّة كونها تخولنا الربط بين الحجّة ولعبة الإحتزاء الخاصّة بتيورينج. إليك هذه النسخة من صورة الحوار لحجة لوكاس :
« لكي تستطيع الأطروحة الآليّة الصمود أمام النقد، يجب أن تكون عملية إنتاج نموذج، نموذج مفرد، قادر على القيام بكلّ ما يستطيع الذهن القيام به، عملية ممكنة مبدئيًّا. تشبه هذه العملية اللعبة. حيث يحق للمكيانيكيّ القيام بالمبادرة الأولى. فينتج نموذج ميكانيكيّ ما للذهن بشرط أن يكون نموذجا محدّدا. كما يحق اه تعديل نموذجه، ولكن في كل مرة يعدل نموذجه يحق لي أيضًا البحث عن عيوب فيه. وفي حال استطاع إختراع نموذج لا يمكنني العثور على أيّة عيوب فيه، يتم التثبت من أطروحته؛ وإذا لم يتمكّن من ذلك، لن يتم التثبت منها: وبما أنّه، كما اتضح لنا، لن يتمكّن من القيام بذلك بأي شكل من الأشكال فإنها أطروحة مدحوضة.» (لوكاس 1961:50)
من الواضح أنّ شروط لعبة لوكاس تختلقة كثيرًا عن شروط لعبة الإحتزاء الخاصّة بتيورينج. فلوكاس يطلب من الميكانيكيّ تزوّيده بكامل مواصفات الآلة التي من المفترض بها أن تكون مكافئة لذهن لوكاس. من ثمّ يدحض لوكاس الميكانيكيّ بتطبيق حجة غودل على هذه المواصفات، من خلال إنتاج جملة صادقة ق غير قابلة للبتّ، لا تسطيع الآلة البرهان عليها. أما في لعبة الإحتزاء، فلا يتم تزويد المحقِّق بمواصفات الآلة التي تكون مخبّأة خلف أحد البابين المغلقين. لذا، فإنّ لعبة لوكاس لا تتّصل مباشرة بلعبة الإحتزاء، ويمكن أن يكون هذا السبب من أحد الأسباب التي حالت دون أن يأخذ تيورينج هذا النوع من الحجج على محمل الجدّ كثيرًا.
يمكننا توضيح هذه النقطة بتخيّلنا لوكاس وهو يلعب دور المحقّق في لعبة الإحتزاء. ففحين توجد الآلة التي صمّمها الميكانيكيّ لأداء هذه اللعبة خلف أحد البابين، من المحتمل أن يكون خلف الباب الثاني على سبيل المثال، عالم المنطق الرياضي، زميلي موشي ماكوفر. لنفترض أنّ لوكاس وبعد إنقضاء مدة الخمس الدقائق المحدّدة للتحقيق، يرتكب خطأ ويحكم بأنّ الحاسوب هو الإنسان. وهنا يمكن أن يقول لوكاس التالي : «من المؤكد أنك نجحت في خداعي بلعبة الإحتزاء خاصتك، لكنه مازال من السهل البرهنة بواسطة حجّتي على أن آلتك ليست ذهن موشي ماكوفرعينه. ومن أجل البرهنة على ذلك ما عليك سوى إعطاء موشي ماكوفر المواصفات الكاملة للآلة، برامجها وما إلى ذلك… حينها سيجلس موشي ماكوفر ويعمل على هذه المواد لإنتاج قضيّة ق (قضيّة غودل غير القابلة للبت)، والتي لن يكون بمقدور آلتك البرهنة عليها. سيظهر هذا الامر عدم تطابق آلتك مع ذهن موشي ماكوفر، حتى وإن تم تضليلي بشروط لعبة الإحتزاء إلى أن التبس الأمر عليّ. آمل أن تكون هذا التجربة الفكريّة الصغيرة قد بيّنت الفرق المهمّ بين لعبة الإحتزاء وحجّة لوكاس.
لعلّ أن أول إعتراض على حجّة لوكاس جاء من بوتنام (Putnam) (1961: 77). لقد صاغ بوتنام حجّته بشكل مستقل عن حجّة لوكاس، لكنّه ناقشها معه عندما التقيا في برنستون سنة 1957. جاء موقف بوتنام من هذه الحجًة معاكسًا لموقف لوكاس. بعيدًا عن رغبته في الدفاع عن هذه الحجّة فقد أراد إظهار خطئها. لقد صاغ بوتنام حجّته والاعتراض عليها بمصطلحات آلة تيورينج. وإذا أعدنا صياغة فكرته بمصطلحات الأنساق الصوريّة ستصبح على النحو التالي: لنفترض أنّه لدينا آلة متمثّلة بواسطة نَسَقٍ صوريّ ن. ومن ثّمّ إستطاع مشاهد بشريّ ما (لوكاس، على ىسبيل المثال) بواسطة برهانيّة غودل اللاتماميّة الأولى، إظهار أنّه إذا كان ن متماسك تكون ق صادقة حيث أنّ ق هي قضيّة مرتبطة بـ ن وغير قابلة للبتّ فيه. بيد أنّه، كما يلاحظ بوتنام، يمكن البرهنة على هذا الأمر عينه داخل النَسَق ن. وبالطبع، كما سبق ورأينا في القسم السابق، أنّه يمكننا في داخل النَسَق ن إثبات الحكم المتكافىء التالي : إذا مُتماس(ن) فـ ق. كما يمكن أن يبرهن لوكاس على صدق ق، وبالتالي الحصول على أفضل ما في الآلة، فقط إذا كان بإمكانه البرهنة على أن ن متماسك، لكنه لن يستطيع القيام بذلك مثله مثل الآلة تمامًا .
لقد تَمّ تكرار هذا الإعتراض مرارًا فيما بعد، إلّا أنّه يبدو من الممكن الآن تقديم بعض الأجوبة عليه. فرغم صعوبة تقديم برهان التماسك الكامل على النَسَق الصوري ن ذات الصلة، هنالك إمكانيّة محتملة لتقديم بعض الأسباب المقنعة لافتراض أنّ ن متماسك. إنّ حدوسنا حول الأعداد الطبيعيّة على سبيل المثل، تفترض بقوّة تماسك مجموعة كبيرة من الأنساق الأكسيوميّة للأرثماطيقا. كما أنّه توجد أنساق صوريّة أخرى مثل نُسخ عن نظرية المجموعات الأكسيومية كـ ZFC، يَعمل عليها الكثير من علماء الرياضيّات منذ عقود. فلو كانت مثل هذا الأنَسَاق متهافتًة لبان التناقض بعد مرور كل هذا الوقت، ما يعطينا سببًا وجيهًا لنفترض تماسك هذا النَسَق الصوري. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ لوكاس لا يزعم أنّ بوسعنا البرهنة على صدق جملة غودل ق، لكنه فقط يقول أنه بوسعنا «إنتاجها كصادقة». فهو يقصد بذلك، أنّه بإمكان الذهن البشريّ إنتاج أسباب لاصوريّة، حدسيّة، لكنها تبقى أسباب مقنعة لافتراض صدق ق (مثل الأمثلة التي قدّمناها للتو)، في حين أنّه لا تسطيع الآلة التي تستند إلى برهان صوريّ القيام بذلك. يقدم لوكاس صياغة أخرى لحجّته مصمّمة لتخطّي الاعتراض حول جهلنا تماسك ن. سأتكلم على هذا الأمر في القسم التالي.
سنكرّس القسمين 6.4 و6.5 للنظر إلى الإعتراضات الموجهة إلى حجّة لوكاس ولكن قبل المباشرة بذلك، سيكون من المهم النظر إلى النتائج التي ستستتبّع في حال موافقتنا على صحة هذه الحجة. تتمثل أولى هذه النتائج بأنّ الذهن البشريّ في بعض جوانبه الأساسيّة يتفوّق على أي حاسوب محتمل. فهو قبل كل شيء، ووفقاً لهذه الحجّة، يستطيع دائمًا تخطّي كل ما يمكن للحاسوب القيام به وإنتاج حكم صادق لا يستطيع الحاسوب البتّ فيه. من المؤكد أنّ هذا ألأمر يُظهر تفوّق الذهن على الحواسيب. لكنّ لوكاس يقول بصريح العبارة أنّه لا يبحث في تفوّق الذهن على الآلة، إذ يكتب:
« نحن لا نبحث في ما إذا كانت الاذهان متفوقة على الآلات، وإنّما في ما إذا كانت متساوية فيما بينها. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الآلات تتفوّق على الأذهان البشريّة في بعض النواحي؛ أمّا السؤال الذي يحيّرهم فهو سؤال تافه ومبتذل. إذ يكفي لنا أن نُظهر أنّ الآلة ليست مماثلة للذهن. صحيح أنّه يمكن للآلة القيام بأمور لا يمكن للذهن القيام بها: و لكن إذا كان من الضرورة وجود شيء لا يمكن للآلة القيام به، سيكون باستطاعة الذهن القيام به، فمهما كانت المسألة مبتذلة، لا يمكننا المساواة بين الإثنين، كما لا يمكننا أن نأمل أبدًاً في الحصول على نموذجٍ ميكانيكيٍ يمثّل الذهن على نحو ملائم.» (لوكاس 1961:49)
على الرغم من صراحة هذا الإنكار، إلّأ أنّ نبرة لوكاس في بعض المقاطع الأخرى تفترض أنّه ينظر إلى الذهن البشريّ كونه قبل كل شيء متفوّقا على الحاسوب. لقد سبق أن اقتبسنا قوله التالي: «في الواقع، يمكنه دائمًا (أي الذهن) أن يذهب خطوةً أفضل من أيّة خطوةٍ يمكن أن يقوم بها أيّ نسق صوريّ، متحجّر، ميت « (لوكاس1961:48)، وكتب أيضًاً في بحث لاحق: « ينظر الميكانيكيّ إلى الإنسان كأنّه شيء أقل من الإنسان، أي كونه آلة،… « (لوكاس1968:148). بالطبع أنً هذين المقطعين يشترطان تفوًّقاً لصالح الذهن البشريّ، الأمرالذي يبدو لي نتيحة طبيعيّة لقبول حجّة لوكاس.
كما يبدو أيضًاً من حجّة لوكاس أنها تُقدّم دعمًا للمذهب الثنائي. فإذا كان بوسع الذهن البشريّ قبل كلّ شيء أن يخطو دائما خطوة أفضل من أيّة خطوة تقوم بها أيّة آلة ماديّة ما مثل الحاسوب، يبدو من الطبيعي إذا أنها تفترض أنّ للذهن طابعًا أو جوهرًا مفارق للمادة. لكن مجدّدًا، لم يخلص لوكاس بحجّته هذه الى الاستنتاج الطبيعيّ الظاهر، وإنما كتب التالي: « إنّ هذا الأمر غير كافٍ لإرساء التقليد الثنائي الذي يبدو لي عرضةً لعدّة إعتراضات فلسفيّة…» (لوكاس 1968 : 156)
إنّها لحظة ملائمة لمقارنة آراء لوكاس مع آراء غودل. لقد دافع غودل، كما سنرى، عن المذهب الثنائيّ وعن الأطروحة القائلة بتفوّق الأذهان البشرية على الحواسيب. وبالطبع فقد خلص غودل إلى أنّ برهانيتا اللاتمامية خاصته تُبيّنا فساد المذهب الميكانيكيّ، بيد أنّ حجته في هذا الإستنتاج اختلفت نوعاً ما عن حجّة لوكاس. يُحتمل أن يكون غودل قد توصل إلى هذه الإستنتاجات بعد بوقت قصير من برهنته على برهانيتيه، لكنّ هذا الأمر يبقى تخميناً إلّا إذا سلطت المخطوطات التي خلّفها من بعده أضواء إضافيّة على هذا المسألة، فأراء غودل حول هذا المسألة صدرت سنة عام 1974 بفضل جهود هاو وانغ (Hao Wang) . لقد عقد وانغ سلسلة اجتماعات مع غودل بدأت في اكتوبر الأوّل عام 1971 ناقشا خلالها عددا من المواضيع بما فيها مسألة الأذهان والآلات. نشر وانغ بموافقة غودل عام 1974 قسمًاً من هذه النقاشات تضمن بعض الصيغ التي وضعها غودل (انظر وانغ 1974: 324-6). ناقش وانغ هذه المسألة في مقال لاحق صدر عام 1993 احتوى على بعض المواد الإضافيّة من أحاديثه مع غودل. بناءً على ما قدّمه وانغ أصبح من الممكن إعادة بناء آراء غودل المتعلقة بمسألة الأذهان والالآت.
يقدّم وانغ صيغةَ غودل التالية التي كما يبدو أنّها كانت حجّته المركزيّة في استنتاجه بأنّ الأذهان ليست آلات. وهي تأتي على النحو التالي : « إمّا أنّ الذهن البشريّ يتخطى الآلات كلّها (ولنكون أكثر دقةً : يمكنه البتّ في مسائل العدد النظريّة بكميّة أكبر من أيّة آلة أخرى) أو أنّه يوجد مسائل عددٍ نظريّة لا يستطيع الذهن البشريّ البتّ فيها « (وانغ 1974: 324). يعلّق وانغ بالتالي:
«يعتقد غودل أن هيلبرت كان محقًّاً برفضه البديل الثاني. فلو صحّ ذلك البديل لكان العقل البشري لاعقلاني على الإطلاق بطرحه أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها، ويشدد غودل مؤكداً بأن العقل وحده قادر على الإجابة عنها. سيكون العقل البشري ناقصًا جدًّا، متهافتًا بمعنى ما ومتناقضًا بصورةٍ فاضحة مع حقيقة أنّ أقسام الرياضيات التي تمّ تطويرها نسقياً وبشكل تامّ ( مثل نظرية معادلات الديوفنتين من الدرجة الأولى والثانية، حيث كانت الثانية بمجهولين) أظهرت درجة مدهشة من الجمال والكمال. ففي هذه الميادين ومن خلال قوانين وإجراءات غير متوقعة كلياً (مثل قانون التعاكس التربيعي، الخوارزميّة الإقليديّة، والتطور إلى الكسور المتصلة، إلخ.) لا تزوَّد الوسائل بهدف حل كل المشاكل ذات الصلة فقط وإنما بهدف حلها على أكمل وأجمل طريقة ممكنة ( بسبب وجود التعابير البسيطة المنتجة لكلّ الحلول، على سبيل المثال). من الواضح أن هذه الحقائق تسوِّغ ما يمكن تسميته «التفاؤل العقلاني». (وانغ 1974:324-5)
تبدو ليّ حجّة غودل متمايزة بشكل قاطع عن حجّة لوكاس. فمن جهة هي أدق منطقياً وليست عرضة لاعتراض بوتنام على سبيل المثال ولا هي عرضة للإعتراضات التي سأتعامل معها في القسمين التاليين. ففي حال كان بمستطاع الذهن البشري البت في كل مسائل العدد النظرية يعني ذلك أنّ بإمكانه تخطّي أيّة آلة، إذ سيكون هنالك مسائل عدد نظرية مستعصية البت على أيّة آلة ما معطاة. لاحظ أيضّاً أنّه ينتج عن ذلك حكم يقضي بتفوّق الذهن البشريّ على أيّ حاسوب لا لبس فيه. ومن الجهة الثانية، تعتمد حجّة غودل على مقدّمة أقوى من كل المقدّمات التي استخدمها لوكاس. فغودل يأخذ بإمكانيّة الذهن البشريّ على البتّ في مسائل العدد النظرية كلّها، وهذا بالتأكيد أمر مشكوك فيه.
ففي هذه النقطة بالتحديد يخطو غودل في خطى هيلبرت الذي دافع سنة 1900عن « التفاؤل العقلانيّ» القائل بإمكانية حلّ أيّ مشكلة رياضيّة ما إذا كانت قد تمت صياغتها بشكل واضح. إرتبطّ هذا الأمر بلائحة المشكلات التي إقترح هيلبرت أنها مشكلات تتلاءم و طبيعة عمل مجتمع علماء الرياضيات. هنالك بعض من السّخرية في واقع أنّ غودل الذي دحض فلسفة هيلبرت الصورانيّة للرياضيات هو عينه الذي سيدافع عن نظرته المتفائلة تلك. بالطبع أنّ هيلبرت لم يتلق دعم جميع علماء الرياضيات في هذا المسألة. فقد كتب بروير مستندًا الى هيلبرت الأمر التالي: «لا يوجد ذرة برهان يدعونا إلى الأخذ بالاعتقاد الذي تم طرحه في بعض الأحيان والقائل بعدم وجود مشاكل رياضية غير قابلة للحل» (بروير 1908:109). شاء القدر أن تدعم أولى مشكلات الائحة التي وضعها هلبيرت سنة 1900 وجهة نظر بروير بدلاً من أن تدعم وجهة نظرغودل.
تمثلت مشكلة هيلبرت الأولى في البتّ بصدقيّة فرضيّة المتصل الخاصة بكانتور. إلّا أنّ كل الابحاث التي أجريت لاحقًا، بما فيها بعض من أبحاث غودل، أشارت إلى لا قابلية هذه المشكلة على الحل. وبشكل أدق، فقد بيّن غودل تماسك صدق فرضيّة كانتور المتصلة مع باقي أكسيومات نظريّة المجموعات (انظر غودل 1940). كما برهن كوهين بين عامي 4-1963 على أنّ فساد الفرضيّة المتّصلة متماسك مع باقي أكسيومات نظريّة المجموعات (انظر كوهين 1966). وبالتالي، فإنّ صدق الفرضيّة المتّصلة غير قابل للبت وفقًا لأكسيومات نظرية المجموعات المسلم بها حاليًّاً. بالطبع أنّ هذا الأمر لا يبرهن لا قابلية البت في النظرية المتصلة بالمعنى المطلق للكلمة. لقد إقترح غودل في مقالته الصادرة عام 1963 إمكانية محتملة لوضع أكسيومات جديدة تكون قادرة على حل هذه المشكلة. إذ يقول: « لدينا سبب وجيه يدعونا إلى الإعتقاد بأن الدور الذي تلعبه مشكلة النظريّة المتصلة في نظريّة المجموعات هو الذي سيؤدي إلى اكتشاف أكسيومات جديدة تجعل إبطال حدْس كانتور الافتراضيّ أمرًاً ممكنًاً» (غودل 1963:480). لقد مرّ أكثر من ثلاثين على هذا القول ولم تظهر أية أكسيومات جديدة من هذا النوع. لا بل أكثر من ذلك، حتى ولوّ تم اقتراح أكسيومات جديدة تبتّ في الفرضية المتصلة، يبدو لي أنّه من الأرجح أنّ تصبح هذه الأكسيومات مركز جدال بحدّ ذاتها أكثر من أن يُنظر إليها كحَلٍّ نهائيٍّ لمشكلة النظريّة المتصلة.
يمكن أنّ يعترض البعض على حجة غودل المتعلقة بمسألة الأذهان والآلات كونها تشترط على كلّ مسائل العدد النظريّة قابلية البتّ بواسطة الذهن البشريّ، في حين أنّ ليست كلّ المسائل الرياضيّة (بما فيها مسائل نظريّة المجموعات) قابلة للبتّ. كما أنّه يشوب نظريّة العدد بحد ذاتها الكثير من المشاكل الشديدة التعقيد بحيث أنّ حلّها المطلق هو أمر بعيد كلّ البعد عن أن يكون استنتاجا حتمياّ. أضف إلى ذلك أنّه لن يكون بوسعنا وضع كل مشاكل نظريّة المجموعات جانبًاً كما لاحظ غودل بسبب الأثر الذي تتركه نتائجها في نظريّة العدد. ففي حديثه عن أكسيومات قويّة للامتناهي، قال غودل التالي: «يمكننا البرهنة على أن تبعات هذه الأكسيومات تتخطى ميدان الأعداد المابعد متناهية العظيمة التي تشكل مادة موضوعها المباشر: فبعد الأخذ بتماسك كلّ أكسيومة منها يمكننا تبيان أنّها تفقم من عدد القضايا القابلة للبتّ حتّى في ميدان معادلات الديوفنتين « (غودل 1963:477 ).
وبالعودة إلى حجّة غودل حول تفوّق الأذهان على الآلات، أخلص إلى أنّها مبنيّة على مقدّمة مفادها أنّ كلّ مسائل العدد النظريّة قابلة للبتّ بواسطة الذهن البشري، والتي هي مقدمة أقوى من أن نقبل بها. لذلك فهي حجّة غير مقنعة. على الرغم من هذا الاستنتاج سيكون من المثير للإهتمام تقديم شرح موجز لثنائيّة غودل.
من الظاهر أنّ غودل كان قد كرّس مجهودًا كبيرًا لدراسة حجج تيورينج على مسألة الذهن- الآلة في محاولته للإجابة عنها. فيما يخصهذه الحجج فقد تحدث غودل إلى وانغ عن « مأخوذتين … مقبولتان بشكل عامّ في يومنا هذا وهما : 1- لا وجود لذهن منفصل عن المادة. 2- الدماغ يعمل بشكل أساسيّ كحاسوب آليّ. (يمكن الإنابة عن 2 بـ : ?2- إنّ القوانين الفيزيائيّة بنتائجها القابلة للمشاهدة هي ذات حدود دقةٍ متناهية )» (وانغ 1974:236). ويعلّق وانغ قائلاً : « ففي حين إعتقد غودل أنّ 2 محتملة جدًّا وأنّ ?2 هي يقينية بالفعل، إلّا أنّه إعتقد أيضًا أنّ 1 هو حكم آني مسبق وسيتمّ إبطاله علميًّا (لربما بسبب عدم توفّر عدد كاف من الخلايا الدماغيّة لأداء عمليّات الذهن القابلة للمشاهدة)» (وانغ 1974:326).
لقد إعتقد غودل إذًا أنّ الدماغ يعمل بصورةٍ أساسيّة كحاسوبٍ رقميّ. وكانت حجّته على ذلك هي التالية: بسبب الحدود المتناهية للدقّة في نتائج قوانين الفيزياء القابلة للمشاهدة، يمكننا اعتبار الدماغ كأنّه آلة حالةٍ منفصلة وبالتالي فهو قابل لتمثّل على شكل آلة تيورينج. إنّ الأمر المثير في مزاعم غودل تلك هو أنها كانت أقوى من مزاعم تيورينج الذي دافع عن أطروحة أضعف، زعمت أنّه بوسعنا محاكاة عمليّات الدماغ بواسطة حاسوب رقميّ على نحوٍ كافٍ، بحيث يصبح الكشف عن الفارق بينهما في ظلّ شروط لعبة الاحتزاء أمرا مستحيلا. ومن جهة أخرى، فقد تباعدت وجهات نظرهما بشدّة لا سيما في ما يخص مسألة تأييد غودل لمذهب ديكارت الثنائي. إذ اعتقد هذا الأخير بإمكانية إرساء هذه الثنائيّة علميًّا بمجرد إظهار أنّ عدد الخلايا العصبيّة في الدماغ لا يكفي لتعليل عمليّات الذهن القابلة للمشاهدة.
يقدّم وانغ في بحثه الصادر عام 1993 عددًا إضافيًّا من المواد المتعلّقة بأفكار غودل حول هذه الثنائيّة. يقول وانغ أنّ غودل استخدم إلى حدّ ما في 13 اكتوبر الأوّل سنة 1971 الكلمات التالية :
«حتى لو لم يتمكن الدماغ المتناهي من تخزين كميّة لامتناهية من المعلومات، ستتمكن الروح من القيام بذلك. فالدماغ هو آلة حوسبة متموضعة في حالةٍ خاصّة من الهذيّة المتّصلة بروح. وإذا أخذنا بأنّ الدماغ هو ماديّ و بأنّه حاسوب رقميّ سيصبح لدينا، ومن وجهة نظر ميكانيكا الكمّ، عدد متناه من الحالات. وفقط من خلال ربطه بروحٍ سيتمكن من العمل بطريقةٍ مغايرة.» (وانغ 1993: 127)
تبدو فكرة غودل حول قدرة الذهن على استخدام اللامتناهي مثل نظريّة المجموعات وكأنها تبين عدم إمكانية مماهاته مع آلة متناهية مثل الدماغ. ولربما أنّ غودل كان يعتقد بإمكانية تطوير هذه الفكرة إلى برهان علميّ على المذهب الثنائيّ الذي جاء على ذكره في المقطع السابق.
يتعارض بقوة دفاع غودل عن المذهب الثنائي مع وجهات نظر بنروز6 أيضًا. لقد استفاد بنروز من حجّة لوكاس7 ليتمكن من الزعم أنّه بإستطاعة التفكير البشريّ تخطّي كل ما يمكن إنجازه بواسطة الحاسوب. ويقول في هذا الشأن:
«لقد شكلت مسألة وجود شيء لاخوارزمي في تفكيرنا الواعٍ موضوعًا ملحًّا في الفصول الأولى. لاسيما استنتجنا من حجّة الفصل الرابع التي تُعنى ببرهانيّة غودل على وجه الخصوص، الذي بيّن أنه بوسع التفكير البشريّ أحيانًا، أقله في الرياضيات، تمكين الأنسان من تأكيد صدق حكم ما بطريقة لا تسطيعها أيّة خوارزميّة.» (بنروز 1989:532)
إنّ كل إجراء يتم إنجازه بواسطة حاسوب هو ذات طابع خوارزمي. وبالتالي، فإذا كانت بعض جوانب التفكير البشري لاخوارزمية الطابع مثل ذلك الإجراء الذي يمكّننا من إدراك أن جملة غودل غير القابلة للبتّ في ن هي صادقة في الواقع يجب أن يكون التفكير البشريّ إذًا متفوق على كل ما يمكن إنجازه بواسطة الحاسوب. فالتفكير اللاخوارزميّ الذي يعتبره بنروز السمة الأساسيّة للوعي هو « شيء لا يملك إختصاصيو الذكاء الاصطناعيّ أيّ تصوّر عن كيفيّة برمجته في الحاسوب « (بنروز 1989:532) .
نلاحظ أنّه لايزال هنالك إنسجام بين أفكار بنروز وأفكار غودل، الأمر الذي يجعلنا نتوقع أنّ يخلص بنروز كما خلص غودل من قبله إلى أنّ التفكير البشريّ يعتمد في كيانه على ذهن روحيّ مفارق للدماغ الماديّ. لكنّ بنروز يأخذ خطًّا آخر متميّزًا بعض الشيء. فهو يعتبر أنّ التفكير البشريّ هو نتيجة محققة بواسطة الدماغ الماديّ، لكنّه يُسلّم بأنّ الدماغ يستخدم بعض الآثار الفيزيائيّة التي لايستخدمها الحاسوب، ما يجعله قادرا على التفكير بصورة لاخوارزميّة. وأنّ هذه الأثار الفيزيائية هي ليست نتيجة صادرة عن أيٍّ من النظريّات الفيزيائيّة الموجودة حاليًّا، لذلك توجد حاجة إلى نظريّة فيزيائيّة ثوريّة جديدة قادرة على اشتقاق هذه الآثار لنتمكن من تفسير كيفيّة عمل الدماغ البشريّ.
وبالتالي يحاجج بنروز أنّه هنالك أسباب ذاتية للفيزياء تفسّر الحاجة إلى مثل هذه النظريّة الفيزيائيّة. لقد وَلَّدت ميكانيكا الكم سلسلة من المفارقات التي رغم من كلّ الجهود التي بذلت على مدى أكثر من ستين عامّا لا تزال غير محلولة بصورةٍ مرضية. وعلى وجه التحديد، لايوجد شرح ملائم لكيفيّة تناغم ميكانيكا الكمّ على المستوى المجهريّ مع الفيزياء الكلاسيكيّة على المستوي العيانيّ. يعتقد بنروز أنّه فقط يمكننا حلّ هذه المشاكل إذا إستطعنا وضع نظريّة جديدة، التي سنحتاجها أيضًا في شرح كيفية عمل الدماغ وكيفية إمكانية التفكير اللاخوارزميً بالتحديد. يعبّر بنروز عن هذا الأمر على النحو التالي:
«لم أخفِ أبدًا حقيقة اعتقادي بأنّ حلّ ألغاز نظرية الكوانتم يكمن في اكتشافنا لنظريةٍ أفضل… فنحن ندرك أنّ قوانين الكوانتم هي المسيطرة على المستوى المجهري التحتيّ؛ في حين أنّ قوانين الفيزياء الكلاسيكيّة هي السائدة على مستوى حَجْم طابة الكريكيت. سأبقى على رأيّ بأننا، في مكان ما في الوسط، نحن بحاجة إلى فهم قانونٍ جديدٍ لمعرفة كيفيّة اندماج عالم الكوانتم مع العالم الكلاسيكيّ. وأعتقد أيضًا أنّنا بحاجةٍ إلى هذا القانون الجديد إذا ما أردنا أن نتوصل إلى فهم الأذهان يومًا ما ! « (بنروز 1989: 6ـ385).
يقدّم بنروز التلخيص الأنيق التالي لخواص موقفه الأساسية :
« لقد أشرت أيضًا إلى إحتمال وجود حيّز في القوانين الفيزيائية لفعلٍ لاخوارزميّ بمعنى أنّه سيكون من المستحيل محاكاته بشكل ملائم بواسطة الحاسوب لذلك فإنّني أقول أنّه من المحتمل أيضًا نشوء مثل هذا الفعل اللاخوارزميّ فقط في نطاق الفيزياء الذي يشوب فهمنا الحالي له فجوة كبيرة: أي في أرض محايدة بين الكوانتم والفيزياء الكلاسيكية. (من المؤكد أنّ الإجراءات الرياضيّة اللاخوارزميّة هي إجراءات موجودة، ولكنّ السؤال الذي أطرحه هو ما إذا كان لهذه الإجراءات دور في الفيزياء أم لا). كما أحاجج أيضًا أنّنا نملك دليل قوي على أنّ التفكير الواعي بحدّ ذاته هو ليس نشاط لاخوارزميّ وبناء على ذلك، على الدماغ أن يستخدم بشكل جوهريّ إجراءات فيزيائيّة لاخوارزميّة عندما يدخل الوعي حيّزاللعبة. ووفقاً لذلك يجب أن يكون هنالك مظاهر لحركة لدماغ لا يمكن محاكاتها بشكل ملائم بواسطة حركة الحاسوب بالمعنى الذي نفهم به مصطلح «الحاسوب» حاليًا. (بنروز وآخرون 1990:643).
يتابع بنروز محاججًا أنّه يتوجب على أيّة وحدة ذكيّة بشكل ملائم أن تكون واعية، لذلك لا يمكن للوعي أن يكون حاسوبًا وذلك بالإستناد إلى زعمه بأنّ الوعي يتضمن إجراءات لاخوارزمية. وبالتالي، فإنّ مشروع الذكاء الإصطناعيّ هو وهم، والمشتغلون فيه ينتجون «ذهن الإمبراطور الجديد».
بعد عرض جزء من آراء غودل، لوكاس وبنروز عن الأذهان والآلات، سأقدم الآن تلخيصًا موجز عن آرائي الخاصّة حول هذه المسألة، ومن ثَمَّ سأناقشها بالتفصيل في الأقسام المتبقيّة لهذا الفصل. أعتقد أوّلًا أنّه لا توجد حجّة كافية تخوّلنا الاستنتاج من برهانيّة غودل أنّ الأذهان متفوقّة على (أو أقلّه مُختلِفة عن) الحواسيب. لقد سبق وجادلت بأنّ محاولة غودل لبناء مثل هذه الحجّة باءت بالفشل لأنّ المقدمّة المستخدمة – أي أنّ مسائل العدد النظريّة كلّها قابلة للبتّ من قِبَل الإنسان- هي أقوى من أن تُصدّق. سأنظر في القسمين التاليين إلى الاعتراضات على حجّة لوكاس وسأبيّن كيف أنّها مميتة بالنسبة لها (ولنسخة بنروز أيضًا). فمن المحتمل أن أبدو عند هذه النقطة بمظهر المعارض المطلق لآراء غودل، لوكاس وبنروز إلّا أنّ الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فعلى الرغم من هذه الاختلافات إلّأ أنه يوجد بعض مواضع التوافق.
قبل كلّ شيء سأدافع بقوة عن الأطروحة القائلة بأنّ الكائنات البشريّة لطالما كانت متفوّقة على الحواسيب وستبقى كذلك. كما سأزعم أيضًا أنّ طابع هذا التفوّق هو مختلف عن ذلك الذي تخيّله كل من غودل وبنروز. إنّ هذا التفوّق هو برأيي، على مستوى السلطة أو أنّه تفوّق سياسيّ إذا أمكن القول. إنّ تفوّقًا من هذا النوع لا يستلزم إمتلاك الكائنات البشرية اذهانا وأدمغة تستطيع من خلالها القيام بأمور لا يمكن للحواسيب القيام بها. يتلاءم جيّدًا هذا التفوق السياسي مع ما سأبيّنه في كون الذهن والدماغ هما عين الشيء، ويتلاءم أيضًا مع فكرة أنّ الدماغ البشريّ قابل للتمثّل تمامًا في آلة تيورينج وبالتالي، فهو بالمبدأ قابل للمحاكاة الكاملة بواسطة حاسوب رقمي. لذلك، لسنا بحاجة للتسليم بأنّنا نملك أذهانًا قويّة منفصلة عن أدمغتنا، أو بأنّ أدمغتنا تستخدم نوعّا من الفيزياء اللاخوارزميّة الغامضة. بالطبع، أنني لا أدّعي بأنّ هذه التنظيرات المثيرة هي بالضرورة تنظيرات خاطئة، ولكنّني أقول فقط أنّها غير ضروريّة لشرح أيّة سمة من سمات العلاقة القائمة بين الكائنات البشريّة والحواسيب.
سأقدّم في هذه المرحلة حجّة من النوع الغودلي ولكنها ذات طابع مختلف عن تلك الحجج التي سبق ونظرنا إليها. بمعنى أنّني سأعكس وجهة التطوّر هذه. فعوضًا عن البدء من المحاججة في برهانيّتي غودل اللاتماميّة وصولًا إلى تفوق البشر على الحواسيب، سأفترض أنّ الشروط ستسمح بتطبيق حجّة من الطراز الغودلي بمجرّد أن يكون البشر متفوقين على الحواسيب بالمعنى السياسي. سأستخلّص من هذه الحجّة ومن بعض العبارات ذات الصلة أنّ تطوّر الحواسيب والذكاء الاصطناعيّ لن يهمّشان الذكاء البشريّ لا بل على العكس من ذلك سيحثّان التفكير البشريّ على جهود وإنجازاتٍ جديدة. كما سأحاول أيضًا إظهار مدى انسجام هذه الخلاصة مع تقدّمات الذكاء الاصطناعي التي سبق وتحدثنا عنها في الفصول الأولى من هذا الكتاب.
هذا هو إذًا مخطّط ما تبقى لنا من هذا الفصل. سأبدأ الحجة في القسم التالي بمناقشة إحدى الاعتراضات الأساسيّة على حجة لوكاس. لقد كان بناسيراف Benacerraf أوّل من عرض عام 1967 هذه الحجّة التي كانت تُعنى بالحدود الممكنة على المعرفة الإنسانيّة الذاتيّة.
6.4 إعتراضات على حجّة لوكاس: (i) حدود ممكنة على المعرفة الذاتية
يأخذ بناسبراف بالحسبان إمكانيّة أن نكون جميعنا آلات تيورينج دون أن يتمكن أيّ منا من إدراك جدول آلته/آلتها أو برنامجه/برنامجها. أو كما عبّر عنها لوكاس، لا أستطيع معرفة النسق الصوريّ الذي يمثّلني. وبما أنّني غير قادر على معرفة النسق الصوريّ الذي يمثّلني، فلن أتمكّن من تطبيق منهج غودل لإنتاج قضيّة صادقة غير قابلة للبتّ من فبل النسق الصوريّ، و بالتالي تسقط حجّة لوكاس.
يصيغ بناسيراف هذه النقطة على النحو التالي :» من الظاهر أنّ فكرة كوني آلة تيورينج هي فكرة متماسكة مع كل هذه الأمور، إلّا أنّني آلة ذات جدول مركّب لدرجة لن يكّون بإستطاعتي التحقّق من ماهيته. وبسياق متصل، فإذا كنتُ آلة تيورينج لربّما لن أتمكّن أيَضًا من معرفة أيّة آلة هي أنا»(التشديد بالأصل 1976:29). ويضيف بفطنة : « لو كنت آلة تيورينج سيكون محظورعليَّ بسبب طبيعتي الخاصة الامتثال إلى وصيّة سقراط الفلسفيّة العميقة: اعرف نفسك» (بناسيراف 1967:30).
لقد قدّمت أعلاه شرحًا لاصوريًّا لحجّة بناسيراف. ففي كتابه الصادر عام 1967 طوّر بناسيراف نسخة دقّيقة وأكثر صوريّة لهذه الحجّة. لكنّه قدّم أيضًا في ملحق البحث عينه مفارقة استخدم فيها تعقّل مشابه، الأمر الذي أثار بعض الشك حول استنتاجاته الأولى. وفي عام 1971، أخذ هانسن هذه المشكلة إلى مكان أبعد من ذلك. وقدّم طريقة تمكننا من تفادي مفارقة بناسيراف لكنّها تّعيق في الوقت عينه تعقّله الأوّل المتعلق بالمذهب الآلي. إلّا أنّ شيهارا Chihara بيّن « إمكانية إحياء حجة بناسيراف في نسقى تعمل قواعده المبنوية وفقًا لقيود هانسن وتحول دون اشتقاق المفارقة» (1972: 518). وبالتالي فقد كشف شيهارا بذلك عن إمكانية تطويرِ حجّة بناسيراف الصوريّة بطريقة صارمة تخلو من الاعتراضات. كما وجد شيهارا في الوقت نفسه بعض الخواصّ اللاحدسيّة الجليّة في حجّة بناسيراف. كتب شيهارا في هذا الصدد التالي :
« إنّ موقف بناسيراف من حجته هو موقف محيّر بعض الشيء. فهو يشير إلى استنتاجاته بأنّها «نتائج هزيلة». رغم أنّها تبدو للوهلة الأولى ومقارنةً مع معظم الاستنتاجات الفلسفيّة، عميقة الاثر ولااعتباطيّة عوضًا من كونها لاحدسيّة. فمن الطبيعيّ جدًا أن أفترض أنه لو كنت آلة تيورينج يجب أن يكون من الممكن أقلّه نظريًّا أن اكتشف برنامجي. كيف يمكن للإعتبارات التي قدّمها بناسيراف أن تضع مثل هذا القيد على الاكتشافات المفتوحة على العلوم الإمبيرية؟» (شيهارا 1972:512).
بالإضافة إلى هذا، يروي شيهارا حوارًا جرى بينه وبين بول غرايس Paul Grice سلّط الضوء على نتيجة أخرى مثيرة للإهتمام صادرة عن حجة بناسيراف :
« أفضل ما تبيّنه الحجّة هو أنّني غير قادر على اكتشاف «برنامجي الخاصّ».أو كما أوعز إليّ بول غرايس مرةً : « من الممكن أن تكون غير قادرٍ على اكتشاف برنامجك الخاصّ لكنّ ذلك لن يمنعني من اكتشافه.» فأجبته على ملاحظته الساخرة هذه بالتالي : « نعم، ولكن في حال اكتشافك لبرنامجي لن يكون باستطاعتك إطلاعي على ما اكتشفته.» يبدو أنّ هذا الأمر كما لو أنّه ضربً من العبثيّة: فأنت غير قادر على اطلاعي ما اكتشفت. وبما أنّ العبثيّة تبدو وكأنّها نتيجة مترتّبة عن المذهب الآلي، يمكن أن يستنتجَ المرء أنّ هذا المذهب الآليّ صدر على الأرجح عن حلقة التفكير هذه.» (شيهارا 1972:524)
يخلص شيهارا إلى أنّ هذه الإعتبارات لا تشكل سببًا وجيهًا لرفض المذهب الآليّ، لكنّها تقدم بالأحرى بعض الحجج وتبني نموذجًا (شيهارا 6-1972:524) مثيرًا يخفّف من السمات المفارِقة ظاهريًّا لوجهة نظر غرايس. أتفق تمامًا مع اهذا لإتجاه الفكريّ الذي يتبعه شيهارا هنا، كما أنني سأقدم في ما يلي بعض الحجج اللاصوريّة الإضافية التي تقترح أنّ نتائج بناسيراف التي تبدو في ظاهرها لاحدسيّة هي في الواقع طبيعيّة تمامًا ومتوقّعة. إنّ أفضل طريقة لتقديم هذه الاعتبارات هي القيام بدراسة مفصّلة لكيفيّة استخدام مقاربة بناسيراف في إعاقة حجّة لوكاس.
في معرض ردّه على بناسيراف يصيغ لوكاس حجّته على النحو التالي:
«ينتج الميكانيكيّ – ولنعترف لبناسيراف بأنّ الميكانيكي ليس رجلاً عاديًّا وإنَّما هو أمير الظلام عينه مواصفات آلةٍ يزعم أنّها مُتكافئة معي. أقوم بحساب الصيغة الغودلية إنطلاقًا من هذه المواصفات ومن ثمّ أسأل الميكانيكيّ وليس آلته إذا ما كانت هذه الأخيرة قادرة على برهنتها من داخل نسقها… فإذا قال لي بأنّ آلته قادرة على برهنة الصيغة الغودلية من داخل نسقها، سأدرك حينها أنّ هذا النسق هو متهافت، وبالتالي فهو غير مُتكافىء معي: وفي حال قال بأنّ آلته ليست قادرة على برهنة الصيغة الغودلية من داخل نسقها، سأدرك آنذاك أنّه وبسبب وجود صيغة جيدة واحدة على الأقل لم تتم البرهنة عليها من داخل النسق، فهو نسق متماسك تمامًا وأنّ الصيغة الغودلية صادقة، وعلى الرغم من ذلك لم تتمكن الآلة من البرهنة عليها من داخل نسقها، وبالتالي فإنّها غير متكافئة معي.» (لوكاس 1968a:152)
لاحظ أنّ هذه النسخة من الحجّة قد صُمّمت لتخطي اعتراض بُتنام على جَهْل تماسك النسَق. لكننا لسنا بصدد اعتراض بتنام هنا وإنّما بصدد اعتراض بناسيراف. أيّة الخطوة في الحجّة أعلاه يمكن إعاقتها بواسطة حجّة بناسراف المضادة ؟ يبدو ليّ أنّه يمكننا إعاقة الخطوة التالية : « أقوم بحساب الصيغة الغودليّة إنطلاقًا من المواصفات…». لنفترض الأن أنّني بالفعل آلة تيورينج التي حدّد مواصفتها أمير الظلام. فهو قدّمني بهذه المواصفات التي هي على الأرحج معقّدة جدًا لدرجة أنّه لن يكون بمقدوري فهمها ومعرفة كيفية إمكان اشتقاق الصيغة الغودليّة. هل يوجد أي شيء لامعقول أو لاحدْسيّ في احتمال كهذا؟ بيعدة عن كونها لاحدسيّة، تبدو لي هذه الحصيلة طبيعيّة جدًّا ومتوقَّعة.
لكي نتمكن من الوقوف على هذا الأمر، سنرجع إلى مثلنا الأسبق الذي اشترط على لوكاس في لحظة معينة من لعبة الاحتزاء أنّ يقرر ما إذا كان موشيه المستتر أو الحاسوب المستتر هو الكائن البشري. ولقد إفترضنا آنذاك أنّ لوكاس أخطاء بقراره إلّا أنّ موشي ماكوفر برهن فيما بعد على تفوّقه على الآلة من خلال حساب القضيّة الغودليّة المناسبة غير القابلة للبتّ بواسطة مواصفات الآلة. يرجع نجاح هذا المثل في الواقع إلى سبب إختيارنا الكائن البشريّ خبيرًا في علم المنطق. لنفترض الآن أنّنا استبدلنا موشيه ماكوفر بالسيد أ الذي اخترناه بصورةٍ عشوائية من بين الحشود. فمن المؤكد أنّه لن يكون بمقدوره السيد أ إنتاج أيّة جملة غودليّة غير قابلة للبت. ومن الأرجح أيضًا أن السيد أ لم يسمع بغودل على الإطلاق، وهو ليس قادرا أيضًا على فهم مواصفات الآلة.
يمكن أنّ يعترض البعض هنا بالقول أنّه بوسعنا تعليم السيد أ برهانيّتا غودل اللاّتماميّة بالإضافة إلى مواصفات الآلة وما إلى ذلك. لكن يمكن للمرء أيضًا أن يتساءل عن نسبة القادرين على متابعة وإعادة إنتاج برهان صوري كامل لبرهانيّتا غودل اللاتماميّة. لنفترض أنّ صفاًّ من طلاب الرياضيّات الجامعيّين يدرسون مادة المنطق الصوريّ. كم طالب منهم يمكنه إعادة إنتاج جملة غودل-روسر غير القابلة للبتّ بشكل صحيح في نسَق صوريّ بسيط مثل أرثماطيقا المرتبة الأولى الخاص ببيانو، وتعريف كل التعابير التي تشتمل عليها بالتفصيل إذا ما طُلب منهم ذلك في امتحان؟ على الأرجح أنّ 70٪ هي نسبة تقديرية متفائلة على الرغم من أنّهم طلّاب وقع الاختيار عليهم بسبب قدراتهم الرياضيّة. فماذا لو أراد الشيطان أن يعطي أفضل طلاب الصفّ نَسَقًا صوريًّا ما على درجة هائلة من التعقيد وتكون علاقته بأرثماطيقا المرتبة الأولى الخاص ببيانو بعيدة كلّ البعد من أن تكون واضحة، فكم طالب سيكون قادرًا على تطبيق حجّة غودل على نسق كهذا وصياغة جملة غودل غير القابلة للبت بشكلٍ صحيح؟ لا يبدو لي من اللاحدسيّ أبدًا أنّ نفترض أنّه لن يكون بمقدور أيّ من هؤلاء الطلاّب القيام بذلك. لا بل على العكس من ذلك، فهذا ما يتوقّعه المرء من نَسَق صوريّ شيطانيّ معقّد بما فيه الكفاية.
لنرجع الآن إلى وجهة نظر غرايس القائلة بإمكان توصله إلى معرفة مواصفات آلة شيهارا، لكنه لن يكون قادرا على إطلاع شيهارا عليها. هل يوجد أي شيء لاحدْسيّ في هذه الحالة ؟لا يبدو لي أنّه يوجد أي شيء لاحدْسي في هذه الحالة. لنفترض الآن أنّ صديقي س هو عالِم رياضيّات لامع ودائمًا ما يزورني في مكتبي لكي يشرح لي أحدث برهان غريب توصل إليه على برهانيّة معقدة ما. لكنّ المؤسف في ذلك هو عدم قدرتي المطلقة على فهم شروحاته. إلّأ أنّني متأكد تمامًا من كون صديقي س قابضا على البرهان، لكنّ حدودي كعالم رياضيّات تقضي بعدم إستطاعته نقلها إليّ. ولنفترض الآن فيما يتعلّق بفرضيّة الميكانيكي، أنّ س وأنا آلتا تيورينج لكنّ س هو آلةً أقوى منّي. لن يكون هنالك أي تناقض إذا ما افترضت أنّه بمستطاع س معرفة مواصفات آلتي وبالتالي يمكنه إنتاج قضيّة غودليّة صادقة تكون غير قابلة للبت بالنسبة إلي. لا يبدو لي أنّه يوجد أي شيءٍ لاحدْسي في مسألة عدم فهمي لقضيّة الغودلية وبرهان صديقي س عليها. من المؤكد، أن تعاملي اليوميّ مع س يقضي بأن يكون هذا الأمر عاديا لا بل حالة يومية طبيعيّة.
إنّ المغزى من إستسلاف بناسراف هو احتمال أن يكون كلّ واحدٍ منّا آلة تيورينج غير قادرة على التحقّق من برنامجها الخاصّ. وهنا أستخلص أنّ إفتراضه هذا متراصّ على نحوٍ جيّد دون أن يكون له أيّة عواقب لاحدْسية، وهويشكل بالتأكيد عائقا أمام حجّة لوكاس. لقد اعتمدت في تعقّلي هذا الإستنتاج على اعتبارات الحدود الفرديّة. إلّا أنّ نسخة بنروز لحجّة لوكاس اشتملت على توسيعها من النطاق الفرديّ إلى النطاق المجتمعي. فهل يُمكن لهذه النسخة أنّ تتفلّت من اعتراض بناسراف؟ هذا ما سأنظر إليه الان.
يقدّم بنروز حجّته بأنّها محاولة بُرهان خُلف reductio ad absurdum للاستسلاف القائل بأنّ الطريقة التي يكوّن فيها علماء الرياضيّات البشر أحكامهم الرياضيّة الصادقة والواعية هي خوارزميّة. يكتب في هذا الصدد:
إنّ إحدى خصائص الرياضيّات الأكثر دهشةً (ولعلّه الميدان الوحيد الذي يتفرد بهذه الخاصية دون سواه من الميادين الأخرى كلّها) هي بالواقع إمكانيّة البتّ في صدق القضايا بواسطة حجّة مجرّدة! إنّ الحجّة الرياضية التي تُقنع عالم رياضيّات- شرط خلوِّها من أي خطاءٍ- ستقنع أيضًا عالم رياضيات آخر بمجرّد أن يتمّ القبض على الحجّة كاملة…
لذلك، نحن لسنا بصدد الحديث عن خوارزميّات غامضة متعدّدة يمكن أن تدور في مختلف رؤوس علماء رياضيّات محدّدين. ولكنّنا بصدد الحديث عن نسق صوريّ واحد موظَّف كليًّا، والذي هو متُكافىء لجميع الخوارزميّات المختلفة الخاصّة بعلماء الرياضيّات للحكم على الصدق (الحقيقة) الرياضي. أمّا الآن فلا يمكن معرفة ما إذا كانّ هذا النسق «الكليّ» أو الخوارزميّة المتواضع عليها هو ذلك النسق الذي نستخدمه نحن علماء الرياضيّات للبتّ في الحقيقة! فلو كان كذلك لكنّا بَنينا قضيته الغودليّة وأدركنا أنّه حقيقة رياضيّة أيضًا. لذلك، نحن منقادون إلى الاستنتاجٍ بأنّ الخوارزميّة التي يستخدمها علماء الرياضيّات بالواقع من أجل البتّ في صدق القضايا الرياضيّة هي بغاية التعقيد والغموض لدرجة أنّنا لسنا قادرين أبدًا على إدراك صحّتها المطلقة.
إلّا أن هذا الأمر كله هو بمثابة تحدّ لكيان علم الرياضيّات! إنّ الفكرة الأساسيّة من وراء إرثنا في علم الرياضيّات وممارستنا له هي أنّنا لا ننحني لسلطة بعض القوانين الغامضة التي لا يمكننا أن نأمل فهمها. يجب علينا أن نرى – أقلّه بالمبدأ- إمكانيّة إختزال كل خطوةٍ في الحجّة إلى شيءٍ بسيط وواضح. إنّ الحقيقة الرياضيّة ليست دوغما معقّدة بفظاعة بحيث تكون صحّتها أبعد من إدراكنا. إنّها شيء بُني من مكوّنات بسيطة وواضحة- وعندما ندرك هذه المكونات، تكون حقيقتها جليّة ومواضع عليها من الجميع.
إنّ هذا الأمر في اعتقادي هو بُرهان خُلف صارخ إلى أقصى الحدود ينقصه برهان رياضيّ! لقد اتّضحت الرسالة. لا يمكن تقرير الحقيقة الرياضيّة بواسطة خوارزميّة. (بنروز 1989:539-40)
لا أعتقد أنّ التوسيع الذي قام به بنروز لحجة لوكاس من النطاق الفردي إلى النطاق المجتمعيّ يجعلها في الواقع أكثر قوة . فمن المؤكّد وجود تنائج رياضيّة شديدة الصعوبة تعصى على فهم وإدراك بعض الأفراد المعيّنين؛ ينطبق الأمر عينه على مجتمع علماء الرياضيّات ككلّ. و بالتالي، فإنّ التسليم (من مسلّمة) (أوليّة) postulation بخوارزميّة معقدة لدرجة تعصى على فهم كل مجتمع علماء الرياضيّات البشر هو أمر غير معقول. لكن، أليس من التحدٍ لإرثنا الرياضيّ وممارستنا له أن نفترض وجود خوارزميّة ما تُستخدم بشكلٍ لاواعٍ للبتّ في الصدق (الحقيقة) الرياضيّ؟ ألا نبتّ في صحّة خطوة محدّدة في الحجّة الرياضيّة لأنّنا «نرى» كما يزعم بنروز أنّها صحيحة على نحوٍ بيّن؟ من المؤكد أننا نبتّ في صحّة الخطوة من خلال «رؤية» أنها صحيحة على نحوٍ بيّن، ولكن، ألايتناقض هذا الأمر بأي شكل من الأشكال مع فرضيّة أنّ هذه «الرؤية» تقوم على خوارزميّة لا نعيها؟ لنأخذ بأنّ التناقض بين هذين الأمرين نشأ بسبب قصور في التمييز بين مستويين مختلفين. وإذا أخذنا أيضًا بالمذهب الماديّ الذي يبدو وكأنّه الموقع الذي يتّخذه بنروز لنفسه فإنّ هذين المستويين هما (1) التدفق الواعي للأفكار والمعتقدات في ذهن عالمة الرياضيّات – الأنسة ب على سبيل المثال، و(2) سلسلة الأحداث الكهروميكانيكيّة والنشاط العصبونيّ المقابل لها بالاضافة إلى كل ما يحصل في دماغ الأنسة ب، والذي تنشأ عنه الأفكار والمعتقدات الواعية بطريقة غامضة. أما الآن، فيجب أن تكون «رؤية» كون خطوة ما في الحجة الرياضية صحيحة أم لا، حدث محدد جيدًا في وعي الأنسة (ب). فهذا الأمر، كما يشير إليه بنروز، هو جوهري بالنسبة إلى النشاط الرياضيّ. ومن مأخذ مادي، فإنّ إجراءات الدماغ التي تثير هذه التجربة الواعية هي بالطبع مجهولة تمامًا للأنسة (ب) وهذا ما لا يشكل» تحدّيا لكيان علم الرياضيّات.
يتمثل موقف بنروز بأنّ أحداث الدماغ التي تؤدي على سبيل المثال إلى إدراكنا صدق الجملة الغودليّة هي ليست إجراءات مجهولة فقط ولكنّ شرحها يتطلب وضع نظرية فيزيائية جديدة بالكامل، وبالأولى، نظرية مجهولة تمامًا وغير مُتخيّلة. فإذا كان هذا الأمر لا يتناقض مع إرثنا الرياضيّ (وهوبالتأكيد لا يتناقض معه)، فأنا لا أرى كيف يمكن لمأخوذة الميكانيكيّ، التي تزعم إمكانية تمثيل الإجراءات الدماغيّة بواسطة آلة تيورينج المزودة ببرنامج غامض وبغاية التعقيد، أن تتناقض مع إرثنا الرياضي.
من المرجح أن يردّ بنروز بأنّه مازال هنالك فارق بين الفرضيّتين، فاكتشاف نظريّته الفيزيائية هو أمر ممكن يومًا ما، في حين أن مأخوذة «الدماغ = حاسوب» يجب بالضرورة أن تبقى، في جزئها الذي يُحدِّد فيه برنامج الحاسوب النشاط الرياضي، مجهولة إلى الأبد. لكنّه يبدو لي أن وجود حدود ملازمة لإمكانية معرفة الدماغ البشريّ ذاته هو أمر معقول أكثر من إمكانيّة أنّ يفهم الدماغ البشريّ ذاته تمامًا.
وبالتالي أستخلص هنا أنّ اعتبارات بناسيراف حول الحدود الممكنة للمعرفة الذاتيّة تشكل ردًّا فعّالًا على حجّة لوكاس الأصليّة وتوسيع بنروز لها. إلّا أنّ خط بناسيراف الفكريّ لا يشكّل الهجوم الوحيد المحتمل على حجّة لوكاس. سأنظر في القسم التالي إلى بعض الاعتراضات الإضافيّة على هذه الحجّة والتي ستكون مبنيّة على اعتبارات مغايرة.
6.5 إعتراضات على حجة لوكاس: (ii) إضافات ممكنة لأنساق التعلم
لقد صيغت الأطروحة الآليّة لحجّة لوكاس على افتراض يزعم بإمكانية تمثيل ذهن محدد، ذهن السيد أ على سبيل المثال، بواسطة نسق صوريّ ن مثلًا. تبدأ الحجة بتطبيق برهانيّة غودل اللاتماميّة على ن. إلّا أنّها تشتمل على مأخوذة ضمنيّة تفيد بأنّ النسق الصوريّ ن هو من النوع العامّ عينه الذي تمّت من خلاله البرهنة على برهانيّتا غودل اللاتماميّة- ويؤخذ ضمنيًّا أيضًا على سبيل المثال بأنّ لـ ن مجموعة أكسيومات بحيث يتم اشتقاق البرهانيّات منها بواسطة المنطق الكلاسيكي. لكنّ النقطة التالية التي أريد أن أسجّلها هي أنّه لو أردنا حقًّا تمثيل ذهن السيد أ بواسطة نَسق صوريّ، يجب على هذا النَسق أن يكون بالتأكيد ذات طابع مختلف عن ذلك النَسق الموجود بشكل أساسيّ في كتب الرياضيّات، والذي يبرهن على برهانيّتا غودل اللاتماميّة. لنتفحّص الآن بعضًا من هذه الفروقات.
يتدفق باستمرار إلى ذهن السيّد أ سيل من الأحاسيس الجديدة المُشتقة من العالم الخارجيّ . وبالتالي، لن تكون هنالك مجموعة ثابتة من الأكسيومات للنَسق الذي ينَمْذَجَ ذهن السيد أ، وإنما يجب أن يكون نَسقًا ديناميكيًّا تُضاف إليه أكسيومات جديدة باستمرار. أما لجهة العتاد، (الهاردوير أو الشيء الصلب)، فيجب أن تمتلك الآلة حواسيس تسمح لها بهذا السيل من المعلومات الجديدة. بالإضافة إلى هذا السيل من الأكسيومات الجديدة المقابلة لمدخلات الحواسيس، يجب أن يمتلك النَسق الصوريّ ن قواعد استدلال استقرائيّة واستنباطية أيضًا. ستسمح هذه القواعد الاستدلاليّة الاستقرائيّة بإنتاج التعميمات من الأكسيومات الجديدة المقابلة لمُدْخلات الحواسيس. إنّ هذا الأمر ممكن تمامًا كما سبق ورأينا في تحليلنا لبرامج التعلّم الآلي في الفصل الثاني. لكن يمكن لبعض هذه التعميمات أنّ تتناقض وبعض التعميمات القديمة، وهنا وجب ل ن أن يمتلك بعض قواعد الاستدلال لكي يتمكن من حلّ مثل هذا التضارب ولربما إستعادت تماسكه. يعي مجتمع الذكاء الاصطناعيّ تمامًا الحاجة إلى أنساق صورية من النوع الذي رسمناه للتو،لكي يتمكن من نَمْذجَة تعلم الالآت. وبالتأكيد أنّ مثل هذه الأنساق الصوريّة هي حاجة لنَمْذجَة الذهن البشريّ أيضًا، ولكن هل ما زالت حجة لوكاس تنطبق على مثل هذه الأنساق؟ سأحاجج في ما سيلي بأنها لا تنطبق.
إنّ النوع الجديد من الأنساق الخبيرة هو من طبيعة ديناميّة تشتمل على قواعد استدلال لا كلاسيكيّة أخرى. وبالتالي، ليس واضحًا على الإطلاق إذا ما زال منهج غودل، الذي طُوِّر لمعالجة أنساق صورية ساكنة8 بمنطق كلاسيكي، صالح للتطبيق في هذه الحالة. وعلى الرغم من ذلك، فلنفترض أنّه ما زال من الممكن تطبيقه على نسق ديناميكيّ ن في زمن معين مـ. سيعرف هذا بإسم نمـ. ولنفترض أيضًا أنّه زُعم أنّ ن هو تمثيل دقيق لذهني. فأنظُر إلى نمـ وأحسب جملتها الغودليّة في زمن يـ، حيث يـ > مـ ، أنتج بنجاح الجملة الغودليّة قـ على سبيل المثال، على أنّها صادقة. وأزعم أنّها تبرهن على اختلافي عن ن. تمكن المشكلة في زعمي هذا بأنّ الفترة الزمنية الـمصاحبة ل ن ذات الصلة أصبحت الآن نيـ، وعلى الرغم من أنّه لا يمكن البرهنة على قـ في نمـ، يُمكن أن تكون قـ قابلة للبرهنة في نيـ. وهكذا تسقط حجة لوكاس.
يمكن الإعتراض على هذا الخط الفكريّ بحجة أنّ التملّص منه ممكن بالوسيلة الأبسط ألا وهي صياغة حجّة لوكاس بتعابير آلات تيورينج بدلًا من صياغتها بتعابير الأنساق الصوريّة. لنأخذ على سبيل المثال أحد الأنساق الصوريّة من النوع الديناميكيّ الجديد. فمهما بلغت درجت تعقيد قواعد الاستقراء أو الاستدلال اللاكلاسكيّة التي تستخدمها مثل هذه الأنساق، وفي حال فعاليّتها، تبقى محاكاتها ممكنة بواسطة آلة تيورنغ. كما يمكن أيضًا محاكاة أكسيومات «المُدخلات الحاسوسية» الجديدة من خلال إضافة معطيات إلى شريط مُدخِلات آلة تيورينج. لذلك، ومهما كانت التعقيدات الإضافيّة المُشْتَمَلة سنعود مجدّدًا إلى آلة تيورينج. وبالطبع، فإنّ برنامج تعلّم آلي معقد مثل غوليم ذات قواعد استدلال استقرائية وبمنطق التقدّم القوي التأييديّ أيضًا، مازال يعمل على حاسوب رقمي عادي الذي هو بالتأكيد آلة تيورينج. وبالتالي، يمكن المحاججة بأنّ النظر إلى إضافات ممكنة لأنساق التَعَلُّم هو أمر غير ذات صلة. وبذلك، نكون قد تمكنّا من إعادت صياغة الحجة بتعابير آلات تيورينج متجنبين أية صعوبة.
أردّ على هذا الإعتراض بأنّه من غير الممكن إنجاز حجّة لوكاس بتعابير آلات تيورينج بالكامل. فهي تعتمد بشكل حاسم على قابليّة الذهن البشريّ على إنتاج قضيّة تكون صادقة ولا يمكن للآلة البرهنة عليها. في حين أنّه يُمكن تحديد آلات تيورينج بالأعداد والعمليّات على الأعداد فقط. وقبل أن نتمكّن من الحديث بصورةٍ مفيدة عن إنتاج قضيّة ما على أنّها صادقة، من الواضح أنّ تمثيلاً ألسنيًّا لآلة تيورينج هو أمر ضروريّ، وتمثيل كهذا سيكون حتمًا نسق صوريّ من نوع ما.
أريد أن أطرح في هذه المرحلة بعض الأسئلة حول مأخوذة قابليّة التمثّل-أي مأخوذة إمكانيّة تَمَثّل آلة تيورينج في نَسَق صوريّ. لقد تماشيت حتى هذه اللحظة مع الافتراض الضمنيّ القائل بأنّ هذه القابليّة هي مسألة لاإشكاليّة. لقد حان الوقت لكي نشير إلى بعض الصعوبات التي تشتمل عليها هذه المسألة. من المحتمل أن يكون تمثيل آلة تيورينج في نَسَق صوريّ ممكنًا وبأكثر من طريقة. ففي بعض هذه التمثيلات، مثل الأنساق الصوريّة الديناميكيّة التي نظرنا فيها للتوّ، يمكن ألاّ تكون منهجيّة غودل قابلة للتطبيق مباشرةً على النسق الصوريّ بحيث أنّه سيتمّ سدّ حجّة لوكاس بهذه الطريقة. كما أنه سيكون من الممكن، في بعض التمثيلات الأخرى، تطبيق منهجيّة غودل على النّسق الصوري إلّا أنّ نتائج التطبيق لن تُظهر عدم إختلاف آلة تيورينج المقابلة له عن الذهن البشريّ ذات الصلة. دعني أعطي مثلًا عن هذه الحالة.
لنفترض أنّ (ت) آلة تيورينج معيّنة صُمّمت لمحاكاة آليات عمل دماغ السيد أ. وفي مقابل مُدْخِلات السيّد أ الحاسوسية توجد مواد كُتِبت على شريط المُدْخِلات ط. يقابل معالجة هذه المعلومة تحرّكَ ط من حالة عامّة إلى أخرى وفقًا لقواعد جدول الآلة. فكلّ حالة عامة يقابلها حالة دماغيّة للسيّد أ، وفي مقابل قواعد جدول الآلة لـ ط هنالك إجراءات متعلّقة بالجهاز العصبيّ تقوم بنقل دماغ السيّد أ من حالة إلى أخرى. كيف يمكننا الآن تمثيل كل ذلك بنسق صوري؟
ستكون الطريقة الأوضح للسير بذلك هي الأخذ بوصف الحالة الأوليّة ل ط على أنّها أكسيومة9 لوضع قواعد استدلال مقابلة لجدول آلة ط بحيث أنّه في حال تم الاستدلال على ر من ش، ستكون ر وصف لحالة ط التي استُتبعت مباشرة من الحالة الموصوفة بـ ش وفقًا لبرنامج ط. ففي هذا النسق الصوريّ ستصف برهانيّتا غودل حالات يمكن التوصّل إليها بواسطة ط، أو ما هو متكافىء لحالات ممكنة دماغ السيد أ في مأخوذة الميكانيكيّ. لنفترض الآن أنه يمكننا تطبيق منهج غودل على النسق الصوري الناتج عمّا سبق والحصول على قضيّة ق غير قابلة للبتّ. على ماذا يمكن أن يدلّ هذا الأمر؟ ستصف ق بكل بساطة، حالة دماغيّة للسيّد أ التي يمكن في الواقع ألاّ تحصل أبدًا. هل هنالك مشكلة في ذلك؟ لا أعتقد ذلك. إذ يمكن لـ ق أن تصف حالة دماغيّة للسيّد أ تقابل حالته وهو يهذي بفأر زهريّ اللون ومن الممكن جدًا في الواقع، أن لا يكون محتملًا أبدًا للسيّد أ أن يهذي بفأرٍ زهريّ اللون. وبالتالي، لا يمكن لهذه النتيجة بأي شكلٍ من الأشكال أن تبرهن على أنّ ذهن السيّد أ أو دماغه يختلفان عن آلة تيورينج.
خلافًا لذلك، يمكن الاعتراض بأنّه يجب بالتأكيد تفسير ق على أنّها تصرح بلاقابليتها للبتّ في النَسق الصوري. بالطبع أنّه سيتوجب علينا بناء تكوين يَنتج عنه تفسير يبرهن على نتيجة غودل، لكنه من المحتمل أيضًا ألاّ يكون لهذا التفسير الأرثماطيقيّ أيّة علاقة بتفسير ق بتعابير دماغ السيد أ أو حالته العقليّة. بالطبع، أنه يمكننا أن نأمل بناء النَسق الصوريّ المقابل لـ ط (وبالتالي السيّد أ) بطريقة أنّه إذا ما تمّت البرهنة على قضيّة أرثماطيقيّة في النّسق الصوريّ، سيقابل تفكير السيّد أ أنّ هذه القضيّة الأرثماطيقية صادقة. بيد أنّه، وبغية تحقيق ذلك، سنكون بحاجة إلى تمثيل ط بنسقٍ صوريٍ أكثر تعقيدًا من هذا النَسق البسيط الذي قدّمناه للتوّ. وإذا كان مثل هذا النّسق ممكنًا حقًا، بوسعه أن يكون ذات طابع لا يمكن لمنهجِ غودل أن يطبّق عليه. وعلى سبيل الإيجاز، فإذا استطعنا تمثّيل آلة تيورينج بنَسق صوريّ بسيط يمكن تطبيق منهج غودل عليه، لن تُظهر نتيجته إختلاف آلة تيورينج عن الذهن البشريّ. ومن ناحية أخرى، إذا مثّلنا آلة تيورينج بنّسق صوريّ على درجة عالية من التعقيد تكفي لطرح مشاكل على الميكانيكيّ، فلا سبيل إلى ضمانة أنّ منهج غودل سيُطبّق على النَسق. وفي كلتا الحالتين لن تمرّ حجّة لوكاس.
6.6 لماذا سيكون التقدّم في الحوسبة حَافزًا للتفكير البشريّ على الأرجح بدلًا من أن تهمّشه
لقد أنتقدت في القسمَين الأخيرين حجّة لوكاس ونَسْخَتها الموسّعة التي وضعها بنروز، وزعمْت أيضًا أنهما لا يثبّتان إختلاف الأذهان عن الحواسيب. من الواضح أنّه أمر سلبيّ، لكنني سأحاجج في هذا القسم الأخير لصالح أطروحة أكثر إيجابيّة. أعتقد أنّه يمكن لحجّة شبيهة بحجّة غودل، حتى ولو لم تكن مبنيّة بالكامل على برهانيّة غودل اللاتماميّة، أنّ تخبرنا الكثير عن العلاقات القائمة بين البشر والحواسيبب. دعوني الآن أعرض هذه الحجة.
تتمثّل الخطوة الأولى في هذه الحجة بمحاولة إثبات أنّ البشر متفوّقون على الحواسيب وسيبقَون دومًا على هذا التفوق بمعزلٍ عن أيّة اعتباراتٍ غودليّة. أعتقد بأنّ هذا التفوّق هو حقيقيّ لكنّه ذات طابع مختلف عن الطريقة التي تخيلها كلّ من غودل وبنروز على سبيل المثال. ينبع هذا التفوّق من واقع أنّ البشر صُمّموا وبنوا الحواسيب بهدف إنجاز غايات بشريّة. فإذا فشل الحاسوب بتنفيذ ما طلبه اسياده البشر منه، فمن الطبيعي أنّ يطفئوه فورًا ويعيدون برمجته ليستطيع القيام بمهامه بصورةٍ سليمة. يضع هذا الواقع البشر بموقع المتسلط والمسيطر في علاقتهم مع الحواسيب. كما يمكن القول أيضًا بأنّ هذا التفوّق البشريّ على الحواسيب هو تفوّق سياسيّ.
يوضِّح ستانلي كيوبرك Stanley Kubrick هذا النوع من التفوّق بشكلٍ جميل في فيلمه الخيال العلميّ الشهير 2001: أوديسّة الفضاء الصادرعام 1968 . أُقتُبست قصّة هذا الفيلم عن رواية لأرثر سي. كلارك Arthur C. Clarke، الذي كتب سيناريو الفيلم أيضًا. تدور أحداث القسم الثاني من الفيلم حول بعثة متّجهة إلى كوكب المشتري بمركبة فضائية يتحكّم بها حاسوب خارق الذكاء متكلّم يدعى هال10. تبدأ الدراما عندما يتعطل هال ويأخذ بالعمل عكس مصالح الطاقم البشريّ بدلًا من إطاعة أوامرهما، كما يقتل أحدهما أيضًا. لكنّ عواقب هال متوقّعة. فرغم كل العقبات التي يضعها في طريق عضو البعثة الوحيد المتبقي على قيد الحياة إلّا أنّ هذا الأخير يتمكن من شقّ طريقه إلى وحدة المعالجة المركزيّة ليطفئه. إنّ نشوب مثل هذا العطل الغريب في الحاسوب، وبالطريقة عينها التي تم يصوِّيرها في هذا الفيلم لأغراض دراميّة، هو أمر مستبعد في الواقع. لكن الأمرالأكيد أنّه في حال وقوع أيّ خلل جدّي في الحاسوب المعنيّ سينتهي الأمر بإطفائه. على الحواسيب أن تنفذ ما يطلبه منها البشر أو سيتم إقصّاؤها. إنّ هذا الأمر مماثل للعلاقة السلطوية التي يكون فيها البشر أسياد.
يمكن مقارنة هذه العلاقة السلطويّة بين البشر والحواسيب بعلاقة سلطويّة أخرى بين مجموعات مختلفة من الكائنات البشريّة التي تواجدت في زمنٍ واحد. لقد أمتلكت طبقة الأرسقراطيّين والإقطاعيّين في العصور الوسطى علاقة سياسيّة فوقيّة تجاه طبقة الفلاّحين. وكان بإمكان الإقطاعيّ أن يأمر الفلاّحين المتواجدين على ممتلكاته تسديد الإيجار والقيام بأعمال قصريّة وما إلى ذلك. وكان ينال كل فلّاح يعصي الأوامر العقاب المناسب، وفي بعض الحالات القصوى كانت تتم تصفيته. لقد كان يتخلل هذه العلاقة السلطويّة إنقطاع في بعض الأحيان بسبب أحداث كثورةٍ يقوم بها الفلاّحون. لكن، وفي زمن العصور الوسطى، كان يتمّ التعامل مع مثل هذه الأحداث بكل ما يلزم من قوّة.
تجدر الإشارة هنا إلى نقطة مثيرة للاهتمام وهي أنّه غالبًا ما كان الأرستقراطيون يَنسبون تفوّقهم السياسيّ الحقيقيّ إلى نوعٍ من التفوّق الشخصيّ. لقد ساد الاعتقاد بأنّ دمهم متفوّق على دم الفلاّحين. ومن هنا مصدر مقولات مثل دم نبيل، دم أزرق، دم أرستقراطيّ وما إلى ذلك. كان يؤخذ هذا الاعتقاد على محمل الجد ولم يكن ضرب من الكلام فقط. لذلك كتب موريس بيشوب Morris Bishop المؤرخ الرائد لحقبة قرون الوسطى التالي: «كانت معظم السيّدات الأرستقراطيّات يُرضّعنّ أطفالهنّ، إذ كان يسود الاعتقاد بأنّ حليب ممرّضة من عامّة الناس سيلوّث الدم النبيل. وعندما وجدت بلانش القشتاليّة أم لويس التاسع إمرأة في القصر تُرضع طفلًا ملكيًّا، علّقت الطفل من أعقابه حتى تقيأ» (بيشوب 1971:133).
بالطبع، أننا نعلم اليوم أنّه لا يوجد فرق بين دم النبيل ودم أي بشريّ آخر. لكن، حتى ولو كان هنالك من فرق بين طبقة النبلاء والفلاّحين على صعيد الدم أو بعض الخصائص الجسديّة والعقليّة الأخرى، فلن يكون ذات صلة بالعلاقة السلطوية السياسيّة القائمة بين الفريقين. من الممكن جدًا تخيّل حالة يكون فيها الإقطاعيّ (ومن دون أدنى شك أنّ مثل تلك الحالات كانت قد وقعت بالفعل) أضعف جسديًّا وعقليًّا بصورةٍ بيّنة من أكثريّة الفلاّحين الساحقة المتواجدة على ملكيّته. ورغم ذلك كان يتوجب على أولئك الفلاحين القيام بما يطلبه منهم أو أنّهم سينالون عقابهم.
يجب أن تكون قد أتضحت الآن صلة هذه الأمور كلّها بحالة البشري-الحاسوب. لقد حاجج كلّ من غودل وبنروز لصالح التفوّق البشريّ على الحواسيب من خلال محاولة عزل بعض الخواصّ البشريّة الشخصيّة المعيّنة التي يتفوّق بها البشر على الحواسيب. وهكذا فقد حاجج غودل بأنّ للبشر أذهان مفارقة للمادة تخولّهم البرهنة على برهانيّات رياضيّة تتخطّى قدرات أيّ حاسوب ممكن. كما حاجج بنروز بأنّ الأدمغة البشريّة تمتلك قدرة، قوامها قوانين فيزيائيّة لم يتم اكتشافها بعد، تخوّلها من تأدية عمليّات لاخوارزميّة تتخطّى قدرة أيّة آلة من آلات تيورينج. إنّ مثل هذه النظريّات، وإذا ما نظرنا إليها من زاوية التحليل السياسي للتفوّق البشريّ على الحواسيب، تشبه نظريّات الطبقة الأرستقراطيّة في القرون الوسطى التي نَسبت تفوقّها على طبقة الفلاحين إلى نُبْلِ دمها. إنّ الخطأ فى كلٍ من الحالتين هو إسناد ما ينشأ عن علاقة إجتماعية11 إلى خواصّ شخصيّة للأفراد. من المستحيل أن تضطرب العلاقة السياسيّة الفوقيّة التي للبشر على الحواسيب بمجرّد أن تصبح الحواسيب متفوّقة على البشر في ناحية أو أخرى من النواحي التفكير. فبوسع الحواسيب الآن القيام بعمليّة طرح طويلة أفضل من أيّ بشريّ، كما أنّها سيتمكّن قريبًا من لعب الشطرنج بمهارةٍ تفوق مهارة أي بشريّ، لكن هذه الأمر لن يمنعنا من أن نكون قادرين على إطفاء الحاسوب عندما نريد ذلك. وسيبقى الحال على هذا المنوال مهما بلغ التقدّم في علوم التقانة.
يأخذ بنروز في مرحلة معيّنة بأنّه في حال تفوّقت الحواسيب فكريًّا على الكائنات البشرية فإنها ستسيطر علينا. وينظر إلى سيناريو إفتراضي لالذكاء الاصطناعيّ تصل فيه «الحواسيب إلى مرحلة تتساوى فيها مع البشر»؛ وسيكون متوقّعًا، أن يتخطوا كل مستوى نكون نحن قادرين على الوصول إليه بواسطة عقولنا الهزيلة نسبيًّا» (بنروز 1994:34). بالطبع، أنّ بنروز لا يؤمن بإمكانيّة تحقق مثل هذا السيناريو في الحقيقة، لكنّه يعلّق على نحوٍ دالّ بأنّه في مثل تلك الظروف «سيتوّجب علينا الاستسلام لكوكبٍ منظورٍ تحكمه بشكل نهائيّ آلات عديمة الحس!» (بنروز 1994:35). تأخذ هذه المقاطع بأنّه في حال تفوّقت الحواسيب فكريًّا على الكائنات البشريّة ستصبح آنذاك حكّامًا على الكوكب. لا تبدو لي هذه المأخوذة صحيحة للأسباب التي قدّمناها أعلاه.
تشتمل خطوتي التالية على نوعٍ من نقضٍ لحجج غودل وبنروز. لقد دافعا، كل على طريقته وإنطلاقًا من برهانيّتا غودل اللاتماميّة، عن التفوّق البشريّ على الحواسيب. ما أريد قوله الآن هو أنّ التفوّق السياسيّ للبشر على الحواسيب يبيّن إمكانية تطبيق حجّة مثل حجة غودل. إلّا أنّ هذا التفوق لن يشكل نتيجة لحجّتي وإنما مقدّمتها. فنتيجة حجّتي ستكون مختلفة- ألا وهي أنّ تطوّرالحواسيب لن يهمِّش التفكير البشري أبدًا لا بل سيحفّزه على بذل جهود جديدة. من الواضح أن بعضًا من القلق ينشأ مما إذا كان تطوّر الحواسيب سيهمش التفكير البشريّ. ففي حال أصبحت الحواسيب أكثر قوةً سيكون من الأسهل التوجه إلى الحاسوب لحلّ مشكلة ما، بدلاً من محاولة حلّها بواسطة القدرات العقليّة البشريّة. ومن الممكن جدًا أن يتحول، في نهاية المطاف، كامل التفكير البشريّ إلى فائض. من الطبيعي أنّ لا يكون الجميع في موقع الترحيب بمثل هذه الحالة. كما يمكن أيضًا لمن يجد عسرًا في عملية التفكير أن يتطلّع قدمًا إلى مستقبلٍ حيث يُمتّع الجنس البشريّ نفسه فيه على الشاطىء، في حين تنجز الحواسيب التفكير البشريّ كلّه . لن أواصل هذه الفانتازيّة أكثر من ذلك، فالهدف من حجّتي هو إظهار إستحالة قيام مثل هذه الحالة الإفتراضيّة.
كما سبق وحاججت، يرجع تفوق البشر السياسي إلى واقع أنّهم صمّموا وبنوا الحواسيب لكي تُحقق مآرب إنسانيّة. وبما أنّ البشر هم الذين صمّموا وبنوا هذه الحواسيب، سيكون بإمكانهم دومًا مراقبتها من الخارج، وكما شدّدت أيضًا في القسم 6.2، يمثّل هذا الأمر، على وجه الدقة، شرطًا لتطبيق حجّة غودل بالمعنى اللاّصوريّ. لنفترض الآن، أنّ حاسوبا ما صُمم لحلّ مجموعة المشاكل أ، ب، ج على سبيل المثال. وفقًا لحجّة غودل، سيكون لهذا الحاسوب قدرة على التمثّل في نَسَق صوريّ ما، وستنشأ في هذا النسق مشاكل لن يكون بمقدور هذا الحاسوب حلّها، في حين أنّها ستكون قابلة للحلّ لو تمت معالجتها من خارجه. لاحظ أنّ البشر هم الذين صمموا هذه الحواسيب، وبالتالي من المستحيل أن يعصى هذا النسق الصوري المعنيّ بها على الإدراك البشريّ، أو أقلّه على ادراك البشر الذين يستخدمون مثل هذه الأدوات أو أيّة حواسيب أخرى. لذا، لا يمكن تطبيق الصعوبات التي أثارها بناسيراف. وهذا الأمر يُظهر أيضًا أنّه في حال كان الحاسوب مصمّما لحلّ المشاكل أ، ب، ج، …، فمن المحتمل أن يثير مشاكل إضافيّة س، ص،ع،…، على سبيل المثال، التي لن يكون هذا الحاسوب عينه قادر على حلّها، والتي سيتطلب حلّها اللجوء إلى التفكير البشريّ .
يجب أن أضيف هنا أنّني لا أقصد تأسيس هذه الحجّة على التفاصيل الرياضيّة المحددّة لبرهانيّتا غودل اللاتماميّة، وإنما على الخطّ العام لحجّة غودل بالمعنى اللاّصوريّ. لذلك ينبغي أنّ تؤخذ هذه الحجّة على أنها حجّة نوعيّة لاصوريّة عوضًا من أنها محاولة إلى برهان رياضيّ. ما أقوله هو أنّه عندما نصمّم نّسق حاسوب ليحلّ مجموعة مشاكل أ، ب، ج، …، فحقيقة أنّه بوسعنا كمصمّمين مَسْحَ نَسق الحاسوب هذا من الخارج، ستجعل على الأرحج وإنطلاقًا من إعتبارات غودلية عامة، إجراء النّسق بحدّ ذاته يطرح مجموعة مشاكل جديدة، س،ص،ع، … التي لن يكون بوسع نَسق الحاسوب حلّها من تلقاء ذاته وسيحتاج في ذلك إلى بعض التفكير البشريّ.
يسنجم هذا الاستنتاج المُستخلّص من هذه الحجّة بصورة ممتازة مع أمثلة الذكاء الإصطناعيّ المعطاة سابقًا في هذا الكتاب. لننظر مرةً أخرى إلى بعض برامج التعلّم الآلي مثل 3ID وغوليم. إنّ تكويد بعض المعرفة الخلفيّة م في هذه البرامج هو أمر ضروري لكي تتمكن من العمل. وإذا اكتشف البرنامج قانونا أو تعميمة (ف، على سبيل المثال) لم تكن معروفة من قبل، سيطرح هذا الاكتشاف على الخبراء البشر مشكلة تتعلق بكيفية وجوب دمج هذا الاكتشاف في المعرفة الموجودة بداخله. ما سيستدعي الفكر البشريّ لعلّه يؤدي إلى معرفة خلفيّة جديدة م»، والتي ستستدعي بدورها تعديلًا على برنامج التعلّم الآلي. وبهذه الطريقة تتقدّم المعرفة بواسطة عملية تفاعل متواصلة بين الإنسان والآلة، والتي تلعب فيها المساهمة البشريّة دورًا حيويًّا بعيدةً كلّ البعد عن كونها فائضًا. سيشهد أولئك العاملون في ميدان التعلم الآلي بقوة كيف يدفع هذا المجال إلى تكثيف الفكر الإنسانيّ و ليس إلى إقصائه.
يمكننا التوصّل إلى استنتاجات مماثلة في مثلنا الثاني (البرمجة المنطقيّة). كما سبق وأن رأينا، كانت في البدء محاولات أتمتت برهنة المسائل مبنيّة على منطق المرتبة الأولى الكلاسيكيّ. وعندما استخدمت بعض من نتائج هذا البحث في إنجاز أوّل نَسق برمجة بالمنطق PROLOG، تبيّن قبل كل شيء أنّ المنطق الذي يتطلبه هذا النسق لكي يباشر بالتطبيق ليس منطقًا كلاسيكيًّا، وإنّما منطقً جديد من نوع لم يخطر على بال أحد من قبل – أعني هنا المنطق اللا إضطراديّ. يستخدم PROLOG في الواقع، نوعًا خاصًّا من المنطق اللاإضطراديّ المبنيّ على نوعٍ غير مألوف من السلب يُعرف باسم السلب كتخلّف. وهكذا، فقد أوجد تصميم PROLOG مفاهيم منطقية مثل اللا إضطراديّة والسلب كتخلّف لم يتم النظر إليها من قبل. فمن الطبيعيّ إذًا أنّ يكون البحث في هذه المفاهيم الجديدة قد برهن خلال الخمس عشرة أوالعشرين سنة الماضية على أهميّتها، وعلى إثارتها وإنتاجيتها بالنسبة إلى علماء المنطق. إنّه مثل مذهل عن التقدّم الحاصل في الذكاء الاصطناعيّ وفي الوقت عينه بعيدًا كلّ البعد عن جعل التفكير الإنسانيّ فائضًا، لا بل على العكس من ذلك، فهو يفتح مجالًا جديدًا أمام الفكر البشري لم يتصوره أحد من قبل.
هكذا إذًا فقد أيدت حجّتنا العامة الشبيهة بحجّة غودل بالإضافة إلى تحليلنا للأمثلة الحاليّة، استنتاجنا المتفائل بأرجحية أن تحفّز تقدّمات الحوسبة والذكاء الاصطناعيّ التفكير البشريّ بدلًا من أن تهمّشه.
الهوامش
1. إنني شديد الإمتنان لدون بيل Don Beal الخبير في شطرنج الحاسوب في قسم الحوسبة في كليّة كوين ماري جامعة لندن، الذي زودني بالمعلومات الموجودة في ما تبقى من هذا المقطع.
2. لكنّ كاسباروف عاد ورمم الشرف الإنساني بفوزه على «بانثيوم جينيوس» إبّان مباراة ثانية أقيمت في 20 مايو سنة 1995. وكتبت جريدة الإندبندنت التي صدرت في اليوم التالي بعد المباراة أنّ كاسباروف « بدا مرتاحًا بشدة عندما إنتهى كل شيء».
3. لقد أهمل كل من راسل ووايتهد صورنة قواعد الاستدلال التي كانا يستخدمانها، لكنه يمكننا بكل سهولةٍ ردم هذه الهوّة من خلال تحويل مبادىء الرياضيات إلى نسق مصورن بالكامل.
4. سنشرح لاحقًا الفرق بين نسخة غودل الأصلية للبرهانية و برهانية غودل-روسر.
5. إن تاريخ حجة لوكاس معقد بعض الشيء. يقول تيورينج بأنّ هذه الحجة هي بمثابة الاعتراض الثالث على اطروحته الأساسية حول قدرة الآلات على أداء لعبة الإحتزاء والذي يسميه « الاعتراض الرياضي» (1950: 15-16). لكن تيورينج يرفض هذا الاعتراض على الفور. ساقترح لاحقًا أنّ السبب الوحيد الممكن وراء عدم أخذ تيورينج هذه الحجة على محمل الجد هو ضعفها في سياق لعبة الإحتزاء الخاصة به. لقد قدم بوتنام صورةٍ أخرى عن هذه الحجة (1961:77). بيد أنّه وبعيدًا كل البعد عن الدفاع عن هذه الحجة، زعم «أنها خطأ بكل بساطة» (1961:77). لقد إلتقى، بالواقع، لوكاس مع بوتنام في برنستون سنة 1957، وكانا قد صاغا آنذاك هذه الحجة وبينا مواقفهما المعنية تجاهها. ما يعني أنهما ناقشا هذه المسألة. لقد قال لوكاس في حديثٍ خاص أنّ نقاشه وبوتنام ساعده على تطوير بعض الخطوط الفكرية لبحثه الصادر سنة 1961. كما نظرغودل أيَضًا إلى ترتبات برهانياته اللاتمامية على المذهب الآلي وخلص، كما خلص لوكاس أيضًا، إلى أنّ المذهب الالي هو مذهب خاطىء. لكنّ حجة غودل التي نشرها وانغ للمرة الأولى عام 1974 (وانغ 1974: 324-6) تختلف بعض الشيء عن حجة لوكاس. رغم أنّ هذا الأخير كان أول من طورها بالتفصيل ودافع عنها كتابًة. لذا، يبدو لي من العادل الإشارة إليه بإسمه. كان هنالك العديد من الردود منذ أن نشرها لوكاس عام 1961، الذي رد بدوره عليها. سأناقش بعض هذه التبادلات فما يلي. يقدم لوكاس عرضًا إضافيًا لحجته مع بعض إجابته على الاعتراضات (1970: 72-124). تترتبط الحجة هنا بمسألة الحتمية على وجه التحديد.
6. يعير بنروز عن آرائه في كتابه الصادر سنة 1989 والذي أثار نقاشًا في المجلد 13 لدورية العلوم السلوكية والدماغية الصادر سنة 1990، لكن بنروزوضح آراءه في رده على منتقديه بشكل مطور وموسع في كتابه الصادر عام 1994.
7. يفتقر هذا الحكم إلى الدقة بعض الشيء، فرغم الشبه الكبير القائم بين حجة بنروز وحجة لوكاس إلّا أنهما مختلفتين في بعض النواحي. كتب بنروز:» يبدو أنّ عددًا قليلًا فقط من منتقديّ لاحظوا أنّ حجتي مغايرة لحجة لوكاس(1961)» (بنروز وآخرون 1990:693). سأصف في القسم التالي(6.4) تعديلات بنروز في حجة.
8. أعتقد أن التمييز بين الأنساق الساكنة والأنساق الديناميكية هو التمييز عينه الذي قام به تشيلوتشي سنة 1993 بين الأنساق المغلقة والأنساق المفتوحة. يخصّ تشيلوتشي الأنساق المغلقة بتلك التي « تُعطى قواعدها مرةً واحدة فقط والتي تسمح لنا بالتعامل مع معرفة لا تتبدل مع الزمن دون سواها»، في حين تكون الأنساق المفتوحة تلك التي «يمكن أنّ تتبدل قواعدها في أي مرحلة وتسمح لنا بالتعامل مع معرفة تتبدل مع الزمن» (1993:206). لقد حلل شيهارا(1972) أيضًا دلالة المعرفة التي تتبدل مع الزمن.
9. لقد تجاهلت هنا الصعوبة المتأتية من مسألة أنّه يتم بإستمرار كتابة معلومة جديدة على شريط آلة تيورينج تقابل سيلًا من المعلومات الحاسوسية. إذ يقع هذا التبسيط في صالح الحجة فأخذ هذه الصعوبة بالحسبان سيقوي قضيتي العامة.
10. من الواضح أنّ أرثر كلارك وستانلي كيوبريك كانا قد إستشارا بعض خبراء الذكاء الإصطناعي الطليعيين آنذاك، لاسيما مارفن منسكي، في الصفات التي ستسند إلى هال، الحاسوب الخيالي. تجدر الإشارة إلى أنّ هال سيكون بالتأكيد قادرًا على تخطي اختبار تيورينج، وكان من المفترض وجوده في العام 2001، أي بعد مرور خمسين سنة بالتحديد على بحث تيورينج الصادر سنة 1950. يجب أن نتذكر أنّ تيورينج زعم في بحثه أنّ خمسين عامًا ستكون كافية لخلق حاسوب قادر على أداء لعبة الإحتزاء. بالطبع، أنّ الفيلم هو في المقام الأول عمل خيالي مبدع ويحتوي على العديد من السخرية المخبئة. كما يتصرف البشر في الفيلم بصورة ميكانيكية تكاد أن تكون روبوتية، في حين أنّ السمة البشرية الحقيقة الوحيدة هي بالطبع للحاسوب هال المغرور والمنفعل والعصابي و ما إلى ذلك.
11. استخدمت هنا «العلاقات الإجتماعية» بمعناها الموسع نوعًا ما لكي لا تشمل فقط العلاقات فيما بين البشر وإنما العلاقات بين الكائنات البشرية ومصنوعاتها أيضًا التي هي الحواسيب في هذه الحالة.
دونالد غيليز
ولد دونالد أغنوس غيليز في 4 مايو سنة 1944. دخل جامعة كامبريدج في عام 1962 حيث درس الرياضيّات والفلسفة. تخرّج منها سنة 1966 لينتقل إلى قسم كارل بوبر في مدرسة لندن للاقتصاد، حيث أتمّ أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه سنة 1970 بعنوان «أسُس الاحتمال» تحت إشراف إمري لاكاتوس. كان باحثًا في كليّة كينغ وجامعة كامبيريدج بين عامي 1968 وَ 1971. أصبح عضوًا في جامعة لندن سنة 1971 وعضوًا في كليّة كنغ في لندن من 1985 حتى سنة 2004، ومن ثَمّ عضوًا في جامعة كليّة لندن. كان محرّرًا للدوريّة البريطانيّة لفلسفة العلوم (1982-1985)، ثم رئيسًا للجمعيّة البريطانيّة لفلسفة العلوم (2001-2003). تمحورت أبحاثه حول فلسفة العلوم بشكل عام، والمنطق وأسس الاحتمال وفلسفة الرياضيّات بشكل خاصّ. عمل على هذه المواضيع في الفترة الممتدّة من 1985 حتى 2000، ولا سيّما من خلال ارتباطها بالتطوّرات الحاصلة في الذكاء الاصطناعي. له 6 مؤلّفات وأكثر من 40 مقال نشرها في دوريّات علميّة. من مؤلّفاته «فلسفة العلم في القرن العشرين 1995» و «نظريّات الاحتمال الفلسفيّة 2000»، تمّ ترجمة بعضها إلى الإيطاليّة والفارسيّة واليابانيّة والصينيّة. تتمحور أبحاثه منذ العام 2000 حول تطبيق فلسفة العلوم على الطبّ.
_________
*مجلة نزوى