بديل المقدّمة..(عائدا في الطّريق إليّ)


أشرف القرقني *

( ثقافات ) 

يؤلمني هذا الجناسُ الواضحُ بيني و حصاةٍ مهملةٍ في الطّريق إلى القيامة.
لم أحتجْ أدواتِ النّقد و البلاغة كي ألْحظَ هذا الجناسَ.و لم أفكّر أن أرصفَه في موضعه على رفوف الكلام المستقيمة …
كانت تلتمعُ على جلد الحصاة أنصافُ نظراتٍ مبلّلة،رمى بها إليها رجال عابرون على الطّريق فرادى،
لا يصحبهم سوى شوقِ الوصول إلى اللاّوصول،حيث نصف التفاتةٍ حزينةٍ تكفي لترشحَ نصف نظرة مبلّلة على الحصاة التي تتشرّبها بصبر من يصيخ إلى أغنية العدم …
أن تبلّلَ حصاةً مهملةً بنصف نظرةٍ،ذلك يعني أن تتركَ زوايا بصيرتكَ منفرجةً أو منبسطةً، كما تقول الهندسةُ أي مفتوحةً على المطلق كما تقول القصيدةُ…
العدمُ هو الوجه النّاقصُ الآخر للوجود.لهذا فإنّ الإصغاءَ إلى أغنية العدم،هو إكمال النّقصان بما يليقُ بكليهما..
أنقصُ الحصاةَ بما أحفرهُ على سطحها من وشوشاتٍ،لتصبحَ أشبه بمحّارة قديمة خانها البحرُ، إذ تراجع إلى الوراء تاركا إيّاها تجابهُ العزلةَ بمفردها …
أضعُ الحصاةَ-المحّارةَ على أذني .. ذئابُ الرّياح البحريّة تعوي داخل رأسي و يدٌ هلاميّةٌ محتجبةٌ تتشرّبني عبر إسفنجةِ الهواءِ الخفيف…………………………………………
هذه اليدُ تلفظني في بحرٍ لا قرارَ له و لا يابسةَ .. بحرٌ بمخلوقاتٍ عجيبةٍ،ربّما كانت ظلالاً لأحلامٍ نسيتُها على رفوف موتٍ مؤجَّل.
أمضي على سطح المياه،لا شوق لي إلى الأعماق و لا حاجةَ.يكفي أن أكون خفيفا مثل عشبةٍ هاربة من القاع لتتجمّلَ بألونِ الضّوءِ و العزلةِ.في القاع،يهتزُّ صوتٌ يبلغُ صَدَفَةَ سمعي،أنا المأخوذ بجوع الهواء البحريّ إلى اليابسة …
مخلوقاتٌ موغلةٌ في القدمِ و يسْعدُها ذلك،و مخلوقاتٌ قديمةٌ و يحزنُها ذلك،و مخلوقاتٌ جديدةٌ و لاشيء غير العواءْ ..
العواءُ حركةٌ،ذبذباتٌ يقشعرُّ لها جسدُ الهواء.
و مع ذلك،مازال الهواء يحملني ثابتا ما بين سطح و سماء إلى حيثُ أمضي أو إلى حيث يمضي بي .. أنا، القديم المحدث أو المحدث المحدث …
لا أدري إن كانت تلك لعنة أصابتني أم تفضيلا على من سوايَ. و لا أدري إن كان من الصّدفة توافق ذلك مع صيغة التّفضيل في إسمي .. تؤرّقني تلك،فأخمّنُ : أفضل ممّن أنتَ؟
– من نفسي ربّما.هي خصمي الوحيدُ.لا أفكّرُ إلاّ في هزيمتها. 
غالبا ما أفاوضها على حصّتي في الحلم و العزلة.و أحيانا أسابقها في الدّروب التي اجترحتْها من لغتي. فتهزمنا الكنايةُ سويًّا،أو أخرج من نفسي منتصرًا على نفسي.. انتصارا مؤقّتا لا يكفي لنظرة أبلّل بها مشهدًا خارجيًّا حتّى تأخذَني ارتدادةٌ أبعدُ في جوّةِ نفسي…
كأنّها هذا البحرُ .. كأنّ هذا البحرَ هو الاستعارةُ التي تليق بها …
تهدّدني بالسّعادة التي تمكثُ في محّارة أعماقها …
لا وقت لي لأهدّدها … لا وقت لي للسّعادة و مخلوقاتها العجيبة التي تمكث في الأعماق. 
و ربّما كانت رفوفا لأحلامٍ فقدت ظلالها إثر نزهة قصيرة في حديقة الموت.
لذلك أسلِّمُني دون نفسي ربّما إلى جسد الهواء الذي ينغِّمُني على الموج في رحلة، قد تفضي إلى اليَابِسَةِ،أو قد تفضي إلى اليَبَاسِ،أو قد تفضي إلى الأَعْمَاقِ. و قد تفضي و قد … قد لا تفضي إلى أيّ شيء و قد لا تكون رحلةً أصْلاً … :
مجرّدُ اهتزازاتٍ لنفسي على صهوةِ ظلٍّ ساقطٍ عن حلمٍ فيما أمكثُ أنا في مكاني،مجرّدَ نقطةٍ سوداءَ ثابتةٍ،لا تصلُ نجما بدائرةٍ و لا مستقيما بنصفِهِ أو حتّى تضيف بياضا إلى بياض الصّفحة …
.

مجرّدُ جناسٍ آخرَ لحصاةٍ مهملةٍ في بركةِ ضوءٍ
راكدٍ،تتنفّسُ موسيقى على مهلٍ

____
*شاعر من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *