فينيق من رماد الصفصاف


*خيري منصور

انه فينيق من سُلالة اخرى، لا يُحلّق عاليا لأنه يحرس بيضه الذي ينتظر التفقيس، في التاريخ وليس في شعاب الجغرافيا، وحين يحترق الورق، وبمعنى أدق يجري احراقه لأنه لا ينتحر تكون لرماده رائحة لا يحزرها الا أنف مدرّب، بل أنف مثقّف يفرق بين رماد الهشيم ورماد الصفصاف، وقد يبدو هذا مجازا، ينأى بنا عن دلالة العنوان لكن كل مكتوب او مدوّن لا بد ان يكون له مرسل اليه، وفي غياب سُعاة البريد تتولى الريح بما يُثقلها من غبار اللّقاح مهمة الايصال، وما احرق من كتب ابن رشد مثلا تخلّق من رماده فينيق مشرقي المولد، ومسقط الرأي لكنه غربي النشأة والرعاية والتجليات، هذا اذا سلّمنا بأن الرّشدية هي مُرادف العقلانية، فالأفكار لا تورث كالارض او المتاع، لكنها تعثر على من يتبناها وبالتالي ينسبها الى سلالتها، وحين بكى صقر قريش عندما شاهد نخلة غريبة مثله في الاندلس لم يهجع تحت ظلّها بل استولد من سعفها غابة نخيل، فكانت غرناطة، وان كان الحفيد قد بدّد التركة وأدبرت خيوله وهو يسلم المفاتيح فيما تعيّره امه الحوراء بما أضاع ولا ترى غضاضة في أن يبكي حتى يبلل الدمع شاربيه !

