إرنستو ساباتو…من الفيزياء إلى الأدب


وليد سليمان*

( ثقافات )

بصدور روايته الأولى، “النفق”، سنة 1948، استطاع الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو أن يجلب إليه الانتباه باعتباره واحد من الكتّاب الواعدين في أميركا اللاتينية، حيث نالت الرواية استحسان النقاد والقراء على السواء واستطاعت، في زمن وجيز، أن تتخطى بشهرتها بلد الكاتب، حيث لقيت الكثير من الاهتمام في أوروبا وباقي أنحاء العالم. وقد رأى عديد الكتاب الكبار، بمن فيهم ألبير كامو وغراهام غرين، في هذه الرواية، “تعبيرا روائيا لافتا عن مأساة الإنسان في المجتمع المعاصر”. 
كان ساباتو، المولود في العام 1911، قد قدم إلى عالم الأدب من مجال آخر شديد البعد والاختلاف، هو مجال الفيزياء، وتحديدا الفيزياء الذرية. ذلك أنه بعد سنوات من التدريس في الجامعة، والاشتغال كباحث في العلوم، قرّر أن يتفرّغ للأدب بداية من سنة 1945. ويعترف الكاتب بأن الحربين العالميتين والقنبلة الذرية وغيرها من المآسي التي عرفتها الإنسانية في النصف الأول من القرن العشرين، قد تركت فيه أثرا عميقا لا يمكن محوه، كما زرعت فيه الكثير من التشاؤم وعدم الثقة في الإنسان الذي يصفه بأنه ” الحيوان الأكثر شؤما من بين جميع المخلوقات”. وقد تجلّى ذلك بوضوح في جميع أعماله، وخاصة رواية “النفق” حيث يقول البطل خوان بابلو كاستيل: “كون العالم فظيعا، فهذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان”. 
لقد رسم ساباتو في أعماله صورة كابوسية لعالمنا الحديث الذي اعتبره مجرد “مجتمع مريض”، مشبّها البشر بآلات عمياء تسير بلا هدف. وفي آخر كتاب صدر له قبل وفاته بعنوان “المقاومة”، يلّخص الأديب الأرجنتيني مشكلة الإنسان المعاصر في عبارتين: “غياب الحوار” والبؤس الروحي”. ويشرح ذلك بقوله: “إن غياب الحوار يخنق أي تفاهم قد ينشأ بين البشر ويمكنهم من الانتصار على مخاوفهم والوصول إلى حرية أكبر. ولكن الأخطر في هذا المجتمع المريض، ليس فقط الاستغلال والفقر، وإنما البؤس الروحي الذي يرافقهما”.
ومع ذلك فان ساباتو، الذي قد يبدو متشائما لأول وهلة، يؤمن بالإنسان وبقدرته على التمرّد على شرطه الإنساني شريطة أن يتمسّك بالمقاومة. ويقول في هذا الصدد: “أعتقد أنه يجب أن نقاوم، لقد كان ذلك شعاري دائما”. وفي حوار أجرته معه الروائية الشيلية ايزابيل الليندي ونشر في مجلة “باولا”، يؤكد الكاتب على هذه الفكرة قائلا: “لا يمكن لأي رجل عاقل وشريف ومحترم أن يدعم الظلم بأي شكل من أشكاله. أنا أقف إلى جانب التغيير الاجتماعي. ولكني أريد العدالة الاجتماعية مع الحرية. ولا أريد أن تحل العبودية السياسية محل العبودية الاقتصادية. فكلّ العبوديات تثير اشمئزازي.” 
ورغم أن إرنستو ساباتو لم ينشر طيلة مسيرته سوى روايات ثلاث تشكل نوعا من الثلاثية هي: “النفق” (1948)، و”عن الأبطال والقبور” (1961)، و”أبادون المبيد” (1974)، إلا أن هذه الأعمال الروائية القليلة التي ترجمت إلى عديد اللغات، كانت كافية لتجعل منه واحدا من أشهر كتاب أمريكا اللاتينية وأحد أهم الروائيين وأكثرهم أصالة في القرن العشرين. وإذا أضفنا إلى القائمة سيرته الذاتية التي صدرت سنة 1998 تحت عنوان “ما قبل النهاية”، والدراسات الأدبية والنقدية العديدة التي نشرت له، فلن نبالغ إذا قلنا إنه يعتبر أحد أهم الكتاب الذين أنجبتهم الأرجنتين. ومع ذلك، فإن صاحب رواية “النفق” قد الكاتب في الحوار الذي أجرته معه ايزابيل الليندي: “أنا لست كاتبا محترفا وأكره الأدب والأدباء”، قبل أن يضيف: “كوني كاتب أمر لا يعجبني. كان بودي أن أكون عالم آثار أو عالم لغة، أو أن تكون لي ورشة ميكانيك صغيرة في حي غير معروف.”.
* كاتب ومترجم من تونس.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *