*عواد ناصر
كتبت العمود الثقافي منذ زمن بعيد، في صحف عدة، عربية وعراقية، ولأنني عراقي فأنا مبتلى بمحنة مزمنة، مركّبة، مربكة: تعاطي الثقافة في بلد مفخخ من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، إلى الحد الذي أشعر به بأني أطيّر كلماتي في الريح.
أشعر، دائماً، بأن الكتابة الثقافية، نصاً، مقالاً، عموداً، ترفٌ ما بعده من ترفٍ في بلد يسبح بالدم وتجول في شوارعه المفخخات ويكافح الناس فيه من أجل سلامتهم الشخصية، إلى الحد الذي توصلت فيه إلى أن العراقي بطل لا يحتاج إلى مأثرة خارقة ليكون بطلاً، يكفيه أنه ما زال على قيد الحياة بعد كل ما جرى، يجري، سيجري.
كثيراً ما شعرت بالخجل لأن ضحايا الإرهاب والفساد وفشل الدولة برمتها، في بلدي، بالمئات والآلاف، بينما أكتب لقراء نوعيين أكاد أعرفهم وإن لم أعرفهم.
كيف لي، كاتباً، أن أبحث في الصورة الشعرية لقصيدة، أو طبيعة السرد في رواية، أو الرمز الملون في لوحة تشكيلية، بينما صور البلد قاتمة، كئيبة، أمية، فقيرة، لا تشبه أي بلد آخر، حتى موريتانيا أو الصومال.
كاتب العمودي الثقافي، مثلي، شخص عاشق من طرف واحد، يكتب رسائل غرامية لحبيبة غير موجودة، يتخيلها مثلما يتخيل شاعر عالماً افتراضياً عماده الخيال لموازنة الواقع، كما قال أرنست فيشر في كتابه (ضرورة الفن).
من الصعب أن ندعي، نحن الكتاب، الصدق مهما حاولنا الاقتراب من اليومي بالثقافي، وهي مهمة شاقة تستدعي الكثير من الكذب… حتى الفني.
أتوارى خلف نفسي خجلاً وأنا أرى دماء أهلي في الشوارع أرخص حتى من باقة فجل وعباءة عمتي ملطخة بالدم في سوق الخضار وحقيبة ابن جارنا المدرسية محترقة عند باب المدرسة.
أي ثقافة عراقية مقررها زيتونيٌّ يلمّع أحذية السلطة الزيتونية؟
أي ثقافة في بلد يقوده حاكم متعهد موكب حسيني؟
أي ثقافة في بلد بلا غناء ولا مغنيات ولا أنثى تتجرأ على إعلان أنوثتها حتى من خلف الحجاب؟
ثقافة بلا مسارح ولا دور سينما ولا مكتبات عامة ولا حتى تلفزيون!
هل لعنة النفط التي حلت بالبلد جعلته عرضة لانتهاكات العالم؟
بلدان مجاورة تغرق بالنفط لكن مواطنيها يفخرون بانتمائهم إليها وهم في بحبوحة من العيش والحرية والسلام.
حتى شارع المتنبي، شباكنا الوحيد المفتوح على كلمات العالم، يقبع قلقاً بعد أن أحرقه الإرهابيون لأن الكتب تولّد الخطر كما كتب راي برادبري:
“غاي مونتاغ إطفائي. وظيفته حرق الكتب الممنوعة أصلاً، كون الحكّام يعدونها مصدر كل شرّ وفاجعة. مع هذا مونتاغ تعيس. يتأثّر بجارته كلاريس فيبدأ بسرقة الكتب المفترض به حرقها. عندما تكتشف جريمته، يؤمر بحرق منزله. بعد ذلك، يلجأ مونتاغ إلى الريف حيث يلتقي مجموعة من الهاربين، كل واحد منهم قد حفظ عن ظهر قلب عدداً من الكتب إلى حين يصبح المجتمع جاهزاً لإعادة اكتشافها”.
لكنني أصارحكم القول: سأكتب في الثقافة والفن والكتب وكل ما تعده دولتنا في باب الفحش والزندقة واللاضرورة و(كلام مثقفين) لأنني مؤمن بأن كلمة صادقة هي بمثابة شمعة صغيرة ستنير مساحة ما حتى لو كانت بمقدار سنتيمترات رغم يأسي الذي قبسته من الشاعر البريطاني أودن عندما قال: لم نفلح بدفع جدار الليل ولو بوصتين!
كثيرون يحفظون عن ظهر قلب كتباً يذخرونها لعراق المستقبل.
سأكتب في الثقافة والفن حتى لو كان هناك قارئ عنيد واحد فقط لكاتب عنيد واحد فقط!
________
*المدى