في موروثنا المعرفي ثمة رماد بشري او فحم بشري ورماد ورق، ولو استعرنا من الفيزياء شعريتها الصامتة، لقلنا ان الفحم البشري ايضا تجوهر وتحول بعد عذابات ومكابدات استمرت قرونا الى ماس.
لقد قرأنا كثيرا عن رماد الورق، ولم تكن الاسكندرية الا نموذجا تحوّل بمرور الوقت الى أمثولة، وقرأنا ايضا عن غرق الكتب، بدءا من مخطوطات بغداد العباسية في القرن السابع الهجري على يد هولاكو … حتى كتب الرواد من الشام التي القيت في الآبار كما حدث لكتب عمر الفاخوري خشية من ملاحقة عسس التتريك، وقرأنا ايضا عن مكتبات تحولت الى نيران لتسخين الماء واخرى اصبحت كعوبا لبساطير الجنود، فالكتاب القادم من الغابة كان خشبا قدره ان لا يكون كعب بندقية اوهراوة، تماما كما هو قدر الناي الذي تنشج في جوفه حقول القصب، سواء في اهوار العراق او أية اهراء عربية اخرى، لكن الاستثناء من هذا الرماد هو ما اقدم عليه المؤلفون انفسهم، عندما قرروا احراق مخطوطاتهم وكتبهم لأسباب مُتباينة، منها مثلا ما دفع ابا حيان التوحيدي الى هذا الانتحار الذي ينوب فيه العقل عن الجسد، ومنها ما اقدم عليه سفيان الثوري الذي قال :
(ليت يدي قُطعت من ها هُنا بل من ها هنا ولم اكتب حرفا)
فيما مضى كان كتاب ضخم تبلغ تكلفة طباعة نسخة واحدة منه قطيع عجول، لهذا سمي المجلد، لكن في عصرنا اصبحت صناعة الكتاب أيسر من صناعة الصابون لكن الورق الآخر الذي يستخدم لأردأ الأغراض اصبح منافسا للورق المؤتمن على الروح والرسالة .
‘ ‘ ‘
للورق رائحة ترشح من الكلمات وليس من الورقة العذراء ذاتها، وحين نشم ورق كتاب قديم طبع قبل قرن نتذكر على الفور ما تفرزه الجرار والانية المشروخة في المتاحف من رائحة الزمان، لهذا فإن الكتاب كما نعرفه ونشم رائحته لن ينقرض كمهنة النسّاج او شاحذ السكاكين الا اذا انقرض الكاتب نفسه، وهذا ليس رهانا رومانسيا او نوستالجيا بقدر ما هو احساس واعتقاد ايضا، فالبيانو والناي لن يتحولا الى اشجان تكنولوجية تفرزها الشاشات، وحين حاول اليابانيون ذلك تراجعوا، لخلو اللحن من الخطأ البشري الحميم .
في الماضي كان لا بد من هولاكو او طاغية جائر لحرق الكتب، لكن حقبة ما بعد الحداثة العربية بكل ما تعج به من مفارقات قلبت المعادلة، فأصبح المرسل اليه هو من يحرق الرسالة، وما جرى في الاندفاعات العشوائية في اكثر من عاصمة عربية قدم نماذج بانتظار من يفككونها لكشف مساحة المكبوت المتفاقم وتحوله الى انتحار عقلي، فًمًن دخل الى المتحف ومركز الدراسات هذه المرة ليس فيلا حطّم الخزف، بل هم بشر ولدوا في نهايات الألفية الثانية، وهم ضحايا تجهيل مُبرمَج وأميّة شاملة تعهّدت بصناعتها نظم اشبه بالمومياوات ما ان تتعرض للهواء الطلق حتى تصبح هباء وتتلاشى، واذا كان للناس قيامة لا يعرفون موعدها فإن للكتب الغريقة او المحترقة ‘قَيمومَة’ لا يتعذّر على من بلغوا رشدهم التاريخي تحديد موعدها ولو بشكل تقريبي، فما جرى حتى الان يُنبىء بأن ثمة زلزالا وشيكا قد يعيد رسم التضاريس كلّها فلا يبقى الجبل جبلا ولا القاع قاعا، اما الدولة فطوبى للغة خالدة اشتقتها من مفهوم الزوال، على طريقة ما قاله الشاعر ابو البقاء الرندي وهو :
(هي الايام كما شاهدتها دول ….)
‘ ‘ ‘
كان لا بد لليمونة ان تنغرز فيها السكين كي تفوح منها كل هذه الرائحة الخضراء الحامضة وكان لا بد للسفينة المثقوبة تحت مقاعدها ان تغرق وترتطم بالقاع كي تطفو ! تلك جدلية الغياب والحضور والخفاء والتجلي واخيرا المهد واللحد .
ما أحرق من كتب يمكن اعادة طبعه ونشره باستثناء مخطوطات نادرة يرشح دم من كتبوها من حٍبرها، لكن المسألة أبعد من ذلك، فالكتب ليست جوازات سفر او عقود ايجار او قران بحيث يصدر في حال احتراقها ما يسمى بدل فاقد، ان رمادها هو الشاهد الصّدوق على الفاعل، بكل ما يملأ رأسه ودمه من جاهليات، انه كالمعتوه الذي رفض ان يضيء له جيرانه بيته المظلم وكسر المصباح كي لا تستدل عليه الحشرات والفئران، ناسيا ان رائحته هي ما يجتذب هذه الكائنات الى فمه قبل اطرافه .
لقد مارس الرقباء ذبح الكتب وحرقها واغراقها لكن بأدوات اخرى، يشهد على ذلك التوأمان اللدودان جدانوف وغوبلز، فأحدهما مخلب نازي والاخر ستاليني لكنهما يلتقيان على الفريسة ذاتها كما تفعل الضّباع .
فمن هو الرقيب الذي ينوب عن هؤلاء الآن؟ وفي زمن التواصل العابر لكل حدود او أسوار؟ هل هو المرسل اليه الذي حوّل الجهل كما الفقر الى مطلب قومي؟ أم ما يسمى الطرف الثالث، على طريقة ذلك الذي فعل كل ما يريد وهو غير مرئي لأنه ارتدى طاقية الاخفاء ..؟
هي مجرد اسئلة قد لا تصل حدّ المساءلات لأن الأفعال كلها تنسب الى مجهول بل تُبنى للمجهول في ثقافة يسطو فيها ضمير الغائب على كل الضمائر .
ان ما جرى قديما وحديثا للورق الذي احرق وتخلّق منه فينيق باض في الرماد بانتظار ان يفقس البيض ذات ثقافة مضادة لهذا التجهيل بانتظار من يصدر ملحقا عربيا لرواية برادبري 451 فهرنهايت شرط ان لا يُطلب منا ان نهرع الى البراري والغابات كي نحفظ الكتب عن ظهر قلب لأن التجول يومئذ سيكون ممنوعا.
ما ارجوه بعد كل هذا ان لا يسخر مني الذين يرون للورق وظائف اخرى تماما كما سخر مني ذات حرب اهلية احدهم لأنني اضفت الى ضحايا لبنان في الحرب الانتحارية الأورغ الرحباني الذي تحوّل الى رماد فتخلّق منه فينيق يلوح في كل أفق وغسق!
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة!

(ثقافات) الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة! ساسي جبيل   يقول الكاتب الأميركيّ ريتشارد لوف: «بوسع طفل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *