*توفيق الشيخ حسين
( ثقافات )
يعيش الحزن ويمضي في دروب الغربة .. وينسج مع الليل خيوطا ً ضاعت بين أكوام الضباب .. يتعثر في دربه المغبـّر الحزين .. ولا يجني غير عذاب الجرح .. هل نسمع نشيج الأطفال الذين سـُرقت ْ طفولتهم ؟ في مساكن ٍ محطمة ٍ لم يعد يذكرها أحد .. يعيشون رغم قسوة الزمان في بحار مجهولة تمضي باتجاه الليل مع خفقة الريح الى مصير ٍ من النسيان … من أجل التذكير بكل هذا يصدر الروائي والشاعر والناقد محمد الأسعد آخر رواياته ” أم الزينات تحت ظلال الخروب” بهذه السطور الشعرية للشاعر الفلسطيني”خالد علي مصطفى”:
دارت بنا في النفـي دار ُ
شردت ْ مع الأفلاك ِ يكشفها
ويحجبها الغبار ُ
شجر ٌ هنا
حجر ٌ هناك
ونحن حول الدار أولاد ٌ صغار ُ
يتعثــّرون بحبهم
ويلاحقون فراشة ً
في الروح أثملها الدوار ُ
في الصبح يرتجفون من
برد ٍ وفي الظلماء ِ يحضنهم اسار ُ
أرأيت ِ أيتها الحبيبة ُ كيف ينخطف ُ النهار ُ ؟
ويجعل مفتاح روايته هذه السطور؛ تتحدث الجدة الى حفيدتها ” أناهيد ” بكل شفافية عن ذلك الزمن الذي سـُحب من تحت قدميها .. عن ذلك اليوم الأسود الذي تم فيه اغتصاب العالم كله، العالم الذي وجدت نفسها فيه تطرد خارج الوجود .. وعن أدخنة اللهب التي التهمت قريتها ” قرية أم الزينات ” لترمز الى علامة اليوم الأسود الى الأبد.
عن عتمة ذلك الليل وعلى أصوات الرصاص التي ر ّجت السماء، الليل الذي وقع فيه العالم كله فريسة للضباع .. الليل الذي كان فيه صراخ الأطفال العطاش يـُطفأ بقطرات الندى الى ان وجدت نفسها تنام تحت أشجار اللوز في “جنين” وغطاؤها السماء وحدها.
نصف قرن حـُكم عليها بالنفي تحت شمس الصحراء الشرقية القاسية مع أطفالها الذي ما أن فتحوا عيونهم حتى وجدوا أنفسهم في أرض ٍ تمتد رمالها بلا نهاية.
نصف قرن عاشت بعيدة عن وطنها فلسطين وعن قريتها ” أم الزينات ” التي دمرها اليهود ولم يبق فيها إلا بضعة ُ أحجار ٍ وخضرة داكنة طالعة بينها وتحتها وفوقها، وظلال أشجار الخروب تحف ّ بهذه البقعة الصغيرة تحت شمس أوائل النهار .. دمروا حتى مقبرتها مكان الراحة الأخيرة للأموات والاجداد …وتوفيت الجدة، الراوية، في بيت صغير من بيوت البصرة القديمة وسجـّى جثمانها في نومتها الأخيرة في مكان ما تحت صحراء الشمس الشرقية القاسية.
هذه الراوية، الأم، توفيت قبل أن تعرف أنها دخلت الحكاية أو صارت حكاية كما كانت تتمنى. وقرأ الآف الناس كلماتها في رواية الكاتب الأولى “أطفال الندى”، وعرفوا ملامحها وأسماء الأماكن التي شهدت طفولتها وصباها، وشاهدوها بين الصيافير تحد ّث نفسها أو تصغي للنسيم العابر بين أشجار الزيتون. وتجيء هذه الرواية الأخيرة كإعادة قراءة لعالم “أطفال الندى”، وللقراء الذين تداولوها، فتنبعث الشخصيات نفسها مجددا، وتدخل الحكاية شخصيات جديدة قرأت “أطفال الندى”، وتداولت اسم أم الزينات، بل وقام بعضهم بزيارتها كما حدث مع الفرنسية “فرانسواز جيرمين وزوجها “لوك”. وسارع بعضهم إلى السؤال عن “يسرى”، الشخصية الرئيسية، وأين تعيش الآن كما فعلت الباحثة ” هيلين ولاسك”.
حين تبدأ الحكاية، أي حكاية، تفتح أبوابها ولن تغلقها أبداً..فهاهنا حيث يعود الكاتب، ظلال تحيط ببقعة صغيرة في الوادي المألوف منذ الطفولة. هنا لم يعد العالم متناهيا ً ولا أصبحت الحكاية مجرد أوراق تبدأ بقدر ٍ مجهول وتنتهي بقدر ٍ معلوم .. إنها حكاية يدخلها الناس، يخرجون، ولكنهم يعودون اليها في نهاية لا تنتهي .. حتى وأن خرج منها أصحابها، تظل تـتردد في أرجائها الريح وظلال الشجر وأصوات العصافير، وتتسلق سناسلها أزهار الخبيزة والخرفيش. صورة أحجار البيت المتناثرة منذ خمسين سنة يغمرها العشب هنا أو هناك وتظللها أشجار الخروب ..وتتلبث في زواياها أصوات الصمت ولا تمنحها الصباحات الغائمة سوى الدموع.
يروي الكاتب أنه مع كل محاولات الصهاينة إخفاء معالم قرية ” أم الزينات ” عن الوجود الا انها تحمل من التأريخ النضالي ومن ذاكرة الأبناء ما لا يمكن محوه مهما طال الزمن. بدأ الصهاينة بمحو المشهد وإطلاق أسماءٍ على كل ما يصادفون، على الوديان والجبال والتلال والقرى والينابيع، وحين لم تسعفهم محفوظاتهم أمام بعض الأسماء المستعصية أدخلوا تحريفاً على أصوات الأمكنة فصارت عين حوض أين هود، وطلحة تل ّ حي، والقدس أورشليم، وصارت قرية الصفصاف سفسوفا، والمجدل أشكلون.
هؤلاء المولودون من لغةٍ بلا مكان يكرهون الأمكنة ولا يستطيعون أن يجدوا لهم مكاناً إلا في الألفاظ، في اغتصاب وانتحال السهول والوديان، بل وحتى معصرة الزيتون الفلسطينية وحجر الرحى والثوب الذي طرّزته أمهاتنا بعروق الشجر والأعناب وأوراق الأزهار …
” الذاكرة ليست مجرد ان نستعيد مشاهد من الماضي، ساكنة ً كأنها منتزعة من شريط صامت، بل أن نحيا المشاهد بامتلاء يماثل أمتلاء وجودنا، إنها متحركة دائماً، وعلينا أن نستيقظ من غفوة طويلة .. نحن لسنا هذا الحاضر فقط، ولا هذا القادم الذي نتخيله، نحن الماضي والحاضر وما نتخيل في هذه اللحظة الراهنة ” …
“يسرى” فلاحة فلسطينية تلوح عليها أمارات الطول، بشنتيان تتسلقه الفراشات، تحتضن طفلها بشغف واضح، وإلى جوارها على مقعد مجاور امرأة على مقعد منخفض ضئيلة بشعرها الجعد وملابسها الأوربية، تنظر اليها والى طفلها .. وتحت هذه الصورة سطور تقول:
” دوروثي غرود مع يسرى، إحدى النساء اللواتي نقبـن في كهوف الكرمل في العام 1934″ …
قصة يسرى والنساء الفلسطينيات مع دوروثي غرود حدث فريد في تاريخ علم الآثار .. الفلاحات الفلسطينيات اللواتي قادتهن بين كهوف الجبل ونفذت الجزء المهم من الحفريات بأكمله ..
ويروي الأسعد:
” في البداية حين كتبتُ رواية “أطفال الندى”، لم يكن ليسرى وطفلها وجود، وكانت غرود ظلا ً كما كانت في ذاكرة الثقافة الغربية حتى وقت قريب أيضا. وظل غائماًً في ذهني مشهد الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في مغارة يعبثون بعظام لا يدرون ما هي، ويتطلعون الى جدران عليها آثار كشط وحك، وفجأة تغير كل شيئ كأنما سقط ضوء على المشهد كله، على الأطفال وعالمة الآثار وهذه المغارة والأسم المألوف : يسرى ” …
قصة تستحق ان تروى لأنها كانت شخصية متميزة ودخلت ربما مصادفة في صفحات علم الآثار البريطاني …
” الحكاية موجودة ولكن علينا أن نجد طريقنا اليها ” …
تبقى الأصالة وذكريات تعيدنا الى الوراء مع الحكايات الشعبية الفلسطينية والتي تعتبر من أبرز معالم التراث الفلسطيني ..
” جبينة خارج الزمن، أي خارج الذبول والموت، نسيت ْ أن تكبر، ونسينا أيضاً، فالأطفال مثلما الأوطان لا يكبرون في القصص، وما زلت أراها تتحرك في أول حلم أبدي منحته أمي لنا نحن الصغار المتجمعين حولها ” …
جبينة فتاة جميلة شديدة البياض عاشت في قرية من قرانا الغارقة في الزمن .. قد تكون من قرى الجليل أو بيسان أو يافا طلبها أبن الأمير للزواج ..
جميلة القرية سترحل الى بلد آخر، ستغيب وربما تغيب معها أشياء مثل شجر الزعرور البري أو اليمام الذي اعتاد الهديل على حافة السناسل، فحين يفترق الناس ينفصل جزء من الذاكرة ويذهب معهم حتى صفاء أمسيات عزيزة أو نهارات لا نعرف لماذا أصبحت خالية فجأة.. من يدري؟ ..
جهزتها أمها وأعطتها خرزة زرقاء لتدافع عنها وتحميها .. الراوية لم تكن تروي حكايتها فقط بل تتقمص شخصيات حكايتها، ويشاركها الصغار فتهيمن عليهم المشاعر المتضاربة، فمرة تأخذ بألبابهم بهجة المشاهد إن كانت مما يفرح القلب، أو تصيبهم بالفزع مفازاتها الشاسعة أن كانت مما يقذف في مجاهلها ..
حكايات يتم فيها عرض صورة علمية وموضوعية للثقافة العربية النابعة من أرض فلسطين ومن تراثها الإنساني الذي تضرب جذوره في عروق التاريخ. …
قرية أم الزينات وكل قرى الفلسطينيين بقايا بيوت لأناس غابوا أو غُيبوا، لم يرو أحد قصتهم، ولم يعد من دليل الى غيابهم سوى هذا الصـّبار المتكاثف، وهذه الوجوه المنتظرة التي يصادفها على جوانب الطرقات .. ذاكرة .. أطفال محمولون على الأكتاف ليلا ً في وعر لا نهاية له .. جماعات لاجئين تتهامس في أماكن مجهولة، تتحدث عن أيام البلاد، عن اليهود، ولكن بلا كراهية …
” لم أعد أعرف لي مكانا ً محددا ً منذ انتقلتُ الى حكايات أمي، فارسلتني الى الوعر الذي لا تنساه، ووضعتني على حافة فجر غائم، تتساقط على ّ قطرات الندى، وتتجاذبني هواجس الحكايات. ربما تحولنا الى حكايات، أو ربما ما زلنا نسير اليها.. من يدري؟” …
يبقى الألم والوجع والجرح يبقى .. لم نتحول الى هنود حمر بعد، لم يستكملوا ابادتنا بعد، ما زلنا نعيش .. لماذا تنكر علينا أن نتذكر حتى آلامنا .. لاجئون سـُرقت أرضهم ينتشرون على الخريطة على مشارف حيفا والناصرة والقدس وجنين ونابلس وغزة، وفي الشتات على بعد أميال من زيتون بلادهم .. ومستعمرات تقام وجدار يتلوى وينهب المزيد من الأرض .. وجيش مستعمرين يقتحم مخيماتنا بدباباته .. نحن موجودون، اذن لنا الحق ان نتذكر ونغني أغنيتنا، ونقص حكايتنا تحت ظلال الأشجار وعلى منعطفات الطرق وفي أي مكان نصل اليه …
واخيرا ً يضيف الأسعد، مخاطبا جموع أهالي أم الزينات وهم يعودون إلى أنقاض قريتهم:
” نحن نحيا مجدداً، لأن أم الزينات بعد ثمانية وخمسين عاماً ما زالت تستيقظ فينا نحن الأبناء وتواصل حياتها في أولادنا وأحفادنا، واسألوا أصوات الصمت التي تبقى وحدها بعد أن تغيب كل الأصوات تتردد بين قرانا المدمرة والسناسل التي عرّش عليها الصبر والسرّيس، اسألوا النسيم الذي نذكره يسري بين أشجار الزيتون كلما أخذت الملائكة لاجئاً الى أعلى عليين .. أنتم في حضرة فلسطين التي لا تموت، الواقع والأسطورة، وكيف يموت وطن ٌ يعيش في النبض ويسري في الروح ؟ نحن أبناء هذه الأرض نعيش فيها وتعيش فينا، كان لنا الماضي وسيكون لنا المستقبل أيضاً رغم هذه الهوة السوداء في الحاضر بين ماضينا ومستقبلنا” …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*محمد الأسعد، أم الزينات تحت ظلال الخروب، سلسلة الأعمال الكاملة، المجلد الثالث، الناشر جمعية البيت للثقافة والفنون (منشورات البيت)، الجزائر، 2009